نص مسرحي: “ميراث القطط” / تأليف: محمود أبو العباس

(البيت القديم.. بقايا ألواح خشبيَّة من سفينة مهجورة.. مفردات البيت القديمة والحديثة تداخلت حتَّى أصبحت ركام انتشر في داخل باحة المنزل.. في أعلى وسط المسرح بوَّابة خشبيَّة هي إطار فقط.. التَّشكيل العام يأخذ تخطيطًا غير واضح الملامح.. إلَّا أنَّ أدوات الطَّبخ المعلَّقة على الألواح توحي بالمطبخ.. وغسَّالة ملابس كهربائيَّة في مدخل الحمَّام.. سرير مهترئ.. وبقايا من أدوات تراثيَّة).

 

(المشهد الأوَّل)

 (حزمة ضوئيَّة من جانب المسرح تخترق ظلام المكان.. الشَّاب.. وهو معاق جسديًّا ويعاني في النُّطق أيضًا.. نجده يقف خلف شبَّاك كأنَّه سجن.. يدخل متلصِّصًا حتَّى يصل عند “الثلَّاجة” ليفتحها.. يلتقط شيئًا يهمُّ بأكله بنهم.. عندها نسمع صوت الزَّوجة الثَّانية من خارج المسرح).

 الزَّوجة الثَّانية: مللت.. مللت.. ما كلُّ هذا العناء.. البيت أصبح لا يطاق..في كلِّ لحظة طلب.. طلب..طلب..ما كنت أدري أنَّ مصيري سيكون في يوم من الأيَّام ممرِّضة.

(يدخل الشَّاب يتخبَّط بالظَّلام أثناء الحوار.. فيرتطم بأواني المطبخ.. تخرج الزَّوجة الثَّانية مسرعة).

الزَّوجة الثَّانية: مَن؟ مَن في هذه السَّاعة المتأخِّرة في اللَّيل.. (تصرخ) حرامي..الحقوني.. لص.. حرامي.

الشَّاب: أش.. أش (يحاول إسكاتها) هذا أنا.. حمد.

(يدخل حزمة الضَّوء).

الزَّوجة الثَّانية: (تمسكه من أذنه وتعيده لغرفته) وما الَّذي دعاك للخروج من غرفتك؟

الشَّاب: جوعان.

الزَّوجة الثَّانية: أنت تأكل في كلِّ دقيقة.. في كلِّ لحظة.. ولا أدري أين تخبِّئ كلّ ما تأكله في هذا الجسد النَّحيل.

الشَّاب: لقد نسيتموني أثناء العشاء.. تركتموني محبوسًا في غرفتي.

الزَّوجة الثَّانية: ومَن فتح لك الباب؟ (تتَّجه باتِّجاه باب غرفة حمد)

الشَّاب: القطَّة.. ميو..ميو.. وفتحت الباب القطَّة.

الزَّوجة الثَّانية: (تضحك بتهكُّم) وتسخر أيضًا.

الشَّاب: ليست سخرية.. ولكنَّني عجزت وأنا أدقُّ الباب ولا أحد منكم يسمعني.

الزَّوجة الثَّانية: وأين أمّك الحنون؟

الشَّاب: ذهبت لجلب الدَّواء لأبي.

الزَّوجة الثَّانية: أبوك المعطوب.. لا يصلحه كل دواء الدُّنيا.

الشَّاب: (بعصبيَّة) حرام عليكِ أن تحطِّي من شأن أبي.

الزَّوجة الثَّانية: (تمسكه من يده وتدفعه لإدخاله إلى غرفته) لقد ضجرت منكم جميعًا.. ومن هذا البيت أيضًا..أفنيت شبابي مع رجل لا يقوى على الحركة.. وابن…

الشَّاب: مهدَّم.. أعرف.. (يدخل إلى غرفته.. مؤثِّر غلق الباب).

الزَّوجة الثَّانية: هيَّا ادخل الغرفة قبل أن أفرغ كل قهري فيك.

الشَّاب: لا جديد فيما تفعلين.. هكذا أنتِ مثل غيركِ.. نشوتكِ عندما يداعبكِ الخير.. ولكنَّكِ لا تقوين على تحمُّلي أو تحمُّل أبي المعلول.. الَّذي لم يدَّخر من عمره إلَّا الهموم الَّتي قصمت ظهره وجعلته مقعدًا.. أي عذاب ستجنين من هذا الطُّغيان!

الزَّوجة الثَّانية: إذا لم تلزم الصَّمت فسأحرق كتبك الَّتي شوَّهت هذا الدَّماغ الصَّغير.. وجعلت لسانك أطول من جسمك.

الشَّاب: لقد حرقتِ قلبي.. وما زلتِ توقدين ما تبقَّى من روحي.

الزَّوجة الثَّانية: لا أدري متى أتخلَّص من دار العجزة هذه! (تخرج).

(من الباب الأوَّل تدخل الزَّوجة الأوَّلى.. وهي متوسِّطة العمر..تمتاز بالحيويَّة والنَّشاط).

الزَّوجة الأولى: ما هذا الصُّراخ.. الصَّوت في هدوء اللَّيل فاضح.. أما تعبتِ من الشَّكوى؟

(الزَّوجة الثَّانية تتهكَّم باستهزاء).

الشَّاب: (يطل من شبَّاك معلَّق) أمّي.

الزَّوجة الأولى: حمد.. أنت في غرفتك!

الشَّاب: أعادتني السَّجَّانة إلى مكاني.. لم أهنأ بلحظات الرَّاحة الَّتي جادت بها كفّكِ عليَّ.

الزَّوجة الأولى: تعال واخرج.

الشَّاب: الباب مغلقة.

الزَّوجة الأولى: ومن أغلقها؟

الشَّاب:قلت لكِ.. السَّجَّانة.

الزَّوجة الأولى: انتظرني.. حيث أصل إلى أبيك.

(تدخل الأولى وهي تحمل الملابس المتَّسخة باتِّجاه الغسَّالة).

الشَّاب: طيِّب افتحي الباب.. نحن في منتصف اللَّيل ولا أحد سيأتي إلى البيت.. ليعرف أنَّ ابنكم المعاق.. عار وبلوى..

