نص مسرحي: ” الزواحف ” / تأليف: د. ميسون حنا
اللوحـــة الأولـــــى
شخصيات اللوحة الأولى:
الزوج / في أواسط العمر
الزوجة / في أواسط العمر
الرجل الرمادي / الحارس
(في الخلاء. قريبا من باب المدينة، يقف الزوج والزوجة. باب المدينة ينفرج عن فتحة تتسع لعبور شخص واحد. يقف الرجل الرمادي في هذه الفتحة، وهو يرتدي ثوبا رماديا، مزركشا برسومات تشبه رسومات جلد الأفعى، ينتهي ثوبه بذيل أفعى كذلك. الزوج والزوجة ينظران إليه بتوجس)
الزوج: وصلنا أخيرا.
الزوجة : (تنظر للباب) لم يتغير شيء.
الزوج: الباب شامخ كعهدنا به، لكن …. (يشير للرجل الرمادي) اُنظري.
الزوجة : سنعبر رغما عنه.
الزوج : سيلدغنا .
الزوجة: السم مرة أخرى؟
الزوج : (يتراجع للخلف قليلا) نعم، السم.
الزوجة: (تنظر إليه بدهشة) أهو الجبن؟
الزوج : لا … ولكن علينا أن نبتكر الوسيلة.
الزوجة: كيف؟
(يتبادلان النظرات بقلق)
الزوجة : (بلهجة جديدة) علينا أن نعبر.
الزوج : (بتصميم) نعم من أجل هذا أتينا.
الزوجة : التاريخ يتكرر.
الزوج: بل سنصنع تاريخا جديدا.
الزوجة: طالت غربتنا، وآن لنا أن نؤوب.
الزوج : آن الأوان … آن الأوان.
الزوجة : لكن السم.
الزوج: (بتصميم) سنعبر.
الزوجة: (تنظر للرجل الرمادي ) معه خنجر.
الزوج: أرى.
الزوجة : معي أظافري، ومعك ساعداك.
الزوج : هل سنتعارك معه؟
الزوجة : قد نتفادى العراك.
الزوج : كيف؟
الزوجة : دعني أحاول (لا تنتظر جوابا، وتقترب من الرجل الرمادي) أسعدت صباحا.
(الرجل الرمادي يبدو متحفزا، يستل خنجره أمامها)
الرجل الرمادي : من ؟!
الزوجة : أنا ابنة هذه المدينة، وهذا زوجي.
(الرجل الرمادي يضحك بسخرية. لحظة. يتحدث بلكنة)
الرجل الرمادي : (يصرخ) نحن أبناؤها يا أنت.
الزوجة: عدنا لديارنا.
الرجل الرمادي : (بلؤم) كل من يحاول العودة منكم يُقتل، يُباد، ثم هذه لم تعد دياركم.
الزوج : أي أنها كانت، ها أنت تعترف.
الرجل الرمادي : الآن هي لنا.
الزوج: التاريخ يشهد لنا.
الرجل الرمادي: والقوة تشهد لنا (يلوح بخنجره) نحن في عصر القوة. (لحظة) من أين أتيتما؟
الزوج : من عمق التاريخ.
الرجل الرمادي : (ساخرا) يا لطيف ! (لحظة. يتشمم بأنفه) رائحة الموت تفوح منك … هل أنت ميت؟
الزوجة : الموت يسكننا ونحن في منأى عن مدينتنا.
الرجل الرمادي: أنت ميتة كذلك؟ (يتشمم بتقزز) أوف.
الزوجة : ما أن نعبر إلى مدينتنا حتى تعود إلينا الحياة.
الرجل الرمادي : هذا لغز؟
الزوج : في قلب المدينة مقرنا.
الرجل الرمادي: (منزعجا) كان مقركم، والآن أصبح قبركم.
الزوح : ها أنت تعترف مرة أخرى أنه كان مقرنا.
الرجل الرمادي : (يصرخ) أصبح قبركم، هل تفهم؟
الزوح : لا …
الرجل الرمادي : (ينظر إليه بلؤم) قبركم.
الزوج : (بهدوء) سنعبر.
الرجل الرمادي: إلى القبر؟
الزوج : لن نموت دون مقاومة.
