اليونان والرومان والحقبة المسيحية ومسرح الشارع / أ.د محمد كريم الساعدي
رؤية نقدية في مسرح الشارع / الجزء الثالث
إنَّ ظاهرة مسرح الشارع هي ظاهرة قديمة حسب طريقة أداء العرض المسرحي والأمكنة التي يتم العرض فيها، فكل العروض التي قدمت سابقاً في الحضارات القديمة من الممكن أن تنتمي إلى مسرح الشارع من حيث أنها أقيمت خارج حدود وجدران مكان ما، وهذا يجعل الانتماء إلى هكذا نوع من المسرح قابل للتصديق على الرغم من أن هذه التسمية، أي مسرح الشارع، لم تطلق سابقاً بنفس الماهية التي تطلق على مسرح الشارع في هذا اليوم، والاختلاف الحاصل على التسمية أصلاً ، لكن توجد بعض التحديدات التي تجعل مما قدم في اليونان ينتمي الى مسرح الشارع، وكما جاء في المعجم المسرحي بأن: ” ظاهرة مسرح الشارع ظاهرة قديمة لأن عروض الممثل اليوناني ثيسبس Thespis (525 – 456 ق.م ) في القرن السادس ق.م التي سبقت مرحلة المسابقات التراجيدية كانت تتم في الشوارع خارج المعبد “(1) . أي أن ما كان يقدمه (ثيسبس) من الممكن أن ينسب إلى مسرح الشارع، وهذه هي البداية الأولى لمسرح الشارع، وهي تشير إلى الآتي :
- إنَّما قدمه (ثيسبس) هو أقدم من المسابقات التراجيدية، وبالتالي هذا الشكل المسرحي هو أقدم من الشكل المسرحي الذي يقدم في داخل الأماكن المخصصة التي ولدت فيها التراجيديا، ويكون مسرح الشارع أقدم ظاهرة مسرحية من المسرح التقليدي الذي وجد في الحضارة اليونانية، وكلاهما ينتميان إلى نفس الحضارة لكن مسرح الشارع وبداياته هي أقدم من المسرح التقليدي.
- إنَّ انطلاق مسرح الشارع من خارج بنايات المعابد يدل على أن الظاهرة المسرحية منتمية إلى فعل درامي قبل أن تنتمي إلى فعل طقسي ديني كما هو متداول في الكتب المختصة في مجال المسرح التي تذكر أن نشأت المسرح نشأة دينية بحته، بغض النظر عن الموضوع الذي يقدمه (ثيسبس) لكنه كان يقدمه خارج المؤسسة الدينية وليس في داخلها .
- إنَّ ظاهرة المسرح لا يمكن حصرها في مكان محدد كما هو في المسرح التقليدي، بل يمكن أن تقام في أي مكان معين سواء شارع أو غيره، وهذا يشير الى أن ظاهرة المسرح ذاتها هي ظاهرة لا يمكن أن تحدد في بيئة معينة، بل هي تصلح لكل البيئات، وهذا ما تشير إليه بدايات هذه الظاهرة أصلاً .
إنَّ هذه الظاهرة المسرحية التي كانت تقدم في الشارع استمرت في حضارة أخرى وهي الحضارة الرومانية أخذت من الشكل المسرحي المقدم في الشارع نمطاً لها من الحضارة اليونانية من خلال تقديم فعاليات أدائية مسرحية في الشوارع الخاصة في روما وغيرها من المدن، إذكانت مجموعة من : ” الممثلين الإيمائيين والممثلين الجوالين Jongleurs في الحضارة الرومانية “(2) كانت تقدم الأفعال الفنية التي تمثل صور درامية من مسرح الشارع في تلك الحقبة الزمنية. وهذا يدل على أن العروض المقدمة خارج الأسوار والتي استمرت في الحضارة الرومانية، تدل على أن هذا الشكل من العروض كان شائعاً وأستمر في حضارتين مختلفتين ثقافياً .