الزَّوجة الأولى: (تذهب إليه لتخرجه) لا تقل هذا يا ولدي.. أنت قرَّة العين ووديعة للأيَّام القادمة.

الشَّاب: ها أنتِ تقولين الشِّعر.. وتنظمين قصيدة أمامي.. لكنَّكِ سرعان ما تتخلَّين عنِّي.

الزَّوجة الأولى: أرى الغضب قد تلبَّسك فأصبحت لا تفرِّق بين محبّك وعدوّك!

الشَّاب: ماذا تسمِّين هذه العزلة الَّتي أنا فيها؟ بتُّ أرى العالم من ثقب في الجدار.

(صوت غسَّالة الملابس العالي يقطع الحديث).

الزَّوجة الأولى: كلام النَّاس لا يرحم يا ولدي.

الشَّاب: وما دخلي بكلام النَّاس.. لم تكن رغبتي أن أكون ما عليه الآن.. (يبكي).

الزَّوجة الأولى: تبكي يا ولدي! دموعك هذه أغلى من كنوز الأرض.

(ضوضاء غسَّالة الملابس).

الشَّاب: بتُّ أكره حتَّى الأرض الَّتي أمشي عليها.

الزَّوجة الأولى: لا يا حمد.. لا تحطِّم نفسك بأفكار تفتعلها.

الشَّاب: كلّ الأشياء واضحة.. وليس ثمَّة ما هو مفتعل.. الافتعال الحقيقي هو وجودي بينكم..إذا لم تكونوا بحاجة إلى معاق مثلي..فلماذا لم تتخلَّصوا منِّي؟ ارموني في البحر..أو اقتلوني.. أو…

الزَّوجة الأولى: ومن يفرِّط بالضنى!!

(ضوضاء غسَّالة الملابس).

الشَّاب: إذن دعوني أعيش مثل البشر.. ما العيب في أن يكون لي أصدقاء؟ حتَّى في سنوات المدرسة لم أعثر على أحد يسألني من أنا..ولِمَ أنا هنا.. وكأنَّ كوكبًا آخر قد قذف بي للأرض.

(يدخل الأب وهو مصاب بالشَّلل النِّصفي.. مُقعد على كرسي متحرِّك).

الأب: (يخرج مسرعًا) هواء.. هواء.. هواء.

(يذهب الشَّاب إلى الثَّلَّاجة لجلب الماء).

الزَّوجة الأولى: سلامتك من الاختناق.

الأب: صدري يئنُّ تحت ثقل من صخور.

الزَّوجة الأولى: سلامة صدرك.

(تُخرج له حبَّة صغيرة تحت اللِّسان وتضعها في فم الأب).

الشَّاب: اشرب الماء يا أبي.

(الأب ينظر إلى حمد برأفة.. موسيقى مناسبة.. يشرب الماء).

الأب: اذهب وعد إلى مكانك.

الشَّاب: حاضر يا أبي.. (يرجع إلى الأب) أبي أيضايقك أن أكون بقربك؟

الأب: اذهب.. فقلبي لا يقوى على تذكُّر معاناتي وأنا أبحث عن ابن يعادل العشرات.

الشَّاب: وأنا نصف.

الزَّوجة الأولى: لا تقل هذا يا حمد.

الأب: اتركينا لوحدنا.

(تذهب الزَّوجة الأولى).

الأب: أرى أنَّك تقابل جفائي بألفة لم أجدها فيك من قبل!

الشَّاب: وهل تعتقد أنَّ معاقًا مثلي يمكن أن تعاق عاطفته أيضًا؟

الأب: عجزي ما عاد يفرِّق بين وجوه النَّاس..فكيف بقلوبهم.

الشَّاب: إذا كانت قلوب النَّاس قد قلعتها الأحقاد والطَّمع.. والهروب من المحبَّة.. فتأكَّد بأنِّي ما زلت أحسُّ بجناحيَّ يرفرفان عليك.. لعلِّي أفي لأبوَّتك وحنانك عليَّ.

الأب: جناحاك يرفَّان بالعافية.. وأنت قربي.

الشَّاب: هل صحيح أنَّ مرضك هذا بسبب الحزن من أجلي؟

الأب: هي إرادة الله يا ولدي.. ولكن مثلنا لا تردعه القسوة..حتَّى وهي تحطُّ من قدرنا.

الشَّاب: إذن لماذا لا تردع زوجتك الثَّانية حين تتفوَّه بكلمات أحسُّها كالمطار قفي دماغي.

الأب: لا تقل زوجتك الثَّانية..بل هي أمّك.

الشَّاب: أم ثانية.. الأمومة لا تُجزَّأ.

الأب: ما كنت أعلم أنَّ هذه العزلة تجعل منك فيلسوفًا.

الشَّاب: روحي يعتصرها الدَّمع حين أنظر إليك وأنت لم تعد تقف بتلك القامة المديدة.

الأب: إرادة الله يا ولدي.

الشَّاب: فإذن ما الَّذي شجَّع زوجتك الثَّا… أمِّي الثَّانية..أن تفرض عليَّ كلّ هذه العزلة؟

الأب: النَّاس.. ما عادت تطيق رؤية أبنائها إلَّا وهم أصحَّاء.

الشَّاب: ومَن هم مثلي يجب أن يطردوا خارج المدن؟

الأب: النَّاس عقول.

الشَّاب: وعقولهم لا تقلُّ عن الحجر.. ماذا يجري..حتَّى الحيوانات لا تأنف من أبنائها.. بل أعرف بعض الحيوانات تبكي حين يصاب أبناؤها بعاهة.

الأب: بعض البشر لا يمتلكون صفة من عطف الحيوانات.

الشَّاب: في بلاد الله.. النَّاس تبني دورًا ومدارس لأصحاب العاهة.. ونحن ما زلنا نسبح في العيب.. نغطِّي عيوبًا كثيرة نرتكبها.. ولا نحمد الله على هذا الاختبار.

الأب: اختبار قاسٍ.