الرجل الرمادي : حاول المقاومة وسترى…
(يُسمع فحيح أفاعي)
الزوج: الزحف … لا تذكرني.
الرجل الرمادي: (بمتعة وشماتة) زحفنا من كل حدب وصوب، وتجمعنا على هذه الأرض، (بلؤم) هي لنا الآن (يلوح بذيله) وهذه هويتنا.
الزوج: (يضحك بسخرية) هذا الذيل هويتك؟
الرجل الرمادي : أفضل منك … أنت بلا هوية.
(ينظر إليه من الخلف)
الزوج: حتما لا أملك هوية كهويتك (يشير إلى ذيل الرمادي) نحن نحتفظ بهويتنا هنا (مشيرا إلى صدره)
الرجل الرمادي : هذه خدعة.
الزوجة : بل حلم.
الرجل الرمادي : سيان، الأحلام خادعة، كاذبة…
الزوجة: سيتحقق الحلم.
الرجل الرمادي : هراء… نحن الحقيقة الآن، والحقيقة أبقى.
(يتبادلون النظرات. لحظة)
الرجل الرمادي : (متفكها، ساخرا) أبرز هويتك، انتزعها من صدرك فأتح لك العبور.
الزوج: (متفائلا) حقا؟ (بحزن) لا أستطيع انتزاعها من صدري.
(الزوجة تضم يديها إلى صدرها، الرجل الرمادي ينظر إليهما باستهزاء)
الرجل الرمادي : أرأيتما ؟ أنتما بلا هوية.
الزوجة: ومع ذلك هي هنا (تدق على صدرها)
الرجل الرمادي : والإنسان بلا هوية لا وجود له، وليس له عنوان.
الزوح: جئنا نثبتها.
الرجل الرمادي : الهوية؟
(الزوج يقترب من الرجل الرمادي الذي يهدد ملوحا بخنجره في وجه الزوج)
الرجل الرمادي : حذار … الخنجر مسموم….
الزوج: (يتوقف) الموت لا يخيفني.
الرجل الرمادي : نعم، لأنك ميت.
الزوج: الآن أزدري موتي، وما أن أعبر المدينة حتى أعلن ولادتي من جديد.
(يحاول الاقتراب، يتهدده الرجل الرمادي ملوحا بالخنجر)
الرجل الرمادي: إياك.
(الزوج يتوقف، يتبادلان النظرات)
الرجل الرمادي: رغبتك في العبور تشبه عشم إبليس في الجنة (يضحك بلؤم، لحظة)
الرجل الرمادي: (يصرخ) أنت بلا عنوان.
الزوج: (بهدوء وتأكيد) في قلب المدينة عنواني.
الرجل الرمادي: والإنسان بلا عنوان مقتول.
الزوج: قتلتمونا، فتشردنا.
الرجل الرمادي: القتيل لا يشرد، بل يُداس، يُدفن، وأحيانا يُلقى في حاوية النفايات وينتهي أمره.
الزوج: أنا القتيل الذي قهر الموت وصمم أن يعود.
الرجل الرمادي : (يضحك بسخرية. يشير للزوجة) وماذا عنكِ أنتِ؟
(الزوجة تنظر إليه بثبات وصمت)
الرجل الرمادي : (هازئا) أنت أيضا قتيلة، شريدة؟
الزوجة: وأدتمونا ، ومن رحم التراب نتجدد.
الرجل الرمادي : أتيت من التراب؟ (بتقزز) أنتما متعفنان.
الزوجة: أدخلنا وسترى كيف يزول العفن.
الرجل الرمادي: هل أنت جادة؟
الزوجة: ما أن نعبر حتى تفوح من أجسادنا رائحة المسك.
الرمادي: هذه تسلية تروق لي.
الزوج: (متفائلا) وإذن؟
الرجل الرمادي: سأتفرج. (يهم بفتح الباب)
(الزوج والزوجة يتبادلان النظرات متفائلين، الرجل الرمادي يتردد ويعيد الباب إلى ما كان عليه، وبقف متحفزا)
الزوج: لماذا؟ كنا على وشك العبور.
الرجل الرمادي : قد تبدأ الحكاية تسلية ولعبا ، ولكنها ليست كذلك.
