حضور القيم و الأخلاق نفي صريح لموت المؤلف!! / هايل علي المذابي
قراءة نقدية مقارنة بين فكرة موت المؤلف في مسرحية “بيت أبو عبدالله” لأنس عبدالصمد وعيش المؤلف في مسرحية “صفصاف” لعلي عبدالنبي الزيدي.
ضمن العروض المسرحية التسعة عشر التي قدمت في مهرجان المسرح العربي الدورة الرابعة عشرة بجمهورية العراق- بغداد 10 يناير وحتى 18 يناير، كان عرض “صفصاف” تأليف وإخراج العراقي علي عبدالنبي الزيدي وعرض “بيت أبو عبدالله ” تأليف وإخراج العراقي أنس عبدالصمد من بين العروض التي أثارت جدلا واسعا بين جمهور نقاد المسرح العربي. وفي هذا المقال نضع المسرحيتين تحت مجهر المقارنة النقدية ونختار فرضية “موت المؤلف ” محور ارتكاز في هذه المقارنة وهي فكرة جاءت امتدادا لما تم طرحه في أول جلسة من محاور المؤتمر الفكري الذي عقد على هامش فعالية المهرجان المعنونة ب”أصداء تجارب موت المؤلف. خلفيات وتنظيرات وتعارضات”.
* مسرحية “صفصاف” للزيدي
تبدأ مسرحية “صفصاف” لعلي عبدالنبي الزيدي، بحوار بين عيّد وسعيدّ اللذين كانا قد أكلا أصابعهم في سنوات الجوع أيام الحرب للبقاء على قيد الحياة، والمؤلف هنا ينحو بمسألة أكل الانسان للحمهِ منحى فلسفي ورمزي أكبر وأبعد مما نجده في رواية “الجوع” لكنوت هامسون الحائز على جائزة نوبل للاداب حين يحيل الجوع بطل الرواية إلى الإقدام على أكل لحمهِ، وأكبر مما نجده في القصة العالمية “يوميات مومياء” للكاتب الياباني “شيمادا ماساهيكو” ترجمة “عاصم السعيدي” حين يقول المؤلف على لسان الراوي في اليوم الثالث عشر، التاسع عشر من أغسطس: “فقدت الكثير من وزني. وجهي يبدو كوجوه الأموات، يتحسن شكله قليلا عندما أحلق.
لقد بدأت أقتات لحمي تشبثاً بالحياة”..
أما نقطة القوة في مسرحية صفصاف ومحورها الجوهري الذي ترتكز عليه فهو فكرة غسيل المعرفة لدلالات اللون الأخضر. ويحدث غسيل المعرفة حين يتم تحويل الجيد فيما يدل عليه إلى سيء أو السيء إلى جيد عبر قنوات تحويل شرعية وموثوقة في المجتمع تماما كما حدث بوضوح حين أعطت الأسماء دلالات معكوسة لمعانيها في مسرحية صفصاف مثل عيد وسعيد بعد إضافة علامة الشدة في بعض حروفها فأصبح معناها عكس ما ينبغي عادة أن تشير إليه كما توضح ذلك حوارات المسرحية…
إن شخوص مسرحية صفصاف ليسوا مصابين بعمى الألوان “الدالتونية” حين لا يفرقون بين الألوان لاسيما الأحمر والأخضر، بل لديهم استنادات صنعت قناعات قوية لديهم تفيد بأن الإشارة الخضراء تعني الوقوف في أماكنهم وعدم التحرك في حين أن انتظارهم لتحول الإشارة من خضراء إلى حمراء للتحرك وهذا الإنتظار يشبه في مجمله ذلك الإنتظار الشهير في مسرحية “في إنتظار غودو” فلا الإشارة تحولت إلى حمراء ولا غودو أتى.
