مهرجانات مسرح الطفل في العراق بين الحضور والغياب …/ بقلم: د. زينب عبد الامير
تعد ثنائية الحضور والغياب ثنائية ذات طابع دلالي توليدي وفقاً للسياق الذي ترد فيه، وقد اخترت لهذه الثنائية مفهوماً يُغاير افق تلقي القارئ لها في عنوان المقال، عبر تبني المفهوم الفلسفي لها من وجهة نظر الفيلسوف والناقد الفرنسي (جاك دريدا) الذي جعل من الغياب نمطاً للحضور، فالحضور ملتبس بالغياب، رافضاً لفكرة التمركز حول الحضور معتبراً اياها فكرة ميتافيزيقية وجب تفكيكها، فلا يكون الشيء او الفكرة حاضراً حضوراً كلياً ولا غائباً غياباً نهائياً، بل هو حاضر غائب في تداولية زئبقية لا يمكن اخضاعها للحتمية المطلقة، بمعنى اخر ان الغياب يستدعي الحضور والحضور يستدعي الغياب، وتفكيك فكرة التمركز حول اي قطب من قطبي هذه الثنائية هو اثارة اللبنة القلقة غير المستقرة للبناء وتحريكها لينهار البناء ويتفكك ليعاد تركيبه من جديد لإبراز ما في هذا البناء من ثراء من خلال اتمام عملية وضع يد القارئ عليه ومسائلته في ضوء مشكلات عصره.
ان المتتبع لتاريخ مسرح الطفل في العراق منذ بزوغ بداياته الحقيقية في سبعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، يجد ان هناك ثمة مهرجانات مسرحية اقيمت لمسرح الطفل وتحديداً (وحسب علمي) في (بغداد، وكربلاء، وميسان، واربيل) جميعها (ولا مجال لذكرها بالتفصيل هنا) انحسر ضمن مرحلة زمنية لا تتجاوز العقدين ونصف من القرن الحالي بدءاً بدورتي (المهرجان القطري الاول لمسرح الطفل 2001 والثاني 2002) وانتهاءً بالعام الحالي والذي اقيم فيه مهرجانين مسرحيين وهما (المهرجان الحسيني الصغير الدولي لمسرح الطفل بدورته السابعة 11 ـ 16 مارس 2023) و (مهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل بدورته الاولى من 09 ـ 13 دجنبر 2023)، الاّ ان اغلب هذه المهرجانات المسرحية كانت غير متعاقبة في دورات انعقادها باستثناء (المهرجان الحسيني الصغير الدولي لمسرح الطفل) في محافظة كربلاء الذي تواصل انعقاده لسبع دورات متعاقبة وما زال مستمراً بدعم الامانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة، الى جانب (المهرجان القطري لمسرح الطفل) الذي استمر لدورتين متعاقبتين فقط وانقطع، كما ان جميع هذه المهرجانات كانت متباينة في جهات دعمها واقامتها بين جهات رسمية تمثلت بدائرة السينما والمسرح ودار ثقافة الاطفال التابعتين لوزارة الثقافة، وبين جهات خاصة تُعنى بشأن الطفولة كجمعيات ومنظمات المجتمع المدني وغيرها، فضلاً عن ذلك فان اغلب هذه المهرجانات اقيمت في العاصمة بغداد ولم يكن من بينها مهرجاناً دولياً باستثناء (مهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل بدورته الاولى) والذي أُسدِل الستار على فعالياته قبل ايام، اما المهرجانات المسرحية التي اقيمت في محافظات العراق، فعلى الرغم من قلّتها فهي لم تتجاوز الدورة الواحدة لانعقادها، ولم يكن من بينها مهرجاناً دولياً باستثناء (المهرجان الحسيني الصغير الدولي لمسرح الطفل) في محافظة كربلاء.