الشَّاب: لا تزعل منِّي يا أبي.. حتَّى أنت ما كان يشرِّفك تعريفي للآخرين بأنِّي ابنك.

الأب: من قال هذا؟

الشَّاب: أنا أعرف كل شيء.. خذ بيدي وانهض.

(يحاول الأب النُّهوض بلا فائدة).

الشَّاب: أرأيت.. لا تستطيع الوقوف..إذن نحن الآن متساويان في كلِّ شيء.. عندها هل تسمح لي أن أتخلَّى عنك؟

الأب: (صامت) أ.. أ.. أ…

الشَّاب: تصمت.. وحقّك أن تصمت.. لقد أخرست لسانك زوجتك الثَّانية.. وأنت أعطيتها الكثير.. الكثير.. من أجل أن تعطف عليَّ ولو بكلمة.

الأب: قلت لك هذه أمّك.

الزَّوجة الثَّانية: (تظهر) لست أمًّا لأحد.

الشَّاب: لها أُذن فأر..(يذهب إلى غرفته) جاءت مفرِّقة الجماعات.

الزَّوجة الثَّانية: وتنعتني بكلام أفلج أيُّها الـ…

الأب: اسكتي.

الزَّوجة الثَّانية: نطق أبو الهول.

الأب: إن لم تصمتي فسأكسر هذا الكرسي على رأسكِ.

الزَّوجة الثَّانية: هيَّا انهض وأرني شطارتك.

(الأب يحاول النُّهوض فلا يستطيع).

الزَّوجة الثَّانية: منذ تزوَّجتك وأنت لا تعرف النُّهوض.. تريد أن تنهضبعد أن أصبحت قدماك عجلات.

(موسيقى مناسبة).

الزَّوجة الثَّانية: هيَّا..عد وارقد في سريرك.. سيأتي يوم تبحثون فيه عنِّي فلا تجدوني.

(الزَّوجة الثَّانية تأخذ الأب وتدخله إلى غرفته).

الزَّوجة الأولى: سأفرش لكِ الطَّريق وردًا حين تغادريه.. إذا كان قلبكِ مكتظًّا بكلِّ هذا الكره فما الَّذي يبقيكِ معنا؟ ها أنت قد أجهزتي على آخر قطرة دم في جسد هذا الرَّجل.

الزَّوجة الثَّانية: هذا الرَّجل؟ هل نسيتِ اسمه؟ إنَّه زوجنا نحن الاثنتين.. لي ولكِ حصص فيه.. وأنتِ تعرفين أنَّه يبكي مثل الطِّفل على ظلِّي.. فكيف سأغادره وأترك حصصي فيه؟

الزَّوجة الأولى: لا أعتقد أنَّ هذا البيت.. وبعد أن تحوَّل إلى خراب.. يرقى إلى طموحكِ.. بل إنَّ طمعكِ لا يستطيع الصَّمت خاضعًا لرغبتكِ.

الزَّوجة الثَّانية: سأترك لكِ الجمل بما حمل.. هنيئًا مريئًا.

الزَّوجة الأولى: إذا كنتِ تظنِّين أنَّ البيت جدران وأبواب فأنتِ واهمة.. البيت الحق تُنشئه النَّوايا والألفة.

الزَّوجة الثَّانية: من يسمعكِ يعتقد أنَّ قولكِ يأتي من قلبكِ.. ولا يدور بين ثنايا لسانكِ الَّذي ما ملَّ من ندب الحظ وأنتِ تمضين عمركِ مع رجل لا يحبّكِ.. لو يتكلَّم هذا الكتف..(وتشير لكتفها كإشارة إلى نوم زوجها الأب عليه) لو نطق بكلِّ الكلمات الَّتي قالها وهو يغفو.. لو أنَّ اللَّيل يجمع كل الحكايات لعجزت شهرزاد عن قصصها وتسلَّت بما قال زوجكِ.. زوجي.. وهو يشكو لي من جفافكِ.. أنتِ العاقر.. الَّتي قبَّلتِ الأقدام ليبقي عليكِ.. بل أوهمتِ عقلي وطفولتي.. لأقاسمكِ زوجكِ.. أقصد زوجنا نحن الاثنتين.. حتَّى تحتفظي به.

الزَّوجة الأولى: اخرسي.

الزَّوجة الثَّانية: قولي لي كم من الفلوس والهدايا الَّتي أغرقتِ بها أهلي لإقناعهم بزواجي من رجل بعثر عنفواني وشبابي..بل رضيتِ أن تكوني خادمة لي.. من أجل أن تظلّي زوجة له ويجمعكِ مكان به بشر.. وإلَّا لكانت الدُّروب مأواكِ.

الزَّوجة الأولى: يا ناكرة الجميل.. تخزنين كلّ هذا الحقد في قلبكِ وأنا الَّتي كنت أظنّكِ صديقة العمر!

الزَّوجة الثَّانية: هي هكذا الدُّنيا.. عندما يتهاوى الإنسان فيها لا يجد من يتلقَّفه.. وأنا مازلت في عزِّ شبابي وألف من الرِّجال يتمنَّون تقبيل أظافري.. وأريد أن أظفر بما تبقَّى من العمر..(تقصُّ أظافرها بأسنانها).

الزَّوجة الأولى: نسيتِ كلّ ما فعلتِ.. بلحظة.

الزَّوجة الثَّانية: لم تفعلي إلَّا واجبكِ.

الزَّوجة الأولى: الجحود وإنكار فضل الآخرين.. نبتة نتنة.. لا تترعرع إلَّا في النُّفوس المريضة.

الزَّوجة الثَّانية: أنا مريضة نفسيًّا.

الزَّوجة الأولى: مِن هذا الصَّلف الَّذي يغمر عينيكِ الوقحتين.

الزَّوجة الثَّانية: لا تشتمي.. يا شجرة لا خضرة فيها.. وجودكِ لا طعم فيه.. الحياة ليست بحاجة إليكِ.

الزَّوجة الأولى: رأسي سينفجر من هذا الكلام الأخرق.

الزَّوجة الثَّانية: طبعًا.. لأنَّكِ لستِ أهلًا لسماع الحقائق.

الزَّوجة الأولى: أيَّة حقائق!

