ماذا في بيت (أبو عبدالله)؟ / جبّار ونّاس
كيف يتحرى الإنسانُ في قيمةِ وجودِه وسطَ محيطٍ لايتوانى عن محاولةِ إهدارِ وتعطيلِ تلك القيمةِ التي يجبُ أنْ تكونَ عليا وهذا من موجباتٍ تترافقُ وتتواجدُ إذ هو إنسان؟
وكيف له (الإنسان) أنْ يحتفظَ بمقوماتِ وجودِه الآدمي بعيداً عن مثبطاتِ التداخلِ /مجتمعياً/سياسياً/سلوكياً/نفسياً/آدمياً/حضارياً؟
كلُّ هذه الأسئلةِ وغيرِها لاتكادُ تخرجُ عن حضنِ السؤالِ الأمِّ والقارِ آنفاً وهو عنوانُ هذا المقالً الذي يتجولُ وبهدايةِ السؤالِ ايضا بين تفاصيلِ العرضِ المسرحيِّ (بيت ابو عبدالله) من تأليف وسينوغرافيا وإخراج (انس عبدالصمد) وتقديمِ (فرقة المستحيل) ومن إنتاجِ دائرةِ السينما والمسرحِ في العراق والمقدمِ في مسرحِ الرشيدِ في بغداد بتاريخ 13-1-2024 ضمن مهرجانِ المسرحِ العربي الذي تُقيمُه الهيأةُ العربيةُ للمسرح بدورته رقم(14)
وتبدو قيمةُ السؤالِ في تواترِ حضورِها حين يعمدُ القائمون على إنتاجِ هذا العرضِ بفتحِ مساحاتٍ كبيرةٍ كيما تستوعبَ كثرةَ الأسئلةِ التي تترافدُ عندَ عمليةِ التلقي المباشرِ من قبلِ الجمهور وهم يتداخلون مع اشياءَ وعلاماتٍ وحيواتٍ آدميةٍ منها عائلة ابو عبدالله(محمد عمر- ثريا بو غانمي-أنس عبدالصمد-ومعهم الطبيب المعالج ماجد درندش – فضلا عن وجود مجموعة السواد (سحر الربيعي – ازهر عبد الرزاق نعيم- حسام الدين يحيى معتوك – سجاد حمزة محيسن- يوسف عبد الجبار وعلي محمد قاسم موجد- مصطفى صلاح محمد) وهم يمارسون شكلَ البناءِ الهرميِّ لبيتِ أبو عبدالله ولم تتوانَ كلُّ هذه الموجوداتُ عن إنتاجِ صدماتٍ كثيرةٍ بعضٌ منها صالَ وبقصديةٍ حادةٍ صوبَ الجمهورِ كالذي حصلَ مع تواترِ تدفقِ الجرذان وكأنَّ بالجمهورِ صارَ أمامَ مداهمةٍ تحملُ بين طياتِها شراهةَ الإستهدافِ الصارخِ لمقوماتِ وجودِ مَنْ يُماثِلُهم بالآدمية (أسرة أبو عبدالله) وبعضُها الآخرُ صارَ يخففُ من غلواءَ صدمتِه إلا أنَّه حازَ على تواجدٍ دائمٍ وعلى مدارِ زمنِ العرضِ كما هوالحالُ مع (صريج) القضمِ بأسنانِ الفأرِ وإثارةِ الإزعاجِ بهدفِ يقظةِ المتلقي وبقائِه في إنشدادٍ وتوترٍ منذ بدايةِ العرضِ حتى الخاتمةِ فيما موجوداتٌ ماديةٌ ليس لها من الحياةِ (كالغسالة-آلة الجلو-الكراسي-مائدة الطعام-الميكرفونات-جهاز الملاكمة-مقعد التواليت-والحبال التي تدلت-وغيرها) صارت هي الأخرى دوالاً على حركيةِ الإنقراضِ والعزلةِ والإستهدافِ والتمادي بفعلِ الأثرِ القادمِ من خارجِ أسوارِ البيتِ وايضا من حالةِ الخواءِ وذوبانِ الإنسجامِ مابينَ مكوناتِ الاسرةِ
غير أنَّ لهذه الأدواتِ من الفعلِ الدالِ ما يوازيها في الأثرِ يتمثلُ بتلك الجدرانِ التي اضحتْ بيتاً وايضا تحولتْ كصواهرَ يُصهرُ ويختنقُ بداخلها ذلك الإنسانُ ومحاولةُ التضييقِ عليه ليبقى يعاني من العزلِ والتهميشِ ومن تناسلِ الأمراضِ الإجتماعيةِ التي تسللتْ إلى جسدِ أسرةِ أبو عبدالله وإزاء تصيُّرٍ جديدٍ في بناءِ مشهديةٍ مغايرةٍ فنكونُ أيضاً مع مراماتٍ قصديةٍ أمسكتْ بها قدرةُ الإخراجِ صارتْ تتناثرُ عبرَ ترسيماتٍ أدائيةٍ تمثلتْ بهيمنةٍ جسدِ الزوجةِ (ثريا بوغانمي) إذ هي تدعُ لممكناتِ جسدِها لأنْ تجترحَ أمامَنا لغةً يترجِمُها لنا تكورُ ذلك الجسدِ الذي صارَ يتبارى مع دقائقَ لحظاتِه زمانياً ومكانياً وهو يتدفقُ بمفرداتِ الخيبةِ والألمِ وإصدارِ النداءاتِ العميقةِ في قصديتِها التي تكادِ تتوازى مع سكونيةِ الزوج (محمد عمر) حين يفتتحُ المشهدَ الإستهلاليَّ للحدثِ المسرحي ومُقامُ صمتِه وسكونيتُه تشي على مقدارٍ من التوقعِ لما هو قادم.
