“الصورة”… تتحدَّث في عرض مسرحيَّة (أبو عبدالله) / د.عزة القصابي
قُدِّمت مسرحية (أبو عبدالله) من تأليف وإخراج وتمثيل أنس عبدالصمد لفرقة المستحيل، والتي عُرِضت ضِمن فعاليَّات مهرجان الهيئة العربيَّة للمسرح – الدَّورة الرابعة عشرة، والذي أُقيم في العاصمة العراقيَّة بغداد…ظهرت الشخصيَّات صامتة، وغاب الحوار لتبرُز لغة الجسد والتعبير الداخليّ للممثِّل، وانبثقت “الصورة” من عمق المسرح، والتي استغلَّها المخرج لتكون عاملًا لدفع الحدث والفعل على الخشبة…فكانت الشخصيَّات تتحرَّك في إطارٍ شبه دائري…فيما تظهر خلفيَّةٌ بانوراميَّة ينغرس “الممثِّل” فيها بأسلوبٍ ساخر؛ للتعبير عن ضيق الحياة وانعدام التواصُل بين الناس، وضياع الأمان… كما تظهر شخوص أُخرى عالقة في أغلال وشَرك خلفية المسرح.
ظهرتْ في المسرحيَّة ثلاث شخصيَّات ساهمت في تطوير الأحداث والسَّير بها في إطارٍ دائريٍ يلتف حول ذوات وحكايات أفراد الأسرة، ومنذ البداية يُمكن ملاحظة أنَّ الأسرة تعيش في حالة انفصالٍ عن الآخر، لذلك كل فردٍ يُصارع ذاته دون أنْ يتواصل مع الآخر؛ فالعلاقة بينهم مبتورة وتمضي في خطوطٍ متوازية.
افتقرتْ حركة الممثِّلين إلى الترابط الإنساني وظلَّت تسير في خطوطٍ متوازية…ومنذ البداية نشاهد المرأة منشغلةً بذاتها رغم وجود الرَّجل/ الزَّوج/ الأب…إلَّا أنَّهما ظلَّا يسيران في خطوطٍ متوازية…واستُخدمت الشاشة الخلفيَّة للتأكيد على ضياع الحياة الاجتماعيَّة بين أفراد الأسرة الظاهرة، مما جعلهم يعانون من الغُربة الفرديَّة…ومع التأكيد على ظهور صورٍ للجرذان للتعبير عن حالة القلق والتَّوتر التي هيمنت على المناخ العام للعرض، والتي تعاني من التفكُّك الأسري، والخوف والرُّعب الذي أصابها في ظل الحروب والدَّمار وانعدام الأمن في العراق، وغيره من البُلدان العربيَّة.
إنَّ ظهور الطَّبيب النَّفسي في المسرحيَّة، أكَّد حالة التشتُّت وانعدام الأمان لدى الأسرة…وتزامن ذلك مع حالة الصمت في الفضاء المسرحيّ؛ بهدف جعل الأحداث تلتف حوله، ثم سرعان ما ترتد إلى عالم الشخصيَّات، باستثناء تقنيَّة الشَّاشة التي استُخدمت بأسلوبٍ حداثي، الذي يظهر في عمق المنصَّة للتأكيد على مجريات الأحداث الدِّراميَّة التي تدور أحداثُها في المنصَّة وجعل المشاهد يتفاعل معها.
إنَّ ارتباط أفراد الأسرة بواقعهم الموجع جعل المسرحيَّة تقترب مِّمَّا يُسمَّى بـ”السيكولوجي دراما”…ويتَّضح ذلك من خلال حالة أفراد الأسرة النفسيَّة، التي ظلَّت تعاني من حالة الانفصال، والانعزال، تعاني نفسيًّا، ومُحبَطة، ومكتئبة؛ بفعل ويلات الحروب التي تكبَّدها الشَّعب العراقيّ في السنوات الأخيرة، لذلك فإن هذه العائلة تعيش في حالة انفصالٍ عن بعضها بعضًا، وتلتف حول ذاتها…على أمل التَّقارُب والالتقاء…ولكن كلا الزوجين ظلَّا منفصلَيْن ذهنيَّا ونفسيَّا عن واقعهما، طيلة العرض!
لجوء المخرج إلى “الشَّاشة” كان الحلَّ الرمزي البعيد عن الواقع؛ لإصلاح وضع الأسرة، التي بدت تائهةً…وكان للتعبير عن ذلك من ظهور الصور، صورة الفئران في شاشة العرض، بأسلوبٍ استعاريٍّ يعكس السُخرية من واقع الحياة… فيما كان الديكور (الجدران) يتحرَّك للتعبير عن تدهور الحياة الاجتماعيَّة.
تميَّز العرض بوجود ممثلين يتمتَّعون بأداءٍ جسديٍّ رشيقٍ في التَّمثيل والاستعراض الرَّاقص، وهُم الفنَّانون: التونسيَّة ثريا بو غانمي، ومحمد عمر أيوب، وماجد درندش… واستطاع الممثلون الذين قاموا بأداء أدوارهم، التعبير عن موضوع العرض، بلغة الأداء الصَّامت…وجاء أداؤهم أقرب للمسرح الملحمي؛ حيث كانت الشَّخصيَّات تنسلخ عن ذاتها، وتبدو غير قادرةٍ على التَّواصُل مع الآخرين، وظلَّت تعيش حالة الدَّهشة، وتبدو مصدومةً من الواقع الذي تعيشه برؤيةٍ موازيةٍ أو اتِّجاه أُحادي.
ومنذ البداية، ظهرت الشَّخصيَّات تعيش حالة انفصالٍ، قلقٍ وخوفٍ، وكأنَّها تعيش في مصحَّة عقليَّة… وقد يتبادر للمشاهد بأنَّهم يعيشون في حالة انفصالٍ نتيجة استخدام التِّقنيَّة ووسائل التَّواصل الاجتماعيّ (السوشيال ميديا)، التي أوجدتْ فجوةً اجتماعيَّة وفكريَّة وثقافيَّة ونفسيَّة بين النَّاس بعد انتشارها، وإنْ كانت الأحداث لم تُظهِر ذلك… وصولًا إلى اللَّحظة التي يبدأ الديكور بالتحرُّك وتضييق الخناق عليها…والشُّعور بالأزمات النفسيَّة التي جعلتهما يعانيان الأمرَّيْن…ويشعران بتردِّي الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وهذا انعكاس للأوضاع القاسية التي عاشها المجتمع العراقيّ في السَّنوات الأخيرة.