(لحظــــــــــــة)
(التوتر ظاهر على محيا الزوجين. الرجل الرمادي يبدو كمن لمعت بذهنه فكرة)
الرجل الرمادي : (عابثا) ومع ذلك، الموقف مثير… تعبران… و … (يلتفت للزوجة) ماذا قلتِ؟ .. يزول العفن؟ (لحظة) قد أتيح لكما العبور (يسدد نظرة إلى الزوجة ثم ساخرا) يزول العفن؟ … آه … (يضحك بصخب وسخرية)
(الزوجة تنظر إليه بثبات وصمت. يكف عن الضحك)
الرجل الرمادي : (بلؤم) نظراتك مستفزة، وهذا يجعلني أتراجع عما انتويت. (لحظة، يصرخ) لن تعبري، أنت بالذات لن تعبري (يلتفت للزوج) سأتيح لك العبور.
الزوجة: يعبر دوني؟
الزوج: بل نعبر معا.
الرجل الرمادي: (يصرخ) أنا من يقرر من يعبر، وإلى أين يعبر، وقراري لا نقاش فيه، ولا رجعة عنه. (للزوجة) هو يعبر… وأنت تعودين إلى منفاك.
الزوج: (منفعلا) أنا موافق.
الرجل الرمادي : (للزوجة بشماتة) لقد تخلى عنك.
الزوج: سأسبقك، وأعمل على سحبك.
(الزوجة تنظر إليه حائرة)
الرجل الرمادي: خانك، وباعك لقاء وعد مني، وقد لا يتحقق.
الزوجة: بل سيتحقق، أنا موافقة، ليعبر…
الرجل الرمادي : لن يستطيع سحبك كما يتشدق.
الزوجة: سيّان، ليعبر.
(الزوج يبدو منفعلا)
الزوج: (للزوجة بانفعال) لا أقول وداعا، بل إلى اللقاء.
الرجل الرمادي : تعال خبيبي تعال.
(الزوج يتوجه بنشاط نحو الرمادي الذي يباغته ويطعنه في صدره، يرتمي جثة هامدة على الأرض، الزوجة تنظر بذهول)
الرجل الرمادي : (يضحك) قلت لكِ، لن يستطيع سحبك.
الزوجة: (تصرخ) أنت نذل، حقير…
(الرجل الرمادي يسدد خنجره نحوها، ثم يسحبه متراجعا)
الزوجة: ولماذا تبقي على حياتي؟
الرجل الرمادي : لا تأخذني الرأفة بك كما قد تتوهمين، أنتم حثالة ندوسها بأقدامنا، ولكن أريدك عندما تعودين إلى منفاك أن تتحدثي، وتخبري المتشردين أمثالك عن عاقبة كل شخص تسول له نفسه العودة. (باستهزاء) العودة.
(الزوجة تقترب من جثة الزوج)
الرجل الرمادي : (يصرخ) دعيه.
الزوجة: سآخذ جثته معي.
الرجل الرمادي : سأعلقها على باب المدينة ليكون عبرة لمن يعتبر.
الزوجة: (تصرخ) أنت وحش … وحش.
(تحاول سحب الجثة، يدفعها فتسقط على الأرض)
الرجل الرمادي : الأفضل أن أعلقه على مدخل السوق لأحصل على وسام شجاعة أبديتها في الدفاع عن الوطن … (بلؤم) قتل المتسللين.(يدفع الجثة من فتحة الباب إلى الداخل)
الزوجة: (تنهض وتبتسم) لقد عاد… عاد.
الرجل الرمادي : (يصرخ) أغربي عن وجهي أيتها الحشرة.
(يُسمع فحيح أفاعي، الزوجة تسد أذنيها وتنسحب مبتعدة، بينما يضحك الرجل الرمادي بصخب هستيري)
..*..
اللوحــــة الثانيـــــة
شخصيات اللوحة الثانية
*الزوج والزوجة وهما ليسا الزوجين السابقين في اللوحة الأولى
*الحانوتي
*رجال ونساء رماديون
*شرطة رماديون
(داخل المدينة. في السوق، الحوانيت مغلقة، عدا حانوت وحيد يقع في الجهة اليمنى من المسرح، يقف صاحبه بالباب، وهو يرتدي ملابس عصرية أي قميص وبنطال، يبتسم ابتسامة صفراء. يدخل الزوج والزوجة وهما طاعنان في السن)
الزوجة: (تقف) لقد تعبت.