الزَّوجة الثَّانية: حقيقة أنَّ ليس فيكِ ما يوحي بأنَّكِ امرأة.

(الزَّوجة الأولى ترفع إحدى أدوات المطبخ وترميها باتِّجاه الزَّوجة الثَّانية).

الزَّوجة الثَّانية: (تتحاشى الضَّربة) هل رأيتِ.. ها قد تدنَّى الحنان الَّذي يغلِّفكِ.. لتكشِّري عن وحش في داخلكِ.

الزَّوجة الأولى: (تنهار باكية) هذا الجزاء.

الزَّوجة الثَّانية: عن أيِّ جزاء تتحدَّثين.. وقد زوَّجتِني من زوجكِ بشرط أن يكون طفلي الأول باسمكِ.. وها أنتِ تتثاقلين من ابن معاق هو ابنكِ في كلِّ الوثائق..دفعت فيه من عافيتي بحمل شوَّه جسدي.

الزَّوجة الأولى: إذا كنتِ لا تخافين من حكم الله.. فهل يخيفكِ بشر.. أنتِ.. أن…

(تنهار باكية وتعاني من ألم في الرَّأس).

(إظلام وموسيقى مناسبة).

 

(المشهــــد الثَّانـــي)

 (الشَّاب يتَّجه صوب التِّلفون في إحدى زوايا البيت).

الشَّاب: ألو..عبيد موجود؟ عفوًا الرَّقم خطأ..لم أقصد.. ها؟ أتكلَّم بصوت منخفض..لأن..لأن..تعرفيني.. مع السَّلامة.. ها.. ولكنَّني سمعت هذا الصَّوت من قبل.. نعم أنا حمد..(يلتفت خائفًا) كيف؟ عرفتكِ.. عرفتكِ..(يضحك). حفظت القصيدة.. مطلعها.. مثل الرَّمل قلبي تتقاذفه أمواج هجرانك.. حلوة..نعم حلوة.. مثل صوتكِ.. لا..أنا لا أريدأن أتخفَّى عنكِ ولكن.. ماذا..وأين رأيتِني؟ وأنا أخرج من البيت.. وتعرفين بيتنا؟ وتعرفين..أنِّي..أنِّي..أنِّي.. لا يهمّكِ هذا؟ تنظرين إلى روحي؟ ماذا يعني هذا؟ وما هذا الكرم؟ أنا سعيد بما أسمع.. أنا سعيد.. مع السَّلامة.

(يفرح كثيرًا ولا يعرف ما يفعل. يعود إلى الهاتف مرَّة أخرى، يُخرج ورقة من جيبه ويقرأ).

الشَّاب: صحيح..لقد أخطأت بالرَّقم (يضغط الأرقام مجدَّدًا) ألو.. ها.. صديقي.. هذا أنا.. على الموعد.. أنتظرك.. أنتظرك.. (يتحرَّك بنشاط وفرح).

 

(المشهـــــد الثَّالــــث)

 (في حزمة ضوء.. نجد الزَّوجة عائشة وهي تدفع بعربة الأب في كلِّ الاتِّجاهات)

الزَّوجة الثَّانية: هل سمعت؟ هذا البيت لي وحدي.. لا تشاركني به زوجتك.

الأب: صديقة عمركِ.

الزَّوجة الثَّانية: أيّ عمر هذا الَّذي يتَّكئ على صديق.. لكلِّ إنسان عالم يسبح فيه.. والَّذي يغرق.. لا مُنجد له.

الأب: أنتِ أسيرة أنانيَّتكِ.

الزَّوجة الثَّانية: أما ترى زوجتك فاطمة تصدر آهات الأسف وهي مبعثرة في شبكة بين ابن معاق وزوج مقعد.

الأب: وأنتِ؟

الزَّوجة الثَّانية: سلبتم منِّي كل أقوالي.. كل إرادتي.. وأريد الآن تعويضًا عن كلِّ سنين غربتي بينكم.

الأب: وهل تعتقدين أنَّ هذا البيت المهجور هو الحل؟

الزَّوجة الثَّانية: لأنِّي ما جنيت منكم ما يلمُّ أيَّامي القادمة.

الأب: ونحن؟

الزَّوجة الثَّانية: تبقون معي في هذا البيت الَّذي سيكون ملكًا لي وحدي.

الأب: اتَّقي الله.. هذه المرأة يتيمة ولا أحد لها..أين تذهب.

الزَّوجة الثَّانية: إلى أيِّ جهنَّم تختار.

الأب: وأنا؟

الزَّوجة الثَّانية: إذا أطال الله في عمرك.. فأنت معي حبيبي.

الأب: تتمنَّين لي الموت!

الزَّوجة الثَّانية: بل أرجوك أن تضمن لي ما تبقَّى.

الأب: وهذا المسكين.. ابنكِ المعاق.

الزَّوجة الثَّانية: ابنها.. ألم تتَّفقوا معي أن ألد الطِّفل ويسجَّل باسمها شرطًا للزَّواج؟

الأب: تخلَّيتِ عنه بعد أن اكتشفتِ أنَّه معاق.. وقبلت هي أن تؤويه.

الزَّوجة الثَّانية:أ فضل لها من القطط الَّتي كانت تملأ البيت تعويضًا عن الأبناء.

الأب: ها أنتِ تغلقين كلّ الأبواب بوجهي.

الزَّوجة الثَّانية: بل أفتح لك بابًا واسعة للرَّحمة بي.

الأب: هواء.. هواء.. هواء.

الزَّوجة الثَّانية: في كلِّ مرَّة تخرج فيها تحتاج إلى كمِّيَّات من الهواء.. تعال أُخرجك إلى الحديقة.. لعلَّ نسمات الخضرة ترقِّق قلبك وتعطيني الفصل في أحقِّيَّتي بالبيت..(تدفعه إلى الخارج).

 

(المشهد الرَّابع)

(موسيقى مؤثِّرة.. نشاهد الزَّوجة فاطمة وقد حملت صرَّة ملابس أو حقيبة وهي تمشي بخطى وئيدة).

