طاهر بن أحمد: كيف نقنع الأجيال الرقمية بمسرحية كلاسيكية في علبةٍ إيطالية؟/ حاوره: هاني نديم
طاهر بن أحمد العجرودي، المخرج والمثقف التونسي الرفيع، ضيفي هذا اليوم، إنه أحد أكثر الأصحاب الذين أستمتع بصحبتهم، فهو شغوف بالمسرح حتى يكاد يكون مسرحاً متنقلاً، صوته، مشيته، بلاغته، اشتغالاته الذهنية، أناقته وتحركاته والسينوغرافية المشغولة بعناية حوله. شعلة نشاط ثقافي، أراه أينما ذهبت، مصر، تونس، السعودية، الإمارات، إما يقيم ورشة عمل أو يحكّم مسابقة ما. التقيته في دردشة خفيفة حول تونس والمسرح وهواجس التبدلات الحالية في الإبداع برمته.
سألته:
- بدايةً من المسرح، أبو الفنون، هل حقاً ما زال المسرح الوالد لكل الفنون، أوليس ضرباً من النوستاليجيا أن نحب المسرح ونعمل به مع تغيير كل الوسائل والتلقي اليوم؟
– اعتقد ان مفهوم المسرح يمتد إلى ما هو أبعد من المفاهيم التقليدية للفن، ويتجاوز التعبيرات المجازية ليشمل جوهر الوجود الإنساني. لقد لعب المسرح، باعتباره النسغ الحيوي لتجاربنا المبكرة، دورًا حاسمًا في ظهور التديّن وتنمية الفهم العاطفي لدى الإنسانية. لقد كان بمثابة خروج عن التمثلات الأسطورية والسحرية.
لعل المسرح هو الإشارة البكر لفطام الجنس البشري من حيوانيته و دخوله إلى الحيّوزات الإنسانية. ولذلك حاربته مختلف تمثلات التدين من الشرق إلى الغرب و لكنه بقدرته العجيبة استفاد كثيرا من المرحلة الدينية ليعيد تطوير علاقته بالإنسان داخل المعبد و خارجه . حينها تبدو مناقشة الحنين في هذا السياق أمرا عبثيا شيئا ما لم نتأمل في أشكال الأداء الكلاسيكية، حيث أصبح المسرح متأصلا في وعينا الجماعي. في الحضارات الصناعية المعاصرة والمجتمعات الاستهلاكية، نشأت التطورات و التحديات، جزئيًا على الأقل، من التطبيق الواسع النطاق للتقنيات والآليات المسرحية، وخاصة الدراماتورجيا، في تسويق القيم والسلع. ولعل المسرح، الذي كان مرادفًا للمجتمعات الاستهلاكية، يحمل الآن أهمية متجددة ويعد بإعادة تعريف جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانًا.
كنت أكتب الشعر ولكن قرأت أدونيس.. فجمعت كراريسي وأقمت عليها حفلة شواء للشعر!
- كيف بدأت علاقة شغفك مع المسرح والسينما؟ هل تذكر المشاهدات الأولى؟
– كنت محظوظا بنشأتي المختلفة و الغريبة وسط عائلة كبيرة و ممتدة الأطراف ، اعتقد انه للأب الوالد دور عجيب في تشكيل وعي الذاتي بالممارسة الفنية و تشجيع الأم التي كانت تتأمل بنوع من الشفقة فيما أصنع . أتذكر أني كنت غريبا في وسط تلك البيئة المحافظة حيث كنت أجاهر باقتحامات مضحكة، فأقوم بتمثيل شخصيات وأدوار أفاجئ بها اجتماعات العائلة الكبيرة، واقترح شخصيات مختلفة و أقوم بتركيب شخصيات بواسطة الملابس والحبر الذي كان يخط به والدي رسائله.
لقد ذكرتني بصور بعيدة ربما كانت على علاقة بحكايات الليل التي كانت تقصّها أمي أو بالحكم و المواعظ والأخبار والسير التي كان يرددها الأب الوالد أعيد تجسيمها بطريقتي مع إضفاء جانب من السخرية والتهكم، أظنها أولى المشاهد التمثيلية التي استعرت فيها المسرح لكي أرفض أو أقاوم، بالنسبة للسينما كنت محظوظاً رغم انتمائي لمدينة صغيرة ولكن كان بها في سنوات الثمانين 3 قاعات سينما تعرض علينا تجارب السينما الأمريكية و المصرية و الهندية، أعتقد أن أول فيلم شاهدته بوعي الطفل كان للفاتنة أورنيلا موتي. معها أدركت أن هناك جمالا أخر خلف تلال بلدتي الصغيرة في الجنوب التونسي.