الزوج: (يقف) وأنا كذلك.
الزوجة: السوق مغلق: كنت أحب أن أراه يعج بمرتاديه، كنت أحب أن أرى الباعة و …والناس … أين الناس؟ (تتلفت حولها)
(يعبر رجل رمادي ويغادر، الرمادي يتزيا بنفس الزي الذي كان يرتديه الحارس في اللوحة الأولى، أثناء عبوره نسمع فحيحا، يختفي بعد مغادرته، الزوجان ينظران إليه بضيق)
الزوج: الرماديون فقط… أين السكان الأصليون؟
(تعبر فتاة رمادية، تضع حزاما من جلد الأفعى، يُسمع فحيح أفاعي أثناء مرورها كذلك، الفتاة تضحك وتغادر ، يختفي الفحيح)
الزوجة: لا أحد سوى الرماديين.
(يتبادلان النظرات بقلق) (لحظة)
الزوجة: قد يكون عدم تواجد الناس الآن بسبب الإغلاق.
الزوج: لم هذا الإغلاق؟
الزوجة: كنت آتي إلى هنا برفقة صديقاتي وجاراتي، نتجول في السوق ونمرح…
الزوج: وأنا ؟ أما كنت أرافقك، وأشتري لك الحلوى التي تحبين؟ أنسيت؟
الزوجة: (تبتسم) نعم، كنا نأتي إلى هذا السوق بالذات ولكن … لم هذا الإغلاق؟
الزوج: (متنبها) إضراب… إنه الإضراب.
الزوجة: كيف عرفت؟ من قال هذا؟ قد تكون عطلة رسمية.
الزوج: نحن في بحر الأسبوع، أي لا عطلة اليوم.
الزوجة: ولا هو موسم أعياد.
الزوج: ثم إن حركة السوق تزدهر أيام العطل .
(يلمحان الحانوت المفتوح)
الزوج: اُنظري… (يشير إلى الحانوتي الواقف بباب حانوته المفتوح) هلم إليه … سنفهم كل شيء منه.
(يقتربان منه)
الحانوتي: أهلا … يا مرحبا، تفضلا، ما هو طلبكما؟
(ينظران إليه حائرين)
الزوج: أنت الوحيد … أعني … حانوتك الوحيد… أقصد… لم هذا الإغلاق؟
الزوجة: لم الحوانيت مغلقة؟
الحانوتي: من حسن حظي، لأنال شرف تسوقكما من حانوتي.
(يتبادلان النظرات حائرين)
الحانوتي: ستجدان طلباتكما بكل تأكيد، تفضلا إلى الداخل.
الزوج: ليس قبل أن تخبرنا عن سبب الإغلاق.
الحانوتي: أنتما غريبان؟
الزوج: (محتدا) نحن أبناء البلدة الأصليون.
الزوجة: (حالمة) هذه الحجارة تشهد وطأ أقدامنا عليها.
الزوج: (حالما) قريبا من هنا، كان يوجد مقهى، كنت أرتاده برفقة أصدقائي… ايه .. زمن مضى، ظننته سيعود، ولكن هيهات…
الزوجة: لا تفقد الأمل، لقد عدنا، وكل شيء سيعود.
الحانوتي: آه … أنتما العائدان إذن؟
الزوج: (مبتهجا) نعم … نحن.
الحانوتي: الطاعنان، اللذان سُمح لهما بالعبور، (مستهزئا) وتسألان لم هذا الإغلاق؟
الزوجة: وما الغريب في السؤال؟
الحانوتي: (مستنكرا) لا زلت تستوضحين؟
الزوج: وما الغريب في الأمر؟ أجب لم هذا الاضراب؟
الحانوتي: ها أنت قلت، إنه الاضراب.
الزوج: وما سببه؟
الحانوتي: بسببكما أغلق السوق أبوابه، أُعلن الاضراب بسببكما.
الزوج: (بدهشة) بسببنا نحن؟
الزوجة: (مستنكرة) كيف؟
الحانوتي: احتجاجا على عودتكما.