أما في المجال الديني المسيحي فأولاً إنَّ الجانب الديني حرم المسرح في بداية الأمر عادة مرة أخرى ليجعل من المسرح أداة من الأدوات المهمة في نشر الطقس الديني الكنسي من خلال تقديم العديد من القصص المرتبطة بالمجال الديني المسيحي، أي أن بعد الرفض الذي أبدته الكنيسة في بداية الأمر بضرورة إبعاد المسرح من المجتمع الذي كانت تحكمه التعاليم المسيحية ليتحول الأمر فيما بعد إلى أمر رسمي يصدر من الكنيسة ذاتها من خلال ما قام به البابا (أوربان الرابع) الذي “أصدر فرماناً علم 1264 بالاحتفال بعيد تجسيد المسيح، أو ما يسمى (عيد القربان)، لكي يتم الاحتفال به في كل أنحاء أوروبا من شهر مايو إلى شهر يونيه، وأدى هذا إلى ظهور أول أداء تمثيلي لعدة سلاسل من مسرحيات الأسرار أو المعجزات (والتي مازلنا نستطيع مشاهتها في مدينة يورك) “(3)، هذه التقاليد الأحتفالية التي استمرت لقرون عديدة في الدول التي تعتنق الديني المسيحي.
إنَّ القصة التي تروى عن إدخال الكنيسة للمسرح بدأت في بادئ الأمر في الداخل الكنسي، أي في باحات الكنائس، وذلك من خلال توظيف بعض القصص البسيطة التي تروي جانب من القصة المرتبطة بالمسيح (عليه السلام)، ويرى المشتغلون في مجال المسرح بأن هذه العملية بدأت في ” القرن العاشر، دخلت على طقوس قداس الفصح الكنيسة مسرحية صغيرة من أربعة سطور تصور قيامة المسيح في أبسط صورة درامية ممكنة. والظاهر أن المسرحية الصغيرة أحرزت نجاحاً ، فسرعان ما حليت طقوس القداس في عيد الميلاد وفي غيره من الأعياد المقدسة بشيء من التمثيل. ولما تجمعت هذه المسرحيات الصغيرة أُخرجت من الكنيسة فنظمت في مجموعات تعرف باسم حلقات الأسرار، وكانت هذه المسرحيات مستمدة كلها من الكتاب المقدس ” (4) لتجعل الجانب الطقسي أكثر تشويقاً من خلال توظيف بعض القصص المسرحية، أو بعض الأداءات التمثيلية التي تشارك الطقس الديني في داخل الكنيسة وخارجها، مما يجعل التواصل مع الجمهور أكثر حرية في خارج الكنيسة من داخلها، كون أن المجال الخاص بالالتزام بالطقس الديني يفرض على المشاركين في مجال المسرح عدم الحرية في الإبداع، أي أن الارتباط بالممارسات الدينية ستكون محدودة، لهذا السبب فإنها بدأت بشكل بسيط في الداخل لكنها تطورت في خارج الكنيسة وتحولت إلى حلقات مسرحية أكثر تطوراً من الداخل الكنسي .
من ناحية ثانية جعلت شكل المسرح يتغير من ممارسة مسرحية بسيطة الى ممارسة مسرحية أوسع وأكثر نضوجاً في فعلها الدرامي، والبعض يرى بأن مسرحية الشارع إعادة الماضي لهذا الشكل الدرامي الذي كان قائماً عند اليونان والرومان، أي أن “مسرحيات الأسرار ، هذه في الحقيقة قد حولت قصة الإنجيل إلى نوع من المواكب الوثنية، حيث صورت خلق شخصيتي (أدم) و (حواء) حتى يوم القيامة. وكانت هذه العروض عادة ما تقدم في الهواء الطلق، على منصات أو عربات تجوب المدينة، وتتوقف في أماكن مختلفة “(5) . وهذه الأفعال المسرحية جعلت إشكالية حلّيت المسرح من عدمه ترجع مرة أخرى بين القائمين على الجانب الديني المسيحي، هذه القضية خلّفت صراع فكري مرة أخرى عن الجدوى التي يكون فيها المسرح جزءاً من الدعوة إلى المسيحية من جهة، ويكون جزءاً من الفعل الطقسي الداعي إلى الترويج للكنيسة خارج الكنيسة ذاتها من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة يرى أصحاب الموقف المتشدد من أن هذا العمل ليس من أصل طبيعة الطقس الديني، بل هو مضاف لهذا الطقس، مما يجعل المسرح ذات البعد الوثني في التجوال في الشوارع – حسب ما كان يقدم في الحضارة الرومانية – يشوه المجال الديني المسيحي، ومن ثم سيكون هذا الواقع ” الذي أدى الى خروج مسرحيات الأسرار في القرون الوسطى، من الكنيسة الى الشارع، مثار جدل. فبعض المسؤولين عن الكنيسة كانوا يرمون الى أهداف دينية وراء تقديمها، بينما أراد البعض الآخر تحريم وتجريم ومنع هذه المسرحيات وكأنها أعمال شريرة، في حين أنها كانت بمثابة فرصة يغتنمها العامة للاحتفال والابتهاج بقدرة العناية الالهية، وهي تتجلى في الزمن والتاريخ بطريقة يفهمونها ” (6)، وهذا الفهم لهذه الطريقة التي أصبحت مثاراً للجدل جعلت من سمة الاحتفال في الشارع يقع في ثلاثة أبعاد مهمة لمفهوم مسرح الشارع وهي :
- يعمق هذا الفعل المسرحي لمفهوم مسرح الشارع على المستوى الفني لدى العاملين في المجال المسرحي ضمن هذا الاحتفال .
