نص مسرحي: “حين تكون اللعنة ثقافية الملامح” / تاليف: علي حسين الخباز
مـونـودرامـا
(تسلط الإنارة على مساحة مكشوفة من المقبرة / وفجأة يبرز ظل جثة معلقة / وصوت صرخة عالية وبعض بكاء يتحول إلى أنين ثم صدى الأنين ينتشر في أرجاء القاعة / الشاعر يخرج من القبو هادئا يذرع المقبرة، ويسير بين المقابر)
الشاعر: يستطيع الإنسان أن يراوغ الألم (يتألم) وأن يرسم لنفسه مسارات خادعة لكي يعيش حتى ولو بنبض أعرج (يعرج). رغم أن ذروة النشاط اليومي قد زالت إلا أن الوظائف الأساسية التي تديم لي الحياة بقت تتواصل معي في المقبرة
(صوت منبه ساعة المقبرة يعلن بدقات لا تهجع لكنها تخفض جرسها)
(برهة من الصمت ينظر إلى جهة واحدة من الجمهور وكأنه يقصد شخصا معينا) كنت أسمع أنين المدينة حولي (أصوات أنين وصوت نعي حزين ويمكن أن تكون ترنيمة الدلول) أصوات تنذر بالتعاطف، والحقيقة (برهة صمت) الحقيقة أن لا أحدا فيهم سواي رأى جثة أبيه لحظة انتحاره، (برهة صمت يتفرس بالوجوه) رغم أنه كان ثريا جدا (تتغير نبرة الصوت وكانه يتحدث عن حلم، جانب القبر هناك مكتبة وعلى رفوفها بعض كتب قديمة، وشهادات تقديرية بالية وبعض الميداليات التي حصل عليها في حياته وهو يبحث عن كتاب) عشت تحت ظل أبي حياة رفاهية (يضع على صدره بدلة زي رسمي مدرسي، ويحمل حقيبة مدرسية) ثمة ذكريات تمر في حياة الإنسان تشكل بؤرة الرؤية الفكرية، حين تدرس في مدرسة داخلية في طفولتك (تتغير ملامح الشاعر فتصبح قاسية، خائف يرتجف من الذعر) وتجد مديرها قاسيا سيختلف الأمر معك، جعلني هذا المدير أنفر من القراءة المدرسية طوال حياتي. وأكره المدارس
(أصوات حركة الحياة خارج المقبرة منبهات سيارات صوت أطفال)
تضج الحياة خارج قبري بالصخب والحراك، ولهذا اخترت الصمت والانزواء لمدة أكثر من مئتي عام
(دقات ساعة المقبرة من جديد دون أن نضبط العد)
مدة طويلة على ما أعتقد، كنت فيها أبحث عمن يحتمل جنوني ويتقبل آدميتي المهدورة، واستطيع أن أنفض عنده أخطائي (يرفع يده ويشر إلى جهة من الجمهور ثم تتحرك نحو آخر وآخر) لا تسلني لمَ أنا بالتحديد دون غيري؟ انتحار الأب على شاب يبلغ سبعة عشر عاما كم يبدو قاسيا، فقدان الموت ليس كفقدان المنتحرين (برهة يتحرك من مكانه وكأنه يغادر مقبرة إلى مقبرة أخرى، يحمل معه أغراضه، تراب) الألم أكبر أن يسوق الإنسان إرادته بلا إذن من السماء. اكتشفت وأنا بهذا العمر أن الثراء لم يشفع لأبي لينجيه من البؤس ومن كوابيس الألم، وصل ذروة الألم فانتحر دون أن يحسب لنا حسابا (مع شخص لا على التعيين من الجمهور) رغم المسافة التي تفصلني عنك، الزمن.. المكان.. اللغة. . وربما الدين والكثير من السمات الأخرى، أردتك أن تعرف أن انتحار أبي جعلني أمام مشاكل أكبر
(مسير جنائزي صوت تكبير): البقاء لله العلي القدير:
فقدت جدتي عقلها حزنا على ابنها، ورحلت عن العالم دون عقل، عليك أن تعرف كل جوانب الألم لكي تعرف من أين يأتي الضياع، كنت على خلاف دائم مع أمي، تعلمت أن التحرر من قيود الفضيلة هلاك. خلافي معها جعلها تزداد تمردا، أمي أديبة مثقفة معروفة ولها صالون أدبي كبير يحضره كبار الأدباء ومنهم الروائي الكبير والشاعر القدير وبعض المترجمين وهي التي عجزت أن تحتوي ابنها الوحيد، ما أقساها حين تكون اللعنة بملامح ثقافية. (صوت ضحكة ماجنة) كرهت أمي.