الزوج: (بعجب) وهل يحتج أبناء البلدة على عودتنا؟
الزوجة: (تصرخ) أنت كاذب… وكلامك مدسوس… (تتلفت حولها) السوق هو هو … لم يتغير، ولكن أنت لست أنت .
الحانوتي: (بعجب) نعم … ماذا قلت؟
الزوجة: لقد كان الباعة طيبين.
الحانوتي: وهل أنا عكس ذلك؟
الزوجة: (مرتبكة) لا أقصد … ولكن … نعم … أنت لست أنت، قلبي دليلي، أنت تتكلم كلاما غريبا ، أنت تشوه الحقائق.
الزوج: المنطق يرفض ما تقول.
الحانوتي: كلامي هو المنطق بعينه.
الزوج: (مستنكرا) وهل يرفض أهل المدينة عودتنا؟
الحانوتي: (بلؤم) سُمح لكما بالعبور لأنكما طاعنان، على حافة قبركما تقفان.
الزوجة: حسّن ألفاظك يا هذا.
الزوج: وماذا إذن؟ نقف على حافة قبرنا، ونأمل أن نموت على تراب الوطن.
الزوجة: نعم، سنموت على أرضنا، ونُدفن تحت ترابها، هذه أمنيتنا الوحيدة الآن.
الحانوتي: (ساخرا) أمنية؟
الزوج: وتستكثر علينا الأماني؟
الحانوتي: (هازئا) تحققت نصف الأمنية، بقي أن يأتي عزرائيل ويتممها…
الزوج: وتستعجل موتنا؟ أي شؤم هذا؟ (لحظة ثم بلهجة جديدة) ومع ذلك أنا سعيد كوني سأُدفن في بلدي.
الحانوتي: لا تفرح كثيرا.
الزوجة: بل سنفرح … ونفرح، ونفرح.
الحانوتي: سُمح لكما بالعودة لأنكما طاعنان.
الزوج: (بضيق) أنت لا تفتأ تكرر هذه العبارة بجلافة لا مثيل لها.
الحانوتي: لتعلما إذن أنكما عبرتما لأنكما لن تنجبا أبناء يحملون رسالة بعدكما، لا ضير من عودتكما البائسة.
الزوجة: (بجزن) أنجبنا ثلاثة أبناء، وقدمناهم شهداء فداء للوطن. الصغير استشهد وهو يحمل حجرا في قبضته، والآخران استشهدا داخل السجن وهما مضربان عن الطعام، ونحن نُفينا إلى الشتات. (تصرخ) أبناؤنا شهداء، هل تفهم؟
الزوج: ولنا الفخر.
(ينظر إليهما بلا مبالاة)
الزوج: ومع ذلك أنت لم تذكر السبب الحقيقي للإضراب.
الحانوتي: بسببكما، قلت هذا ولكنكما لا تصدقان.
الزوجة: (باستنكار) يضربون بسببنا؟
الحانوتي: ليس تماما.
الزوج: آه … اعترف الآن أنك تكذب.
الزوجة: (مغتبطة) أهل البلدة يبتهجون لعودتنا من غير شك، لكنك تراوغ.
الحانوتي: لا تفرحي كثيرا، لستما بريئين، عودتكما تسببت بإرباكات كثيرة.
الزوج: لا تراوغ، وأفصح عن سبب الإضراب.
الحانوتي: يحتجون على منع الشباب من العودة إلى المدينة.
الزوج: هكذا الأمر اختلف.
الحانوتي: لم يختلف، الإحتجاج يشملكما، يحتجون على قبول المسنين دون غيرهم.
(يتبادل الزوجان النظرات)
الزوج: سبحان الله كيف تُؤول الوقائع !
الحانوتي: ويحتجون على الشباب اللذين يُقتلون على باب المدينة.
الزوج: (مستاء) يستشهدون، حسّن ألفاظك، قل اللذين يستشهدون.
الحانوتي: ما علينا، ها قد علمتما سبب الإضراب، والآن عليكما أن تشعرا بمتعة التسوق.(يشير بيده إشارة تدعوهما إلى ولوج الحانوت)
الزوجة: (مستنكرة) التسوق؟!
الحانوتي: عندي معاطف تقيكما برد الشتاء، تفضلا إلى الداخل.