الزَّوجة الأولى: لو أنَّني أبقيت على القطط.. وهي تأكل فتات من بقايا طعامي.. لعادت إليَّ بإحساس الألفة..وكسرت عزلتي داخل هذا البيت.. لو أنَّني صنعت من كلِّ أخشاب هذا البيت قاربًا لكنت قد أنقذت نفسي من غرق مُحقَّق..لو أنَّ زوجي الصَّابر على عقري ظلَّ خيمة أستظلُّ بها دون هذه الأفعى لكانت حياتي أكثر بهاءً.. ولكنَّ هذه الـ “لو”زرعوها ولم تثمر.. كيف أودِّع كلّ هذه السِّنين والبيت الَّذي شيَّدته أنفاسي.. وأترك كلّ ما فيه لشريكة جئت بها لتكدِّر صفو حياتي.

(تهمُّ بالخروج.. لكنَّ الشَّاب يخرج من غرفته).

الشَّاب: أمّي.. إلى أين؟

الزَّوجة الأولى: أرض الله واسعة.

الشَّاب: إلى أين؟

الزَّوجة الأولى: لم يعد لي مكان هنا.

الشَّاب: خذيني معكِ.

الزَّوجة الأولى: إلى أين؟ الدُّروب لا تتَّسع لنا نحن الاثنين معًا.

الشَّاب: أذهب معكِ إلى أيِّ مكان تذهبين.

الزَّوجة الأولى: لا.. لا أريد لك أن تضيع مرَّة أخرى.. وأنت في هذا الحال.

الشَّاب: لا تعيديني إلى سجني مرَّة أخرى.. وإذا كانت زوجة أبي هذه هي السَّبب.. فلا بأس أن أكون معكِ.. نعيش معًا.

الزَّوجة الأولى: النَّاس ما عادت لها أفواه تردُّ السَّلام.. من نظرة بدأ كلّ واحد يشكُّ بالآخر.. بل يتمنَّى له الموت وهو يقف بقربه.. كنَّا نسمع عن نظام الغاب.. وإذا به يسوقنا.. بل يعش عش في ضمائرنا.. الكلّ يبحث عن مكان يؤويه.

الشَّاب: وتتخلَّين عنِّي!

الزَّوجة الأولى: بل أنقذك من ضياعي.

الشَّاب: لا تظنِّي أنَّ جسدي هذا عاجز عن فعل شيء..فرأسي يعتمر بالأفكار.. وما زال في إمكان لساني أن يقول الكثير..أنا رجل.. و…

الزَّوجة الأولى: نعم.. (تتحسَّر).

الشَّاب: لا تريدين أن تردّي على ما قلت.. أنا مستعد لأن أعمل ونعيش معًا.. هي تريد أن تأخذ البيت من أبي..معنى هذا هناك مشروع لطردنا نحن الاثنين.

الزَّوجة الأولى: بل حتَّى أبوك.

الشَّاب:أعرف هذا.. وأبي أيضًا يأتي معنا.

الزَّوجة الأولى: نحلم كثيرًا.. (تحاول الخروج).

(يخطف الشَّاب من الزَّوجة الأولى حقيبة الملابس).

الشَّاب: تعالي إلى غرفتي نتفاهم..إنَّهما قادمان.. (يسرعان للدُّخول إلى الغرفة).

(يدخل الأب والزَّوجة الثَّانية تدفعه وهي فرحة).

الزَّوجة الثَّانية: قلت مع نفسي.. زوجي العزيز.. لا يرفض لي طلبًا.. تعال واستلقِ على فراشك.. وكل الأشياء ستكون حسب ما تريد..(تدخله إلى داخل الغرفة).

(رنين هاتف.. تخرج عائشة بسرعة وترفع الهاتف للكلام).

عائشة: (فرحة) ألو.. أهلًا..(محصورة في حزمة ضوئيَّة.. لا تسمع ما تقول ولكن حركاتها تدلُّ على أنَّها تكلِّم شخصًا مهمًّا).

(موسيقى).

 

 (المشهد الخامس)

 (يدخل شاب أعمى يتحسَّس بعصاه المكان.. وهو صديق الشَّاب).

الصَّديق: صاحبي.. يا صاحبي.. ما شاء الله.. ما شاء الله..البيت مثل ما هو.. نفس الخطوط.. والاتِّجاهات.. أشتاق إلى البيوت القديمة.. ياما جلسنا ولعبنا في هذه الدَّار.. عامرة.. عامرة.. إنشاء الله.. أين أنت يا صديقي.

(يخرج حمد مسرعًا).

الشَّاب: أهلًا.. ما الَّذي جاء بك.

الصَّديق: يا أخي لِمَ كلّ هذه العزلة؟ في كلِّ مرَّة أطلب منك أن تأتي معي إلى الحديقة..أو إلى المقهى.. إلى المكتبة.. ولا خبر منك.. أنهيت دراستك وجلست في البيت.. ماذا تنتظر؟ هل تريد من غرفة نومك أن تبحث لك عن العمل؟

الشَّاب: وأين هو العمل؟

الصَّديق: ما الأخبار؟

الشَّاب: لا جديد.. كل الأخبار متشابهة.

الصَّديق: يقينًا منِّي بأنَّ الأخبار المتشابهة ستنقضُّ علينا.. ولا يمكن إصلاح هذا الدَّمار إلَّا بهذه العصا.

الشَّاب: المهم…

الصَّديق: ها..ما الأخبار؟

الشَّاب: عن ماذا؟

الصَّديق: يا أخي أمَّا أنت فعلًا بخيل.. ضيفك أنا.. ولا أجد شيئًا له علاقة بالضِّيافة.

الشَّاب: تشرب ماء؟

الصَّديق: أشربه إذا كان مخلوطًا بالعصير..ويكون أفضل إذا كان مع قليل من الكعك الَّذي يسمَّى بالإفرنجيَّة (الكاتوه).. لقد تعطَّب وتقطَّع قلبنا من (التَّمر والقهوة).

الشَّاب: حسنًا..انتظر.. سأسأل.

الصَّديق:لا داعٍ للسُّؤال.. (يُخرج من جيبه كيسًا فيه قطعة كعك وقنّينة عصير صغيرة)..تفضَّل ضيِّفني.

