هيدا غابلر في عرض تجريبي../ د. فاضل الجاف
“فاجأت المخرجة السويدية آنا بيترسون الوسط المسرحي في السويد بتقديمها معالجة جديدة ونظرة مغايرة تماماً في إخراجها لمسرحية ‘هيدا غابلر’ للكاتب النرويجي هنريك إبسن على خشبة المسرح الملكي ‘دراماتن’ في مدينة ستوكهولم.
تستند المعالجة الجديدة إلى النظرة النسوية الحادة لحقيقة الرجال الذين يتنافسون على اهتمام هيدا، بدءاً من شخصية الأب الجنرال المتوفى ذي السطوة الكبيرة، الذي يظل حاضراً حتى بعد وفاته من خلال مسدساته التي تركها لهيدا والتي تلعب بها طوال المسرحية.
الأب، الزوج، العشيق، وصديق العائلة هم رجال يسعون إلى كسب قلب هيدا وإخضاع شخصيتها. ولتجسيد هذه الرؤية بقوة، قامت المخرجة بحذف هذه الشخصيات الثلاث من الحبكة الأصلية للمسرحية، ليأتي ذكرهم من خلال السرد القصصي وألسنة الشخصيات الرجالية.
في تناول بيترسون لمسرحية ‘هيدا غابلر’، هناك شخصية واحدة فقط، هيدا غابلر، وهي تواجه الرجال وتبرز مسدساتها بين الحين والآخر في لعبة مليئة بالتهديد والوعيد. تشعر هيدا بضجر وسأم قاتلين تحت ضغط نزوات الرجال، وبحلول نهاية المسرحية، تنفذ هيدا حكمها بإعدام الرجال ونفسها أخيراً. أما في إخراج بيترسون، فمصير هيدا غير معلوم. هل تنتحر حقاً كما أراد لها إبسن؟ النهاية مبهمة ومتروكة لتفسير المشاهد.
من بين مسرحيات إبسن تعرضت هيدا غابلر إلى النقد والتعرض أكثر من غيرها، فقد عبر عدد من النقاد النرويجيين عن استيائهم من نغمتها السوداوية، وانتقدوا المؤلف بحجة المبالغة في تصوير بلدهم وأخلاقيات الناس فيه تصويرا تسوده الكآبة. وفي هذا الصدد قال الناقد المسرحي بريدو مورغنسترني في أول عرض للمسرحية: رغم النية الصادقة والتمنيات المخلصة، فإن الإنسان يجد صعوبة بالغة في تقصي أفكار المعلم، نحن لا نفهم هيلدا غابلر بل ولا نثق بها لأنها لا تنتمي إلى أناس نعرفهم. المسرحية تعالج قضايا معقدة مثل الحرية، الهوية، والتوقعات الاجتماعية، خاصةً فيما يتعلق بالمرأة ودورها في المجتمع.
النقد الذي أثير حول النغمة السوداوية والتصوير القاتم للمجتمع النرويجي، كما ذُكر من قبل الناقد المسرحي بريدو مورغنسترني، يعكس التحديات التي تواجه الأعمال الأدبية عندما تتعارض مع التوقعات الثقافية والاجتماعية السائدة. من ناحية أخرى، فالتحليل الذي قدمه الناقد هنريك باجر يسلط الضوء على العمق النفسي والتراجيدي لشخصية هيدا، مؤكداً على أهميتها كشخصية مركبة تتخطى الصور النمطية والتقسيمات البسيطة.
شخصية هيدا غابلر، بتعقيداتها وتناقضاتها، تمثل نموذجاً للمرأة التي تتحدى القواعد الاجتماعية والجندرية في محاولة لتحقيق الذات. اختيارها للانتحار في نهاية المسرحية يمكن تفسيره كتعبير عن يأسها وعجزها عن التكيف مع القيود المفروضة عليها، وهو ما يُظهر الصراع الداخلي العميق الذي تعاني منه.
يستكشف إبسن، من خلال هذه الشخصية، موضوعات مثل الإرادة الفردية، الرغبة، والضغوط الاجتماعية بطريقة تثير النقاش والتأمل. هذا التناول المعقد للشخصيات النسائية، كما في حالة هيدا غابلر ونورا في “بيت الدمية”، يبرز مهارة إبسن في تصوير النفس البشرية بكل تناقضاتها وتحدياتها. استخدام تقنية الفيديو لتجسيد الشخصيات والأحداث يعد خطوة جريئة ومبتكرة في عالم المسرح، ويعكس التطور في استخدام التكنولوجيا لإثراء التجربة المسرحية.
الجوانب التي تطرقت لها تشير إلى أن “هيدا غابلر” كمسرحية لها خصوصيتها وتميزها في مجموعة أعمال إبسن، خاصة فيما يتعلق بالطابع النرويجي الذي لا يطغى على العمل بقدر كبير، مما يجعلها أكثر عالمية وقابلية للتأويل. أيضاً، شخصية هيدا التي تتميز بالصمت والجمل القصيرة تضيف عمقاً نفسياً وتراجيدية للشخصية، وهو ما يجعلها محوراً للنقاش والتحليل.
العرض الأول للمسرحية في ميونيخ والذي قوبل بردود فعل متباينة يشير إلى التحديات التي تواجه الأعمال الجريئة والمبتكرة. ومع ذلك، كما تفضلت، فإن شهرة المسرحية نمت تدريجياً واكتسبت اعترافاً عالمياً، بفضل الأداء القوي لممثلات بارزات قاموا بدور هيدا.
أما فيما يخص العرض الذي تتحدث عنه ثمة ممثلة واحدة فقط على المسرح، وهي الممثلة اليكترا هالمان في دور هيدا، اما بقية الرجال والاحداث فيتم تجسيدها على الشاشة بواسطة شريط فيديو. فالتفاعل و لعب الادوار بين الممثلة و الشخصيات المتحركة على الشاشة تشكل بحد ذاتها تجربة فريدة بل و ضربا من التجريب.
وتؤكد هذه الطريقة في العرض على أن المسرح لا يزال مجالاً خصباً للابتكار والتجربة في علاقتها بالتكنولوجيا الحديثة، حيث يمكن للمخرجين والممثلين استكشاف طرق جديدة ومثيرة في العرض المسرحي.
في الختام، مهما اختلفت الآراء حول هذا العرض المحدد، فإنه يعكس رغبة المخرجة والفريق الفني في تقديم شيء فريد ومختلف عن العروض التقليدية، وهذا بحد ذاته يستحق التقدير والإعجاب.