الزوج: (مستفزا) ولماذا لا تحتج أنت الآخر؟
الحانوتي: أنا أول المحتجين.
الزوج: أهه … ولماذا تفتح حانوتك دون الآخرين؟
الحانوتي: أحتج على رعونة الناس، وسطحية تفكيرهم، ما لنا وللإضرابات؟ أنا أعرف مصلحتي، ومصلحتي تقتضي أن أتعايش مع الواقع، والواقع يفرض التباساته علينا، وأنا قبلتها.
الزوج: أنت خائن.
الزوجة: قلت لك أنت لست أنت … (تمسك يد زوجها وكأنها تحثه للمغادرة، الزوج يشدها لتتوقف) (يقفان مكانهما)
الحانوتي: ألا تشتريان شيئا؟ (بحقد) لا أحد يشتري مني.
(يتحركان بغية المغادرة بينما يعبر شخص رمادي، يتوقفان ويتأملانه بصمت. نسمع الفحيح، الرمادي يتوجه إليهم. الحانوتي يتابع)
الحانوتي: لا أحد يشتري مني سوى أصدقائي الرماديين,(يلتفت للرمادي باشا) يا مرحبا .. تفضل (ينظر للزوجين بشماتة ويتابع) الرماديون فقط يشترون بضاعتي ولي الفخر
(الفحيح يتعاظم، تمسك يد زوجها ويبتعدان قليلا، بينما يعبر الحانوتي خلف الرمادي إلى داخل الحانوت).
الزوجة: هذه أول صدمة (تقف مع زوجها بعيدا عن الحانوت)
الزوج: الناس طيبون، لكن هذا الخبيث يدمر ذكرياتنا الجميلة.
الزوجة: لا أحد يستطيع مسح ذاكرتنا وذكرياتنا، هذه بلدنا، ولكني أشعر بالاختناق… في هذه اللحظة أشعر التغيير… كل شيء حولي مغشوش، مزور، مشوه… الجدران فقط صامدة، الشجر والحجر صامدان، ولكن كل شيء تغير… تغير (بحزن) الزمن لا يعود … لا يعود.
الزوج: إيه … صدقت، الزمن لا يعود، ولكن كيف نصنع زمنا جديدا؟ صدق الحانوتي، نحن طاعنان، مغادران، ليس أمامنا متسع من الوقت لنصنع زمنا جديدا
الزوجة: الشباب … الجيل الصاعد سيصنع زمنه (بحزن) ونحن خارج الزمن.
(يتصاعد الفحيح، ينظران حولهما بقلق شديد) (يعبر مجموعة من الشرطة الرماديين رجالا ونساء، مع عبورهم يتصاعد الفحيح أكثر، ويستمر حتى نهاية المشهد. الرماديون يحملون هراوات لها رؤوس معدنية) (الزوج والزوجة يلوذان في زاوية، الرماديون يضربون على أبواب الحوانيت ويصرخون)
الرماديون: افتخ… افتخ ..
(يكسرون الأبواب، أحد الرماديين يلمح الزوجين ، ويقترب منهما)
الرمادي: ماذا تفعلان هنا؟ تحرضان على الإضراب؟
(الزوج والزوجة ينظران إليه بثبات وصمت)
الرمادي: (يصرخ) تكلما … لماذا تصمتان؟
الزوج: واضح أنك مغتاظ لنجاح الإضراب.
الرمادي: اخرس… كلب…
(يهوي على رأسه بالعصا، يسقط على الأرض مضرجا بدمائه، الزوجة تنظر إلى الرمادي بسخط شديد، وتتهاوى قرب زوجها، تحتضنه، يهوي عليهما، ويجتمع ثلاثة رماديين آخرين معه، يضربونهما بعنف. أبواب الحوانيت مكسرة. فوضى عامة)
..*..
اللوحـــــة الثالثـــــة
المشهد الأول
شخصيات المشهد الأول:
- الشاب
- الفتاة
(في مقبرة الشهداء. في الوسط يقف شاب، يحمل وردة في يده، يبحث بين القبور عن قبر معين. في ناحية ثانية تقف فتاة، في يدها وردة كذلك، تبحث بعينيها عن قبر ما، حتى هذه اللحظة لا يريان بعضهما، يبدوان منهمكين بالبحث).