الشَّاب: فكرة طيِّبة.

(يبدآن بالأكل والشُّرب).

الصَّديق: اسمع.. لقد جئت بأمر هام..(يُخرج ورقة من جيبه)خذ هذه الورقة.

الشَّاب: وما بها؟

الصَّديق: اقرأها.. وستعرف.

الشَّاب: (يقرأ الورقة) لم أفهم.

الصَّديق: أنا الَّذي سيفهمك كلّ شيء.. تعال..(يهمس في أذنه).

الشَّاب: صحيح؟

الصَّديق: طبعًا.

الشَّاب: مستحيل!

الصَّديق:طبعًا.

الشَّاب:هل أنت جاد؟

الصَّديق: طبعًا.

(تدخل الزَّوجة الثَّانية).

الزَّوجة الثَّانية: ما شاء الله.. ما شاء الله.

الصَّديق: حفظك الله.. من هذه الخادمة؟

الزَّوجة الثَّانية: ومن أنت؟

الصَّديق: صديق حمد.

الزَّوجة الثَّانية: وما هذا.. هل أنتم في مقهى؟

الصَّديق: لا.

الزَّوجة الثَّانية: لا.. يبدو أنَّكم في مقهى.. طلباتكم؟

الصَّديق: لو سمحتِ أرجيلة.. ويقال لها (شيشة).

الزَّوجة الثَّانية: حمد.. ماذا يريد هذا الرَّجل؟

الشَّاب: يا زوجة أب…

الزَّوجة الثَّانية: يا أمّي الثَّانية.

الشَّاب: أجل.

الصَّديق: محظوظ.. أنا ما عندي ربع أم.

الزَّوجة الثَّانية: وأين ذهبت؟

الصَّديق: غادرت إلى الدَّار الآخرة.. دارنا جميعًا.

الزَّوجة الثَّانية: ما هذا الفأل السِّيئ.

الصَّديق: حمد.. هذه أمّك الثَّانية أعتقد أنَّها تريد عمرًا أطول..ربَّما تريد أن تكون المعجزة الثَّامنة.

الزَّوجة الثَّانية: حمد..(تذهب بعيدًا).

الشَّاب: نعم..(يلحقها).

الزَّوجة الثَّانية: خذ صديقك هذا واذهب بعيدًا من هنا.

الشَّاب: يعني أخرج معه.. هيَّا..(يذهب ليقوده إلى الخارج).

الزَّوجة الثَّانية: إلى أين؟ ممنوع الخروج.

الصَّديق: وأنا؟

الزَّوجة الثَّانية: بحفظ الله ورعايته.. اخرج.

الصَّديق: صديقي.. تعال..(يأتي الشَّاب).. أمّك الثَّانية هذه صوتها لا يوحي بالثِّقة.

الزَّوجة الثَّانية: ماذا دندنت؟

الصَّديق: دندنت.. بأغنية.. هل تسمعينها؟

الزَّوجة الثَّانية: لا.. هل أنت مطرب؟

الصَّديق: لا.. معلِّم في المدرسة الابتدائيَّة.

الشَّاب: اشتغلت؟

الصَّديق: طبعًا.. اسمع.. اقرأ الورقة جيِّدًا وردَّ عليَّ.. ok؟ سلام على قلب متيَّم هائم.. وعذرًا لقلب غارق عائم.

الزَّوجة الثَّانية: وشاعر أيضًا.

الصَّديق: لا.. جاءت هكذا على السَّليقة.. فليس كلّ مَن اتَّسخت ثيابه عامل.

الزَّوجة الثَّانية: وحكيم أيضًا.

الصَّديق: لا.. جاءت هكذا على السَّليقة.. وأحيانًا تأتي البيضة المسلوقة بلا طعم.. مثل الحديث معكِ.. عافانا الله.

(الشَّاب يأخذ الصَّديق ويُخرجه).

الشَّاب: مع السَّلامة.. سأتَّصل بك.

(يدخل الشَّاب فرِحًا).

الزَّوجة الثَّانية: ما هذه الورقة؟

الشَّاب: (متردِّد) هي…

الزَّوجة الثَّانية: هاتها.

الشَّاب: (يعطيها الورقة متردِّدًا).

الزَّوجة الثَّانية: (تقرأ الورقة وتقذفها بوجهه)كنت أظنّها ورقة مهمة.

(ينحني الشَّاب ليلتقط الورقة.. تقترب عائشة منه).

الزَّوجة الثَّانية: اسمع يا حمد.. أنت لا تعرف حقيقة غائبة عنك.

الشَّاب: كثيرة هي الحقائق الَّتي غيبتموها عنِّي.

الزَّوجة الثَّانية: وإذن.. لابُدَّ أن تعرف.. إنَّ هذا البيت هو ملكي أنا.

الشَّاب: ولكنَّ أبي أخبرني أنَّه سيقسِّم هذا البيت بطريقة الميراث!

الزَّوجة الثَّانية: عندها تفوز بالحصَّة الأكبر.. لا.. يا حبيبي.. أبوك بانتظار الموظَّف الخاص ليعلن له إجراءات تحويل البيت باسمي.

الشَّاب: ونحن.. أين نذهب؟

الزَّوجة الثَّانية: فكِّروا بالأمر.. عندكم فرصة ثمينة.

الشَّاب: هل هذا هو رأي أبي؟

الزَّوجة الثَّانية: هذا هو رأي أبيك.. وإذا لم تصدِّق…(تذهب إلى الغرفة لإحضار الأب).

الشَّاب: هل صحيح ما قالته يا أبتي؟

(الأب صامت).

الزَّوجة الثَّانية: كلّمه.. قل له.

الشَّاب: إذا كان ما قالته صحيحًا.. فأنت بهذا تجهز علينا..أنا وأمّي.

الزَّوجة الثَّانية: خذ أمّك وارحل.. إذا أردت.

الشَّاب: تكلَّم يا أبي.