(يزداد الضحك يختلط الصوت النسوي بصوت الرجال)
بل كرهت أن يقرن اسمي بامرأة طوال حياتي
(صوت ناي يعزف بحزن)
(مع شخص من الجمهور) ربما ستسأل لماذا أروي لك هذه التفاصيل الدقيقة من حياتي، وماذا سينفعك كل هذا الفشل، كل شيء في الحياة له معنى حتى الفشل،
(صوت لمنبه سيارة الإسعاف)
توقفت عن دراسة الطب وتوجهت إلى الفلسفة،
(تدق ساعة البرج معلنة استمرار الوقت)
هذا التوجه مشى بي إلى غايات استنزفت عقارب الساعة عندي، وأصبحت أعيش خارج إطار الزمان والمكان، وتجاوزت كل شيء يذكرني بأناي، درست أفلاطون والفارابي وعشقت أفكار كانط وأبن رشد وتأثرت بهما أرجوك احتملني وتحملني لنهاية حكايتي ستجد أمورا لا تعجبك فاجعلها ضريبة ضيافتك لي. حين تشكل المرأة ندبة كبيرة في حياة الرجل تجعله يبحث عن مفهوم الحرية بشكل يختلف عن مفهوم الحرية عندها والحقيقة مرة يا صاحبي / الإنسان حين يعمل على التحرر من الفضيلة يذهب إلى عمق عبودية الرغبة المحمومة،
(موسيقى صاخبة)
وأنا الآخر كررت نفس الخطأ توهمت التحرر من الدين شجاعة، ذهبت إلى عمق عبودية الذات.
(يتحول المشهد إلى جلسة ثقافية):
حصلت في سنة عديمة الشكل على درجة الدكتوراه تحت عنوان الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي. (يقلد صوت معقب) وماذا تقصد بالسبب الكافي؟ : ـ أقصد بالسبب الكافي علاقتنا مع العالم الخارجي، العلاقة بين المبدأ والنتيجة وبين العلة والمعلول وبين الزمان والمكان وبين الداع والفعل، والصور الثلاث الأولى تخص التطور النظري، والرابعة تخص العمل والفعل: ـ (يقلد صوت معقب آخر) أنت فيلسوف متمكن من أدواتك : ـ هذه الفلسفة والثراء الذي أورثه لي أبي جعلني أشعر أن العيش بلا قيود (يبتسم للشخص المحاور) لا يرتبط بأي مفهوم من مفاهيم الحرية. (يقلد صوت معقب ثالث)ويعني؟: ـ هو ضياع مدروس بعناية ذات مريضة (يرتدي بدلة المرضى) أعتقد أن الصورة بدأت تتضح لديك وبدأت تعرف لماذا أخترتك أنت من البشر وبعد مرور أكثر من مئتي عام، (يقلب نظراته بين الجمهور، يبحث عن المخرج) هي مسؤوليتك، عليك أن تعيشني مثلما أنا دون تشذيب أو تهذيب لا تحسن بي شيئا، وأنظر في دواخلي عساك تظفر بشيء يكون فيه عبرة لمتلقيك كنت أتصور إذا ما أصدرت كتابا سيبهر العالم، سأظهر فيه اهتمامي بالفلسفة الحديثة، علني أحصل على وظيفة محاضر في أحدى الجامعات العالمية. (يحمل رزمة كتب يضعها في المكتبة، ينظف بعض الميداليات، يزيل التراب عن الشهادات التقديرية، تقرع ساعة المقبرة قرعا مستمرا يعجز عن عده) : ـ هل من الممكن أن تعاملني معاملة الأحياء وتدعوني إلى مأدبة طعام أو عصير فاكهة فأنا لم أذق الطعام ولا الشراب منذ مئتي سنة، (يتلذذ طعم العصير ويمسح شفتيه حالما) سأخبرك حينها عن فشلي في حياتي الأكاديمية وفشل كتابي، كنت أظن أن فشلي كان عبر مؤامرة تحاك حولي من جميع المفكرين والفلاسفة الذين كنت أنعتهم بالحمير. (ها ها ها / يزداد ضحكه لتجلجل الضحكة عاليا) صدقني كنت أراهم حميرا، (يعاود الضحك ثانية) وكنت أرى كتابي مرآة كل واحد يرى نفسه فيها، سيدور برأسك أني مصاب بداء الغرور، وهذه حقيقة. كنت أعتقد أن فلسفتي هي في حدود المعرفة بصفة عامة، وأعتقد أني كنت الحل الحقيقي للغز العالم، ممكن تسميها (رؤيا) مستوحاة من روح الحقيقة