وحتى بدخول (انس عبدالصمد) والأفعالُ التي قامَ بها وبعضٌ منها يشي بالإنفصامِ فقد جاءَ لكي يُعطيَ الخيارَ الراجحَ عندَ الجمهورِ كيما يكونَ على درجةٍ واضحةٍ من إستشرافِ المقاصدَ التي فاضَ بها متنُ العرضِ نحو ذلك الجمهورِ وايضا في دخولِ المعالجِ (ماجد درندش) الذي حمل على عاتِقِه إعادةَ الحياةِ بعد أنْ دبَّ الموتُ والفتورُ إلى الجسدِ الأسريِّ في بيت ابو عبدالله وأيضاً ليكونَ واحداً بينهم ليرفعَ من أزرِ إتحادِهم وعودةِ الألفةِ والقوةِ بينهم.
وتبدو تلك المزاوجةُ في حركةِ مجموعةِ السوادِ حين ينتدبون في حركاتِهم بعضاً من سيماءِ الجرذان في المداهمةِ ومحاصرةِ مَنْ بداخلِ البيتِ عبرَ الدفعِ بتلك الجدرانِ لغرضِ التضييقِ على تلك الأنفسِ الآدميةِ إستثماراً لطاقةِ المجازِ البلاغي والعقلي في التصور والتناولِ الفني المتقنِ في هذا العرضِ
وقد تكمنُ أهميةُ السَّيْرِ في إستحضارِ ممكناتِ الصدمةِ في( الوعي، التأمل، التدارك، الإستنتاج) من قبل (أنس عبدالصمد) حينما يكونُ بترافدِ السؤالِ عن الجدوى والمآلاتِ التي راهنَ عليها وحينما يحظى ذلك السؤالُ بحيويةِ المثولِ الراجحِ وهذا من مفاتيحَ التلاقحً الحي التي ينبغي أنْ يحققَها العرضُ الذي يمكنُ أنْ نُقَعِدَه ب (الثري بالتداول الحي) وحين يلجأ فيه منشؤوه إلى قيمةِ الإزاحةِ المقرونةِ بثباتِ التوجه ووعي ما يمكنُ الإقدامُ عليه فنياً ومعرفياً وجمالياً
فمحو نصِ الكلمةِ كملفوظٍ حواريٍّ ومحاولةُ إستبعادِ ما هو واثبٌ في عملية الإخراج التقليدي لهو رهان يستحقُ الوقوفَ والنباهةَ النقديةَ الناجعةَ في الرصدِ والتحليلِ والتأملِ السليمِ.