- ويعمق هذا الفعل المسرحي المفهوم الثقافي لدى الجمهور المشارك لهذه الظاهرة الفنية ذات البعد الديني، كونها مباحة ومشرّعة من قبل رجال الدين، وفيها فعل احتفالي يشترك فيه المؤمن بالطقس الديني المسيحي من جهة والداعي الى قضية الترفيه والمتعة من جهة أخرى.
- ويعمق هذا الفعل المسرحي المجال الديني ويطور من الطقس بطريقة أكثر مشاركة لدى القائمين والداعمين من القساوسة لهذه الممارسة في بعدها الاحتفالي الديني .
إنَّ التطور الحاصل في هذا الفعل الدرامي في المجال الديني والذي أخذ من الشارع مكاناً لقيامه، وأصبح من المرجعيات التاريخية لمفهوم مسرح الشارع، قد تطور بشكل متسارع كونه مرتبط بالمجال الديني الذي يشرعّن للمشاركين في الفعل الدرامي لأفعالهم الأدائية، وهو ما كان محرّم في السابق، كون التحريم كان يحرّم ويجرّم أصل الفعل المسرحي، وأصبح مع مرور الوقت مباحاً للمشاركة، وفي مجال آخر جعل الجمهور يقبل على هذه المشاركة من خلال المشاهدة والتفاعل معها بشكل كبير ؛ هذان العاملان جعلا مسرح الشارع الكنسي إن صح التعبير يتطور ويأخذ أكثر وقتاً في مجال التقديم، أي من قصة مسرحية ذات أربعة مقاطع إلى قصة مسرحية تحوي ألاف الأسطر التي تُقدَم بشكل درامي في الشارع لتشمل أكثر القصص الدينية وأطولها تقديماً للجمهور على شكل دورات مسرحية، ومن ثم ” تتعامل الدورات المسرحية هذه مع قصتين دينيتين أساسيتين على نحو حديثي؛ من الخلق الى يوم الحساب وغالباً ما تندرج بها حياة السيد المسيح من عيد البشارة الى النشور. ومن الدورات المسرحية الإنجليزية المتبقية : يورك ، تشستر، ويكفيك ،كوفنتري، وتشمل كل منهن على (10000)(14000) سطر تستغرق من يوم الى ثلاثة أيام لعرضها، بينما تتجاوز بعض الفرنسيات (50000) سطر تستغرق أكثر من شهر لعرضها” (7) ، هذه الدورات المسرحية هي من أطول المسرحيات ذات البعد الديني التي تقدم في الشارع، ومن ثم تكون المشاركة هي الأوسع حضوراً ، والأطول في الوقت في الدراما الدينية المرتبطة بطريقة وأسلوب مسرح الشارع.
أما في أماكن أخرى من أوروبا كانت تقام مسرحيات دينية أخرى تتناول مواضيع تقدم في شوارع المدن، وهذه المسرحيات ” هي مسرحيات دينية رمزية كانت تقدم في إسبانيا أو البرتغال بمناسبة عيد الرب، وتعالج مواضيع أخلاقية ولاهوتية (القربان المقدس ،السر المقدس والأفخارستيا) . وكانت العروض تقدم على عربات وكانت فيه هزليات ورقصات تخالط القصة المقدسة، وكان يجذب الجمهور الشعبي، واستمرت هذه المسرحيات طيلة القرون الوسطى، وعرف أوجها في العصر الذهبي الى أن منعت سنة 1765″(8) وتسمى هذه المسرحيات (التمثيلية الدينية في عيد الرب ). ومن الملاحظ أن هذه المسرحيات قد خلطت بين الديني والدنيوي في مسرح الشارع، أي بين القصة الرمزية بطابعها الديني والأخلاقي، وبين الرقصات والهزليات التي كانت تقدم في نفس هذه القصة، وهذا يشير إلى أن عملية جذب الجمهور وكسر الجمود الذي كان يرافق تكرار هذه المسرحيات الدينية أن لا يقع بالملل، فكان على العاملين في هذا النوع من الدراما إضافة مجالاً درامياً آخر يكون مجالاً للجمهور المتواجد أن يتفاعل حسياً بشكل مباشر من خلال نشر الفرح والابتسامة في داخل هذا الاحتفال الديني.