- ويخطر لي وأنا أسمع حديثك البليغ أن أسألك دوماً لماذا لم تصبح شاعراً؟
– هل تعلم أنه كان خياراً شخصيا؟! الحق الحق أقول لك كنت أكتب كثيراً من السخافات التي أسميها أشعاراً وأدوّن كراريس ملونة بكتابات ارتبطت بحوادث و علاقات متشابكة ومواقف مما يحدث في العالم، حتى صادف يوما إني كنت بمكتبة شهيرة بوسط العاصمة تونس “نبع المعرفة” بساحة من أجمل ساحات تونس وأعلمني القيّم على المكتبة بوصول الأعمال الجديدة لادونيس “أمس المكان الآن” وأخذت كعادتي ركنا لاطّلع على الكتاب، كنت طالبا و بحكم علاقة المودة مع المكتبة كان يمكننا نحن الطلبة من حصص مطالعة دون أن نقتني الكتب وخاصة الجديدة، وهو كرم أحسب اني محظوظ به!
أظن هذه الحادثة وقعت سنة 1994 بعد أن أتيت على أغلب المجموعات الثلاثة لأدونيس المكونة لسفر “أمس المكان الآن” ضحكت و أيقنت أني اقرب لتجارة البيع بالتفصيل منه للشعر وعدت سريعا لبيتي بالمدينة العتيقة و جمعت كراريسي و أقمت عليها حفلة شواء للشعر .. هل انتهت علاقتي بالشعر ؟ ربما لقد حولت ذلك للحياة اعتقد إني أعيش في شكل قصيدة مليئة بالزحافات والعلل.. الشعرية طبعا.
- عن تونس والمسرح التونسي، من أين له كل هذه الهيبة والحضور، اشرح لي الأمر لأفهم.. وكيف تراه اليو
– هل تعتقد أن المسرح التونسي مهم؟ربما إلى حد ما، في تونس، في مستوى السؤال الجمالي على الأقل!.. أعتقد ومعي مجموعة من خيرة صناع الفعل الفرجوي أن المشهد المسرحي اليوم في تونس يقف عند منحدر معرفي مؤلم، طبعا مقارنة بالتجارب العالمية المجاورة. ربما شكل المسرح التونسي في وقت ما ومعه تجارب هامة من سوريا و لبنان و المغرب نوعا من التحدي للممارسات الفنية السائدة في منطقتنا العربية التي كانت دائما في موقع الحذر و الخوف من الفعل المسرحي، بما هو إعادة تمثل للقيم و شروط المواطنة والمشاركة واستباق للواقع وإعادة بناء له في نفس الوقت.
لقد بقيت الرؤية للمسرح التونسي حبيسة لفترات ازدهار قياسية انطلقت في اعتقادي بشكل فعّال مع الخطاب المؤسس للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي أدرج المسرح ضمن استراتيجيات تنمية المجتمع في دولة الاستقلال، فانتعش الحراك المسرحي رغم أنه بقي موجها، ولكن مرحلة السبعينيات و الثمانينات عبّرت بقوة عن أهمية تحرير الإرادة المسرحية ونشوء الشركات و والمؤسسات الخاصة التي اختارت الدفاع عن أسس المسرح الذي يريد المساهمة في البناء المجتمعي ونقده، و اعتبر في ذلك الوقت محركا أساسيا للأفكار الجديدة ولمراجعات اختيارات الدولة في تنمية المجتمعات و ساهمت تلك النهضة في ظهور أسماء هامة ساهمت بدورها في التجارب المسرحية في دول الخليج مثل الكويت والمملكة العربية السعودية وسوريا و المغرب. و لكن المسرح التونسي اليوم كما قلت سابقا هو بصدد طرح أسئلة التأسيس من جديد في علاقته خاصة بالمتفرج الجديد أو الأجيال الرقمية الجديدة هل مازالت تقنعها مسرحية كلاسيكية في علبة ايطالية؟
- حدثني عنك شخصيا، أفراحك وأحزانك، مباهجك وشغفك، عن الأصدقاء والناس والحياة والبلاد
– كيف يمكن اختصار الإجابة على سؤال طويل عريض مثل هذا يا هاني؟ أفضل هذا المقطع الذي كتبته في لحظة رجاء وخيبة أعتقد أنه يعبّر عني بقوة:
أفكر جديا في تأسيس منهج يكشف الفارق بين النهم
و اللهفة.
تحديث المتعة لاكتشاف الخلل البيولوجي في علاقة الممتع بالمتمتع.
تأبين التعابير الميتة نهائيا.
تزويج كلمتين يافعتين مثل الفأس و الحرير .
استبدال الحب بالأكل.
نزع الخوف عن رقة الافتراس.
تجميل كلمة الموت نكاية في العدم .
إلغاء مفهوم الأبدية إلى الأبد.
تبجيل سرمدية الاقتحام.
تسمية الأدغال لتصبح منتزهات طبيعية للحروف و الكلمات اللقيطة.