في ضوء هذه المعطيات ورغم توافر الامكانات والقدرات البشرية الابداعية في مجال الكتابة والاخراج لمسرح الطفل، الاّ انه لم يتحقق لنا مهرجاناً مسرحياً دولياً لمسرح الطفل قياساً بالمدى الزمني لتجارب هذا المسرح والذي قارب الخمس عقود (اذا استثنينا السنوات الاولى لبداياته) شمل العديد من الانجازات والاعمال المسرحية على مستوى الاخراج والتأليف وتشكيل الفرق المسرحية واللجان … والتي من المفترض ان ينتج عنها لدى المهتمين والمشتغلين في مسرح وثقافة الطفل، نضوجاً فكرياً ووعياً كبيراً تجاه اهمية مسرح الطفل وضرورة اقامة مهرجان دولي له تتلاقح من خلاله الخبرات المسرحية محلياً وعربياً وعالمياً وتمتد من خلاله جسور التعاون بهدف التطوير، كما انني هنا سأكسر افق توقع القارئ في احالة السبب الحقيقي لهذا التقصير الى ضعف الدعم المادي، فهل يُعقل ان بلدنا العراق عاجز مادياً عن اقامة مهرجان دولي لمسرح الطفل على مستوى المؤسسات الرسمية المعنية؟! بينما نجد في المقابل اقامة العديد من المهرجانات الدولية لمسرح الكبار!!
بناءً على ما تقدم وفي ضوء ما تم استعراضه من تباينات وتساؤلات عبر تفكيك المحتوى، يُصار من الغياب (نمطاً للحضور)- وفقاً لمفهوم الغياب والحضور لجاك دريدا، ذلك الحضور الذي جسده (مهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل بدورته الاولى) فهو اول مهرجان مسرحي يُقام لمسرح الطفل في العاصمة بغداد (المركز)، كما انه يعد تجربة مسرحية هامة على الرغم من تأخر انطلاقها في مسار تاريخ مسرح الطفل العراقي، ويُصار من الهامش (مركزاً) – وفقاً لجدلية المركز والهامش في المسرح العراقي، ذلك المركز الذي جسده (المهرجان الحسيني الصغير الدولي لمسرح الطفل) فهو اول مهرجان مسرحي دولي يُقام لمسرح الطفل على مستوى العراق في محافظة كربلاء وبدورات متعاقبة لم تنقطع منذ تأسيسه عام 2015، اذ انتقل مركز الثقل المسرحي لمسرح الطفل من العاصمة بغداد الى محافظة كربلاء عبر اقامة العديد من المشاريع المسرحية التي تعنى بمسرح وثقافة الطفل من بينها المهرجان سابق الذكر.
وبالعودة الى اول مهرجان مسرحي دولي لمسرح الطفل في بغداد (مهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل بدورته الاولى) الذي عُقد برعاية دولة رئيس الوزراء الاستاذ (محمد شياع السوداني) واقامته مؤسسة الهدى لثقافة الاطفال والناشئين بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح بإدارة المخرج المسرحي الكبير (حسين علي صالح)، فقد اقيمت عروضه المسرحية وفعالياته المرافقة على مسرح الرشيد من اوبريتات وعروض الدمى العملاقة وغيرها، وقد استقطب مشاركات دولية شملت (جمهورية ايران الاسلامية، وسلطنة عُمان) على الرغم من جاهزية العديد من الدول الاخرى للمشاركة والتي تمثلت بـ( المملكة العربية السعودية، وجمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية، ومملكة الاردن، ومملكة السويد) الاّ انها لم تشارك لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بعدم دعم تذاكر السفر، ومنها ما يتعلق بعدم صدور الموافقات الامنية لوزارة الثقافة في بلدانهم، ومنها ما يرتبط بأسباب سياسية (حادثة حرق القرآن الكريم) والتي على اثرها مُنِعًت الفرقة المسرحية للجالية العراقية في مملكة السويد من الحضور، اما على المستوى المحلي فقد شاركت فرق مسرحية لأربع محافظات وهي (البصرة، بابل، الموصل، كربلاء) الى جانب العاصمة بغداد، وقد استمرت وقائع المهرجان لمدة اربعة ايام قُدِّمت خلالها تسعة عروض مسرحية اثنان منها خارج المسابقة، اذ تم تقديمهما في حفلي الافتتاح والختام، وقد شهد المهرجان اقامة جلسات نقدية لثمان عروض مسرحية، كما تخلّل المهرجان اقامة محور فكري جاء بعنوان (فن الكتابة وآلياتها في مسرح الطفل) قدّمه الاديب الكبير الاستاذ (فاضل الكعبي) ونأمل ان يتسع عدد المشاركين بالمحور الفكري للدورات القادمة كونه فقرة مهمة من فقرات اي مهرجان مسرحي.