الأب: ولكن..هذا البيت…

الزَّوجة الثَّانية: كلّمه.. قل له إنَّ حسم موضوع البيت مرهون بأيَّام معدودة

الأب: افهميني.. هذا البيت…

الزَّوجة الثَّانية: (تقاطعه) بيتي.. ثمن شقائي.

الأب: ولكن.. للبيت قصَّة.

الزَّوجة الثَّانية: (تقاطعه) أعرفها.. وأي بيت ليس له قصَّة!

الأب: ليس بيتكِ.. افهميني.

الزَّوجة الثَّانية: بيتي..هو بيتي..هل سمعت؟ وهو غير قابل للقسمة.

الأب: بل إذا كان هناك بيت فعلًا..فسيقسَّم بالميراث.

الزَّوجة الثَّانية: ما هذا.. ماذا تقول! وأنا أخرج هكذا خالية الوفاض من أيَّة غنيمة؟ بعثرت شبابي..وسحقت كلّ الأمنيات.. زرعت كوابيسًا في أحشائي لتخلِّف كائنًا امتصَّ كلّ عنفواني.. وجئت في آخر المطاف لتقول لي ميراث! سترث منِّي ما يقعدك طول العمر ويخرس لسانك إلى الأبد.. عندها تتحسَّر على شربة السُّم كي تنهي حياتك.

الأب: ما وجدت في حياتي معكِ إلَّا هذا الموت البطيء.

الزَّوجة الثَّانية: ولك أن تتحسَّر..على خواء سيطعنك بالصَّميم.

الأب: بإمكانكِ أن تغادري بدلًا من أن تزيدي إليَّ كمدًا يشلّني تمامًا.

الزَّوجة الثَّانية: (تفتح ثوبها من الصَّدر) اذهب يا ابن أمّك وأبيك.. ستلاقي قهري يعثرك.

الأب: اذهبي أنتِ أيضًا حيث تشائين.. ربَّما خيالكِ المريض يطهِّر قلبكِ..فليس لهذا البيت الخرِب إلَّا ملكًا ملقى على الطَّريق.. وليس فيه سبب لأن تهديني جلطة ثانية.. هيَّا ووفِّري جهدًا لأيَّام شبابكِ.

(تخرج الزَّوجة الثَّانية مسرعة.. ثمَّ تخرج الزَّوجة الأولى).

الزَّوجة الأولى: كنت أعرف أنَّك شهم.. ومن بطن طاهرة..هل رأيت يا حمد.. ها هو أبوك يشتري ضياعنا.

(يقبل الشَّاب يد أبيه.. تدخل الزَّوجة الثَّانية).

الزَّوجة الثَّانية: ولكن الأمر لا يعدو كونه مؤامرة لإخراجي من هنا.

الأب: لو كان هذا البيت حقيقة.. لكان ملكًا للجميع.

الزَّوجة الثَّانية: بيتي لوحدي لو سمحت.

الأب: بأيَّة قوَّة تحكمين علينا؟ بأيَّة قوَّة..ها؟

الزَّوجة الثَّانية: نسيت كلّ تضحياتي معك؟

الأب: وأيَّة متعة حصلت عليها هذه المسكينة؟ (يشير للزَّوجة الأولى).

الزَّوجة الثَّانية: لا.. أنت تدفعني للجنون.

الأب: بل أدفعكِ إلى ما هو أكثر دفئًا.

الزَّوجة الثَّانية:ت ضحك عليَّ.

الأب: لا أضحك عليكِ.. بل أصدُّ عنَّا ضحككِ علينا.. كل واحد له حصَّته.

الزَّوجة الثَّانية: ولكن.. ولكن.. أنا أبحث عن حصَّتي الأكبر.. (تذهب لتمسك حمد من يده وتسحبه) ولدي.

الزَّوجة الأولى: الآن اعترفتِ به!

الزَّوجة الثَّانية: بل أنتِ سرقتيه منِّي كل هذه السَّنوات.. تعال يا ولدي.. أنا أمّك الحقيقيَّة.. الَّتي حملت بك وولدتك بعد معاناة لا يعرفبها إلَّا الله.

الزَّوجة الأولى: وأين رفضكِ له! وتلك الأنفة من أن يسمَّى باسمكِ!

الزَّوجة الثَّانية: لا تسمعها يا حمد.. كان شرطًا قاسيًا لزواجي من أبيك.. أن ألدك وتُسجَّل باسمها.. اسألها إذا أردت.

الشَّاب: هل هذا صحيح يا أمّي؟

الزَّوجة الأولى: أنا أمّك.. (تمسكه من يده الثَّانية لتسحبه).

(يكون الشَّاب في الوسط.. وهو في حيرة من أمره.. تتجاذبه المرأتان).

الزَّوجة الثَّانية: بل أنا أمّك.. تريدين أن تحرميني من ضعف حصَّتي بالبيت؟ تحرميني من البيت والابن! (تبكي).

الزَّوجة الأولى: دموع تماسيح.. لا تصدِّقها.

الزَّوجة الثَّانية: بل أنتِ التِّمساح الأكبر.. قولي له مَن الَّذي أسقطه في خزَّان الماء الوسخ وهو طفل.. حتَّى حصل فيه ما حصل.

الزَّوجة الأولى: أنا.. كان ولدي المدلَّل.

الشَّاب: كفى.. كفى.

الزَّوجة الأولى: كانت لعبة ألعبها معك.

الشَّاب: إذن أنتِ السَّبب في هذا الَّذي أنا فيه.

الزَّوجة الثَّانية: كانت لعبة قذرة.. وانتقامًا منِّي.

الزَّوجة الأولى: لم أفكِّر في يوم أنَّك لم تكن ابن قلبي.. فكيف أضحِّي بك.. وأسعى إلى هلاكك!

الشَّاب: إذن هي الَّتي ولدتني!

الزَّوجة الثَّانية: وأجبرتني أن أسجّلك باسمها أمًّا لك..لأنَّها عاقر..(تنظر للأب) لماذا لا تتكلَّم.

الأب: لا أدري متى تنتهي هذه المهزلة.

الزَّوجة الثَّانية: أريد ولدي.

(كلّ واحدة تسحبه من يد).

الشَّاب: الآن أصبحت ولدكِ!