الشاب: كان هنا (يشير إلى ناحية معينة) شهر مضى على استشهاده … أضعته ! متى احتشدت كل هذه القبور؟
(الفتاة تسمع الشاب، تلتفت إليه ثم تتلفت حولها)
الفتاة: كان هنا … أو هنا … ربما هناك … أضعته .
(الشاب يشعر بها، يلتفت إليها، تقترب منه، يتبادلان النظرات)
الفتاة: أنا أبحث … أظنك تبحث أنت أيضا…
الشاب: نحن تائهان على ما يبدو.
الفتاة: (حالمة) كنا سنتزوج… قريبا كنا سنقيم فرحنا، غافلني، والتحق بالمظاهرة، امتطى كتف أحدهم وهتف… هتف … أصابته رصاصة في رأسه و …
الشاب: مفهوم ، مفهوم… لروحه الرحمة.
الفتاة: وماذا عنك؟ ما حكايته .. أو حكايتها؟
الشاب: أخي، ماذا أقول لك … اغتال خائنا … قتلوه بالمقابل، نعم، حُكم عليه بالإعدام ، استلمت جثته، ودفنته هنا، والآن أبحث عنه…
الفتاة: أضعت القبر؟
الشاب: (يتلفت حوله) القبور تتناسل… تغافلنا وتتناسل.
الفتاة: لروحيهما الرحمة.
الشاب: والمجد والخلود.
الفتاة: (بحسرة) ولكني أرغب أن أهديه زهرتي.
الشاب: وأنا كذلك (ثم بلهجة جديدة) إسمعي: أغمضي عينيك، وأنا سأفعل هذا أيضا، ثم ننثر الزهرتين عشوائيا لتسقطا على قبرين يختارهما الحظ، وهكذا نكون قد واسينا روحين.
الفتاة: (بحماس) وسنطلب منهما أن يبلغا سلامنا لفقيدينا (بحزن) هل سيفعلان؟
الشاب: (مداريا) نعم … بكل تأكيد.
(يغمضان عينيهما وينثران الزهرتين فتقعان أرضا بين القبور)
الشاب: (يفتح عينيه) والآن افتحي عينيك لنرى صاحبا الحظ السعيد.
الفتاة: (تفتح عينيها) عن أية سعادة تتحدث؟ الموت كريه… كريه.
الشاب: الشهداء لا يموتون.
الفتاة: نواسي أنفسنا ونخدعها، ولكن الحقيقة مرة.
الشاب: ومع ذلك أؤكد لك أن الشهداء لا يموتون.
الفتاة: لكن … أين الزهرتين؟
(يلمحان الزهرتين على الأرض)
الشاب: (بحزن) لم يشأ الحظ أن يشمل أحدا دون غيره.
الفتاة: هكذا أفضل… الحظ أراد أن ينثر عبير الزهرتين في الهواء ليكون لكل قبر فيهما نصيب.
الشاب: وهكذا نكون قد بررنا الجميع.
الفتاة: ومع ذلك لن أسامح نفسي إن لم أجد القبر.
الشاب: الليل أوشك أن يهبط… عودي غدا لو شئت.
الفتاة: نعم ، سأفعل.
..*..
اللوحـــــة الثالثــــــة
المشهد الثاني
المشهد الثاني:
- شخصيات المشهد الثاني
- عمال رماديون
(نفس مكان المشهد الأول. نسمع فحيحا، القبور متهدمة، يافطة في الواجهة مكتوب عليها: مشروع إسكان المستوطنين.
عمال رماديون يتحركون ويهدمون ما تبقى من قبور، يتعاظم الفحيح مع التعتيم التدريجي….تعتيم تام، وفحيح مستمر… لحظات ثم يختفي الفحيح. لحظات أخرى ثم إنارة عن المشهد الثالث).
اللوحـــة الثالثــــة
المشهد الثالث
شخصيات المشهد الثالث:
- الشاب
- الفتاة
(مقهى في السوق، يجلس إلى طاولة في الصدر كل من الشاب والفتاة وهما نفس الشابين في المشهد الأول)
الشاب: حدث هذا أمس؟
الفتاة: نعم، كان نائما بينما اقتحموا المنزل،ونزعوه من فراشه، واقتادوه إلى السجن.