إنَّ مسرحيات الشارع التي كانت تقدم في تلك الفترة، وأهم القصص المستقاة من الكتب المقدسة في المسيحية هي قصص كثيرة تتناول موضوعات مختلفة تشمل تقريباً كل الأحداث المروية في داخل الدين المسيحي، إذ “كانت الأحداث الإنجيلية التي منها هذه المسرحيات مكرسة بتنوع وكانت على نحو عام تشتمل على قصص (آدم وحواء) و(قابيل وهابيل) و(نوح) و(إبراهيم) و(إسحاق) و(يعقوب) و(بشارة المسيح) و(تمجيد السيدة مريم المجدلية) و(الرحلة الى مصر) و(التعميد) و(الإغواء) و(المعجزات) و(الخيانة) و(صلب المسيح) و(النشور) و(عذاب الجحيم) و(صعود المسيح الى السماء) ” (9)، وكل هذه القصص جعلت من الجمهور لا يقع في الملل نتيجة التكرار على مستوى القصة الواحدة، بل أن التنوع في القصص والأحداث يجعل من الموضوع أكثر ثراءً، كون المشاهدة لا تقع في مجال واحد، بل في مجالات وأحداث متعددة، بالإضافة إلى الطابع الديني الذي هو في حد ذاته يجعل الجمهور أكثر تواصلاً مع العمل المسرحي. أما طرق العرض في الشارع التي كانت تقدم بها المسرحيات في تلك الفترة فقد “كانت تعرض الدورات المسرحية على خشبات مسرح ثابتة، إلا أن العديد منها كان يستخدم عربات العروض المسرحية (Pageant-Wagons) مثلما يحدث بمواكب أعياد المرفع (carnival) وثلاثاء المرفع حديثاً ؛ وكانت ترعى مسرحيات من قبل نقابات خاصة (اتحادات مهنية ) ” (10)، تجعل من الفعل المسرحي أكثر احترافي، وليس بشكل عشوائي. إنَّ طبيعة النوعين من العروض سواء أكانت تقدم على خشبات مسرح ثابتة، أو من خلال التجوال في شوارع المدن، فهما يقدمان في الأماكن المفتوحة التي تنتمي لمسرح الشارع.
الهوامش
- الدكتورة ماري الياس والدكتورة حنان قصاب حسين : المعجم المسرحي، بيروت : مكتبة لبنان ناشرون ، ب، ت، ص 268.
- المصدر نفسه ،ص 268.
- ألان ماكدونالد ، ستيفن ستيكلي ، فيليب هوثورن : مسرح الشارع / الأداء التمثيلي خارج المسارح ، ترجمة : عبد الغني داود ، أحمد عبد الفتاح ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999.ص12 .
- فرانك م. هوايتنج : المدخل الى الفنون المسرحية ، ترجمة : كامل يوسف ، الدكتور رمزي مصطفى ، بدر الديب ، دريني خشبة ، محمود السباع ، القاهرة : دار المعرفة ، ب، ت ، ص 42.
- ألان ماكدونالد ، ستيفن ستيكلي ، فيليب هوثورن : المصدر نفسه، ص12.
- المصدر نفسه ،ص12.
- جون لينارد ، ماري لوكهارست : المرجع في فن الدراما ، ترجمة : محمد رفعت يونس ، القاهرة : المشروع القومي للترجمة ، 2006، ص113.
- باتريس بافي : معجم المسرح ، ترجمة : ميشال ف . خطَّار ، بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2015.ص96.
- جون لينارد ، ماري لوكهارست : المصدر نفسه ، ص113.
- المصدر نفسه، ص113.