وفي ختامِ تجوالِنا بينَ مخاضاتِ (بيت ابو عبدالله) يمكنُ أنْ نُجملَ من تفاصيلِ ما إشتغلتْ عليه منظومةُ هذا العرضِ بالآتي:
ـ نجد أنَّ هذا العرضَ يمشي بظلالِ المغامرةِ وهي مغامرةٌ تُعطي لها قيمةً أنَّ فيها حيويةً وحياةً فلابد من وجودها
ـ يُصرُّ المخرجُ (انس عبدالصمد) على مِعيارِ ما يصبو إليه لأنْ يدخلَ في تداولٍ يتجردُ من عموميةِ الفعلِ المسرحي القارِ والثابتِ في ذاكرةِ الإشتغالِ بعد أنْ يتماشى ومدركاتِ ما تسمحُ لديه مساحةُ المخيلةِ في الإستبصارِ وإستمالةِ ما هو جامدٌ وما هو حيويٌّ وإستثماره كما حصلَ حين عوَّلَ على هذا التحشيدِ والمزجِ ما بين الجسدِ الآدميِّ وبينَ موجوداتٍ إتصفتْ بالجمادً وقد أعطى لهذه الجوامدَ من الفعلِ والإثرِ ما يوازي الفعلَ المجسَّدَ من قبل الاجسادِ الآدميةِ فقد كانت الإضاءةُ بتصميم الفنان (علي السوداني) أحدَ الفواعلَ التي مهدتِ السبيلَ لقراءةِ مفاتيحِ العرض.
فلم تكنْ مكتفيةً بالتوضيحِ لمساراتِ الفعلِ والأحداثِ بل كانتْ إحدى المفاصلِ التي نطقتْ بلغتِها وايضا كانتِ الغايةَ منها المساهمةُ في إدامةِ تفاصيلِ الصدمةِ وإثارةُ أنفاسِ وعيونِ الجمهورِ كما الحالِ مع الضوءِ الذي جاءَ من نهايةِ مكانِ العرضِ ويكونُ بمواجهةٍ حادةٍ نحو الجمهورِ فضلاً عن إستثمارِ تقنياتِ الداتا شو في مشهديةِ تدفقِ الجرذان وايضا بوجودِ تلك العينِ الكبيرةِ التي كانتْ تُحيطُ وتسلطُ حدقاتِها شاخصةً إلى داخلِ بيت ابو عبدالله وايضا في إستخدامِ الطلقاتِ بصوتٍ مرعبٍ وقتلِ أفرادِ البيتِ وعودةِ الحياةِ لهم في تنويه إلى إمكانيةِ الأملِ في تصليحِ الأوضاعِ وإعادةِ روحِ الإنسجامِ من جديد.
ـ إنَّ الغايةَ في تشييد هكذا عرضٍ وبهذا التجريد والقصدية الحادة وإذا ما روعيتْ فيها قدرة التبصر والتمكين الحاذق في تأهيل ذائقة تلقٍ مرنٍ بعيدا عن المغالاتِ والتطرفِ في الطرحِ فسوف تنالُ هذه التجربةُ من الإستمراريةِ والتواصلِ في حيازةِ مساحةٍ جيدةٍ من بين التجاربِ والمحاولاتِ التي ترتكزُ على خصوصيةِ التواجدِ لاسيما وهي تدخلُ في مناقشةِ موضوعاتٍ صارتْ من الكوابلِ التي تعبثْ وتحدُ من قدرةِ الإنسانِ المعاصرِ في العيشِ والإنسجامِ المجتمعي إزاءَ فداحةِ الدورِ الذي تلعبُه مؤثراتٌ داخليةٌ كالذي حلَّ في بيت أبو عبدالله وحالة إنهيار عرى التماسك الداخلي أعطى لأهمية المؤثر الخارجي لأنْ يجدَ له مساحةً في التقويضِ والتهميشِ وتكميمِ الحناجرِ حتى أصبحتْ تصرخُ بلغةٍ غيرِ مفهومةٍ فهذا البيت ورغم شعبية التسمية كمرموز لوطنٍ محلياً بيد أنَّه يسيحُ إلى مدياتٍ أبعد وإلى مشتركاتِ أوسعَ عابرةٍ نحو التنويه لما صار عليه حالُ إنسانِنا المعاصرِ وهو مطوَّقٌ بآثارِ التهميشِ والإقصاءِ والنيلِ من وجودِه جسدياً ومعرفياً من جراءِ سيادةِ التسطيح في العلاقاتِ الآدميةِ وتأهيلِ بوادرِ الإنحطاطِ وفقدانِ بوصلةِ العقلِ النيِّرِ لصالح تقدم المغفلين والحمقى بحسب توصيف (إمبيرتو إيكو) إلى واجهةِ الفعلِ المجتمعي والإنساني فتبدو من الخطورةِ بمكانٍ حين تتمكنُ تلك الفواعلُ من أنْ تعبثَ في البناءِ القيمي والمجتمعي والإنساني داخلياً ليكون لقمةً سائغةً لدى ما هو خارجيٍّ اثراً وفعلاً مُعَطِلاً وتلك هي مساراتُ ما جاءتْ به حيثياتُ ومخاضات بيت ابو عبدالله..