تلك الاستنادات التي يستند إليها شخوص مسرحية صفصاف حول دلالة اللون الأخضر ودلالة اللون الأحمر، لم تأتِ اعتباطاً كلا، فالأخضر هو اللون القومي للإسلام والمسلمين وهو اللون الوحيد الذي لم يذكر بسوء في النص القرآني الشريف فكان لباس أهل الجنة، لكن التشوه الحاصل في المؤسسة الدينية حوله من لون شريف وخير ونماء وجواز مرور إلى لون قمع وشر وتوقف الحياة، وهذا التشوه في الدلالة جاء بعد عملية غسيل معرفي للنصوص الدينية على غرار عمليات غسيل الأموال تماما حيث تم تمرير هذه النصوص الدينية عبر قنوات غسيل للمعرفة حولت غايات النصوص المقدسة من خدمة الخير والإنسان إلى نصوص تكبل الإنسان وتحول دونه ودون تسهيل حياته بل وتم توظيفها نظرا لاتصافها بالمرونة والمطاطية لتخدم أهواء ومصالح شخصية هي أهواء القائمين على تلك المؤسسات الدينية في المجتمع، كما تم توظيفها لتحقق الدمار والقتل والإرهاب رغم تنافي هذه الغايات مع غايات أي ديانة في هذا العالم، مهمتها نشر التسامح وإشاعة السلام والمحبة بين الناس. رغم ذلك فالمؤلف والمخرج الزيدي لا يسير بهذه الدلالة للون الأخضر في هذا المنحى فقط بل يجعلها عامة على جميع المؤسسات في المجتمع خصوصا حين يربطها بإشارة المرور، والمرور في رمزه قوي جدا وواسع جدا إلى حد أنه يتجاوز حدود المحلية وينطلق في رحابة الإنسانية. نعم لقد عاشت العراق منذ أربعين عاما كما نجد في رموز المسرحية بما فيها الرقم أربعين في حروب وصراعات، ومازال أبناؤها يتمنون منذ حرب العراق مع إيران في الثمانينات وحتى عام إنتاج مسرحية صفصاف أن تتغير إشارة المرور من خضراء تبيح الحرب وتجيز مرور الموت في حياتهم وتمنعهم من الحياة إلى حمراء توقف الموت وتنهي الحروب من حياتهم وتجيز لهم المرور إلى الحياة والتنعم بدنياهم، ومواصلة البناء والتعمير في مضامير الحياة الإنسانية.. ولأنها إشارة مرور فهي مهمة جميع المؤسسات في المجتمع أن تتعاون في تغييرها من خضراء تبيح الموت وتجيز الحرب إلى حمراء تمنع الحروب والفتن والصراعات وتوقفها وتجيز الحياة لهم وحقهم في أن ينعموا بها..
*مسرحية “بيت أبو عبدالله” لأنس عبدالصمد
تصدمنا مسرحية بيت أبو عبدالله بعرض مسرحي لا نص له كأنما المؤلف مات أو هي تجسيد حرفي لمفهوم موت المؤلف الذي تحدث به الكثير من النقاد والمنظرين مثل رولان بارت وغيره، لولا أن هذه الفكرة أي فكرة موت المؤلف يمكن رؤيتها أو رؤية أسبابها بوضوح في فكرة مقابلة لها وتشبهها كثيرا وهي موت الإله عند نيتشه . كيف مات المؤلف عند بارت وكيف مات الإله عند نيتشه؟
المؤلف هو إله يخلق ما يشاء من شخصيات ويحدد لها ما يشاء من القيم والمؤلف لا يموت الا عندما تموت القيم في المجتمع فيتساوى النبلاء في أخلاقهم مع العبيد على حد تعبير نيتشه عندما صاح مجنونه معبرا عن هذه الحالة “لقد مات الإله”، ما هي مهمة الإله بعدها وأين يمكن أن يكون له وجود في المجتمع، فالإله فكرة قوامها القيم بكل اتجاهاتها تعيش في ثنايا المجتمع وتفاصيل حياة الناس وعندما تموت هذه القيم والأخلاق فذلك إعلان بأن الإله قد مات، ولم يعد له وجود، والمؤلف بالمثل فإن كان له من مهمة أو وجود فوجوده مرهون بالقيم التي تنشرها شخصيات مؤلفاته ونجدها في تفاصيل حياتهم، وعندما تفتقر أعمال المؤلف إلى القيم والأخلاق فالمؤلف معنويا قد مات ولا وجود له، أليس الأثر يدل على المسير والغيوم تدل المطر والبعرة تدل على البعير، وكذلك القيم والأخلاق تدل على المؤلف وتدل على الإله وبدون تلك القيم والأخلاق فلا وجود ولا حياة للإله أو للمؤلف.
كيف نستدل على موت المؤلف في مسرحية بيت أبو عبدالله؟ هل لأنه لا وجود لنص يدل عليه أم أن تفاصيل المسرحية وحيثياتها تقول ذلك؟
كما رأينا في تفاصيل حياة أسرة “بيت أبو عبدالله” في عرض مسرحية أنس عبدالصمد فإن الثوابت جميعا غائبة عن تفاصيلها وهي غير محكومة سوى بالهستيريا والعبث واللامعقولية هنا يمكن التأكيد على أن المؤلف قد مات ولكن ليس لأنه لم يكتب نصا للمسرحية ولكن لعدم وجود أي قيم تحكم تفاصيل حياة إنسان بيت أبو عبدالله..
مسرحية بيت أبو عبدالله هي رمز لحالة المجتمع العربي .
وإذا كان المؤلف قد مات في مسرحية “بيت أبو عبدالله” لعبدالصمد بموت القيم التي تحكم ذلك البيت فإنه قد عاش وحضر في مسرحية “صفصاف” للزيدي نلمسه بوضوح من خلال شخصياتها وهي تنادي بعودة القيم والأخلاق إلى مضامير الحياة لتستقيم بها سنوات أعمارهم التي ضاعت وهم ينتظرون عودة أخلاق البشر..