(موسيقى ناي حزينة)
أنا إنسان أثقلته الندب الكثيرة التي سببها لي الحمق، نعم اكتشفت بعد فوات الأوان أني من أعظم الحمقى في الكون (يصرخ في صوت عالي) أحمق، أنا أقر بالأبداع والإتقان والإرادة في خلق الكون لكني أرجع أبداع الكون إلى الطبيعة، وفكرة الدين من صنع البشر (برهة صمت حزينة تغيرت ملامح الصوت) أحمق، قلت أن الغرض من الدين تنظيم الحياة، بحسب ما يراه مؤسس الدين، وليس حسب الاحتياجات الحقيقية، (برهة صمت يتحرك الى جانب من جوانب المسرح / يحضر طاسة ماء ليغسل وجهه) احمق انا لدرجة كنت أتصور أن الناس التزموا بالدين جهلا، وأنا الفيلسوف الوحيد الذي حملت الله مسؤولية قتل كل الذين قتلوا في الحروب، ومن ماتوا مرضى وجياع (برهة صمت يذهب الى الجانب الآخر من المسرح وكأنه يبحث عن شيء كان قد افتقده، ثم انتقل إلى زاوية أخرى من المسرح يبحث عن الشيء) هل تصدق مع كل هذا النكران لله سبحانه وبنفس الوقت استغرب من رحمته واعتقدت أن اسمى درجات الكينونة تتمثل في التلاشي، وأحببت فكرة تناسخ الأرواح رغم أني لا أؤمن بها، أنا وحدي الموجود ولا شيء عداي لأن العالم من تصوري ومما زاد من تشاؤمي المزاج الغير سوي الذي لازمني، والحقد والكراهية اللذان ملأ قلبي، وفقداني للود، فلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء، ولم يكن لي سوى كلب (يقلد صوت الكلب تارة بهدوء عو، وتارة بغضب عوعو، عوعو،) أطلقت عليه اسم “أطما” وهو اسم يُطلق على الروح الكلي عند بعض المذاهب الفلسفية، (يضحك.. بصوت مرتفع) أما سكان المحلة يطلقون عليه اسمي (يضحك) ينادونه باسمي والحقير يستجيب لهم حين ينادونه باسمي، عو.. عو ينغمها وكأنه يقول لهم نعم وهم يضحكون، (هه هه هه) منذ زمن طويل لم أضحك أبدا ولم أعرف طعم الابتسامة، إلا الآن، (مع شخص من الجمهور) ثق يا صديقي أن الموت الذي عشته خلال مائتي سنة علمني لا ينكر الله سبحانه إلا الفاشلون أمثالي (يرتعب خائفا ينظر إلى يمين المسرح كأنه خائف من شيء ثم يراقب الجهة اليسرى) كنت أعيش سنوات الإلحاد بالقلق والتوجس أغلق الأبواب (يتأكد من غلق الأبواب) وأتأكد منها عدة مرات لأنام، عشت مذعورا طوال حياتي تصور أنني أحب الانتحار، وبنفس الوقت أتمنى أن أعيش العمر الطويل جئتك لا قول لك حقيقة تنفعك وأرحل عنك إلى الأبد أكتب روى لي شخص بعد مئتي سنة من وفاته أن الحياة التي تسير بدون محبة الله سبحانه فهي دون الله ستسير من سيء إلى أسوأ وهذه هي لعنة الإلحاد وما أقساها حين تكون اللعنة ثقافية المظهر باهتة الملامح: ـ في امان الله