اما عن الجانب التنظيمي للمهرجان فقد تشكلت اربع لجان تنظيمية وهي( اللجنة العليا للمهرجان، واللجنة التحكيمية، واللجنة النقدية، واللجنة الاعلامية) وقد ادّت عملها بدقة وانسيابية عالية، اذ شملت هذه اللجان اعضاء اكفاء ممن يمتلكون الخبرة والدراية العالية في مجال مسرح الطفل، الاّ ان ما يؤاخذ على المهرجان هو عدم تشكيل لجنة مشاهدة العروض المسرحية التي تعد مفصل مهم من مفاصل اللجان التنظيمية لأي مهرجان، ذلك انها تعمل بمثابة صمام الامان الذي يضمن نجاح المهرجانات من خلال انتقاء العروض المسرحية الاحترافية للمشاركة فيها سيما وانها تقدّم لمتلقي صعب الاّ وهو الطفل، ولهذا جاءت بعض عروض مهرجان شهاب بمستوى ضعيف احرج كل من اعضاء لجنتي التحكيم والنقد، ايضاً كنا نأمل صدور نشرة يومية توثّق وقائع المهرجان طيلة ايام انعقاده، ولا يفوتنا ان نعرّج على الهدف الاهم والاعلى من اقامة هذا المهرجان والذي يتمثل بجمهور الاطفال، فقد كان حاضراً متلهفاً لتلقي الامتاع وكان منصتاً متابعاً للعروض المسرحية التي قُدّمت، وهذا ان دلَ على شئ، فهو يدل على تعطش الطفل العراقي لهكذا تظاهرات مسرحية، فشكراً لإدارات المدارس التي لبّت دعوة الحضور، وشكراً للأسر العراقية التي حضرت مع اطفالها لتشهد فعاليات المهرجان.
بشكل عام شكّل (مهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل بدورته الاولى) علامة فارقة وحضور شاخص من بين جميع المهرجانات المسرحية التي اقيمت في بغداد، انتجه الغياب المسكوت عنه قصداً او عن غير قصد لقلة الوعي، وكان لوعي رئيس اللجنة العليا للمهرجان الشيخ (محمد ذياب البيضاني) ولجهود القائمين على مؤسسة الهدى لثقافة الاطفال والناشئين الدور الكبير في دعم المهرجان، ولجهود قسم التقنيات في دائرة السينما والمسرح الدور الكبير في انجاحه، شكراً للفرق المسرحية المشاركة لإسهامهم بوضع الدورة الاولى للمهرجان، والشكر الكبير للجهود الاستثنائية الكبيرة التي بذلها عرّاب الطفولة العراقية المخرج المسرحي (حسين علي صالح)، اذ كان له الدور الاكبر في اقامة هذا المهرجان وانجاحه، فقد كان يتابع كل صغيرة وكبيرة طيلة ايام المهرجان، وتجاوز بهدوء ورحابة صدر العديد من المعرقلات التي قد تحدث في اي مهرجان، فهو صاحب ذلك الحلم الكبير الذي طال عليه حتى تحقق، اخيراً … نأمل ان تكون الدورة الاولى لمهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل بمثابة حجر الاساس لدورات اخرى لاحقة اكثر استعداداً واتساعاً، وما قدّمناه وما سنقدّمه لاحقاً ما زال قليلاّ بحق الطفل العراقي وبحق تاريخ مسرح الطفل العراقي.