الشاب: وأمك … ماذا فعلت؟
الفتاة: كما تفعل أية امرأة تشعر بالظلم… صرخت في وجه الجنود، وشتمت، ضربوها، لم تبك، سقطت على الأرض لكنها لم تبك… كانت تنظر للجندي الذي يضربها بثبات، لم يحتمل نظراتها، أمعن في ضربها إلى أن فقدت الوعي، ركلها بقدمه وغادر. (بحزن) تركتها تئن، وأتيت إليك، ألا تُعتبر هذه خيانة؟
الشاب : (مترددا) لا … لا أعتقد.
الفتاة: تقول هذا وكأنك تُجرّمني. (بهدوء وألم) كنت أضيق بكتم كل هذا في صدري، لذا هاتفتك (منفعلة) لأبوح لك، لأزيح ثقل هذا الجبل الذي أحمله على كتفي.
الشاب: هوني عليك، سنواجه الكثير، الكثير… لن تنتهي آلامنا ببساطة، ادخري قوتك لشيء آخر.
الفتاة: هذا الشيء الآخر يؤرقني، ويضعني أمام دوامة عجزي، علي أن أبتكر وسيلة أتغلب فيها على ضعفي. (تنهض، يمسك يدها، ويحثها للجلوس. تجلس)
الشاب: عليك أن تعيشي، وتنجبي أطفالا يساعدونك، ويكونون امتدادا لك في المواجهة.
الفتاة: (محبطة) أوه … أنت تخطط للبعيد ! وهل سنبقى هكذا حينذاك، هل سنبقى مُستلبين ومُعذبين؟ مضطهدين ومقهورين؟
الشاب: (مستدركا) لا تيأسي، سيأتي الفرج، ولكن علينا أن نتوقع الكثير قبل أن يأتي .
الفتاة: يجب أن يعيش أبناؤنا حياة هانئة.
(الشاب يُخرج حجرا من جيبه، ويقدمه لها)
الفتاة: ما هذا؟
الشاب: مهرك… (مبتسما) أنا أقدم لك هذا المهر، اِقْبليني زوجا.
(الفتاة تضع الحجر بين راحتيها وتبتسم)
الشاب: هيا إليها.
الفتاة: (تضع الحجر في حقيبة يدها) علينا أن نحدد الهدف أولا.
( يُسمع فحيح أفاعي، ينهضان ويخرجان ويداهما متشابكتين).
..*..
اللوحــــــــة الرابعــــــة
شخصيات اللوحة الرابعة:
- أزواج وزوجات في مقتبل العمر
- الرجل الرمادي
(نفس مكان اللوحة الأولى. باب المدينة ينفرج عن فتحة تتسع لشخص واحد، الرجل الرمادي يقف في هذه الفتحة).
في مواجهة الباب يقف الأزواج والزوجات، الرجل الرمادي يبدو متحفزا، يتقدمون نحوه بتحد، يبدو عليه الارتباك. الأزواج يصرخون: الله أكبر .
(يهجمون على الرجل الرمادي، ينتزعون خنجره، يكبلونه ثم يفتحون باب المدينة، يعبرون. نسمع فحيح أفاعي، يُغلق الباب، لا نرى شيئا ولكننا نسمع الفحيح والعراك والفوضى… تعتيم تدريجي، هتافات، أغنية: نحن الشباب لنا الغد …)
تعتيم تام، والعراك مستمر، والهتافات كذلك.
..*..
تمـــــــــــــــــــــــت
صدر للمؤلفة:
- شباك الحلوة 2- كاهن المعبد
3- مقتل شهرزاد 4- الشحاذ حاكما
5- عازف الناي 6- مدينة الرهان
7- حكاية توت 8- الرباط الأزلي
9- والمجموعة القصصية مطاردة النمال
*نشر إلكتروني:
10- (وكر الأفاعي) كتاب يحتوي على أربع مسرحيات.
11- (دموع من رمال) مجموعة قصصية.
12- صدى الروح (كتاب يحتوي على ثلاث مسرحيات)
=*=*=*=*
الفهرس
الموضـــــــــــــوع رقم الصفحة