الزَّوجة الثَّانية: كان ممنوعًا عليَّ أن أفضح هذه الحقيقة.

الزَّوجة الأولى: سل قلبك من هي أمّك.

الشَّاب: لا أدري.

الزَّوجة الثَّانية: أنا أمّك.

الشَّاب: كيف تكونين أمّي وأنتِ تحاولين خلع كتفي.. من قوَّة الشَّد.

(طرقات قويَّة على الباب).

الحكومي: (صوت من الخارج) مَن في الدَّاخل؟

الأب: صوت رجل.. هيَّا.

الزَّوجة الثَّانية: (مندهشة) ها.. ما الَّذي جاء به!

الشَّاب: مَن هو؟

الزَّوجة الثَّانية: لا أدري.

الزَّوجة الأولى: لعلَّ صوته يشبه صوت الـ…

الأب: مَن؟

الزَّوجة الأولى: لا أدري.. اسألها.

الأب: كفى.. وهيَّا بسرعة إلى الدَّاخل.. في الأمر ريبة.

(يقترب الشَّاب وهو يدفع أبوه على كرسيِّه).

(يخترق المكان رجل الحكومة.. الحكومي.. يرتدي نظَّارات سميكة.. يعاني من قصر النَّظر.. وبيده دفتر ومجموعة أوراق).

الحكومي: هلكت من الطَّرق على الباب.. ظننت أنَّ هذه الخربة فارغة.

الشَّاب: مَن أنت؟

الحكومي: مَن أنتم.. مَن؟

الشَّاب: لم أسمع من قبل برجل يقتحم دارًا ليسأل أهلها مَن أنتم!

الحكومي: ها.. أنتم أهل الدَّار.. يا أهل الدَّار جاءتكم البشرى.

(تُخرج عائشة رأسها).

الزَّوجة الثَّانية: قلها.

الحكومي: يا عيني.. وهذه أيضًا من أهل الدَّار الجميلة.

الأب: تعال إلى هنا.. هل تعرفها؟

الحكومي: لا.

الأب: (يوجِّه الحديث للزَّوجة الثَّانية) هل تعرفينه؟

الزَّوجة الثَّانية: وهل فيه شيئًا يُعرف.

الشَّاب: قل ما هي البشرى؟

الحكومي: هي إذن الدَّار المرقَّمة 1/44 شارع 7 محلة…

الأب: وصلت.. قل.

الحكومي: يا سيِّدي الجميل.. هذه القطعة المرقَّمة 717 والتَّابعة لمقاطعة رقم 3 في مدينة…

الأب: أكمل ما تقوله بسرعة.

الحكومي: هذا البيت الجميل الَّذي تسكنونه.. مبني تجاوزًا.

الأب: ماذا قلت!

الحكومي: هذا البيت يجب أن يفرَّغ بالحال.. لأنَّه مطلوب للمالك الحقيقي الَّذي يريد إنشاء بيتًا جديدًا بشقق مفروشة ويمكن لكلِّ من يرغب بالسَّكن أن… لحظة.. (يُخرج مجموعة بطاقات تعريفيَّة) تفضَّل هذا العنوان إذا كنت راغب في…

الأب:في ماذا؟ ما هذا الهذيان! أنت تهذي.

الحكومي: بل أبلغك الحقيقة.. يجب أن تخلي هذه الدَّار وبأسرع وقت ممكن.

الأب: وأين تعمل أنت؟ وبأيِّ صفة جئت تنقل هذا الخبر؟

الحكومي: (يعطيه ورقة) هذا نموذج تبليغ لابُدَّ من توقيعه.. وفي هذه الورقة التَّفاصيل (يعطيه ورقة أخرى يقرأها حمد).

حمد: تمَّ التَّبليغ (يوقِّع على الورقة).

الحكومي: شكرًا (يخرج).

(تقترب الزَّوجة الأولى والثَّانية بذهول من الأب).

(يعود الحكومي مرَّة أخرى).

الحكومي: اللَّعنة على النِّسيان.. هناك ضرائب متراكمة عليكم جرَّاء استغلال الأرض للسَّكن دون موافقات (يعطيهم الورقة ويخرج).

الشَّاب: لماذا لم تخبرنا يا أبي بكلِّ هذا؟

الأب: سوء التَّخطيط يجلب المصاعب.. النَّوايا السِّيِّئة مجلبة للنَّحس.

الزَّوجة الثَّانية: معنى هذا ضعنا.. والبيت طار.. أخشابه أصبحت أجنحة وطار.. ليس لي.. ولا لكِ.. ولا لك.. بيت خربة مثل هذالا يصلح إلَّا للحيوانات..وأنا منزلتي في أناس تقبِّل أظافري.. بل يمسحون نعلي..لأسكن مع من أحب في بيت واسع مثل صحراء ممتدَّة..لا أبواب فيها ولا شبابيك.. غبيَّة أنا الَّتي رهنت عمري بين هذه الجدران.. وظللت أقتات أوهامي كل هذه السِّنين.. سأرحل.. سأبحث عنِّي.. عن نفسي.. في كلِّ مكان.. في مكان يتَّسع لكلِّ خيالي.. لكلِّ خيالي.. (تخرج كالمجنونة من البيت).

الشَّاب: بل ما زال في هذه الورقة الَّتي مسحتِ بها الأرض.. ضوء في آخر النَّفق.

الأب: أي ضوء هذا يا ولدي.. أي ضوء؟

حمد: اهدأ يا أبتي.. والآن مَن هي أمِّي الحقيقيَّة؟

(الزَّوجة الأولى تمدُّ ذراعيها.. الشَّاب يدفع العربة باتِّجاه ضوء قادم من جانب المسرح باتِّجاه الأم..فاطمة).

 

الإمارات العربيَّة المتَّحدة – العين (فبراير 2003)

 

ملاحظة جد هامة: 

كل من يتصدى لإخراج هذا النص يجب ان يحصل على موافقة الموقع في شخص مديرته (بشرى عمور) تحديدا

فالرجاء الاتصال على:

الهاتف/ الواتساب: 00212665069189

الأيميل: alfurja.com@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت