ماذا قدمنا للمسرح في يومه العالمي ؟! / بقلم : يوسف الحمدان
فيما كنت أتأمل كلمة الكاتب النرويجي جون فوس ، بمناسبة اليوم العالمي للمسرح ، وولوجه في دواخلنا وذواتنا بالرغم من فرادتها وتميزها وتشابهها في أحيان كثيرة ، سواء في اللغة أو لون البشرة أو الشعر والتي تحدث بلا شك نوعا من المفارقة التي تبدو عصية على الفهم أحيانا ، أو تشكل نوعا من التناقض الجوهري خاصة في الفجوة ما بين الجسد والروح ، إلا أن وقوفه على المنطقة الحرجة وقدرتها على الجمع بين الفريد والكوني ، يتيح لنا أن نفهم ما هو المختلف بينهما ، الأمر الذي يقترح علينا هذا السؤال الصعب والشائك : هل يمكن القول أن كل ما هو غامض يبهرنا أو يدفعنا إلى ما هو أبعد من حدودنا وبذلك يخلق السمو الذي يجب أن يحتويه الفن في حد ذاته ويقودنا إليه ؟ ..
من هذا المنطلق من هذا المنطلق ينبغي علينا كفنانين ، مسرحيين تحديدا ، ” أن نذهب على عكس الصراعات العنيفة التي نراها غالبا في العالم في محاولاتها التدميرية التي تسعى لإبادة كل ما هو غريب، فريد و مختلف وترجيح كفة الإرهاب والحرب ، والحرب وما أدراك ما الحرب ، فهي ” صراع ضد ما يكمن في أعماقنا ، ضد ما هو متفرّد وهو أيضًا صراع ضد الفن، ضد جوهر كل فن ” ، والفن هو السلام .
إن ذهابه الرائي والمسؤول نحو لحظات اللقاء بالجمهور التي تتكون من خلالها حياته غير القابلة للاستنساخ والتي تعكس أعمق الحنايا في أنفسنا وأكثرها شخصية ، والتي تنسج لحظات التعري من الأقنعة .
فيما كنت أتأمل هذا النسج التفاعلي الصامت الذي لا يحتفي بظاهر الأشكال وفقاعاتها الطافرة، بقدر احتفائه في البحث عن موطن و مساحة شاسعة تغطي العالم، تنشأ في أعماق النفس وتسعفها على التحرر والحظوة بالحقيقة اليومية المبهمة غير القابلة للاختراق، لتكون مؤهلة للإبحار في مخيلة الشعب، ولتصبح بذرة مغروسة في أبعد أرض موجودة للمتفرجين عليك ،
أتأمل كلمة المخرج والدراماتورج الكوبي..كارلوس سيلدران أستاذ المسرح بجامعة هافانا ، بمناسبة اليوم العالمي للمسرح
فيما كنت أتأمل هذه الكلمة العميقة الرائية للكاتب النرويجي جون فوس ، استحضرت اللحظة هذه كلمة المخرج والدراماتورج الكوبي..كارلوس سيلدران أستاذ المسرح بجامعة هافانا ، بمناسبة اليوم العالمي للمسرح 2019، حيث وجدت نفسي مرغما على الانجرار إلى واد غير ذي زرع في أرضنا المسرحية العربية إلا من رحم ربي من التجارب المسرحية التي ظلت سامقة باسقة مثمرة بالرغم من اليباب المجاور والمحيط بها ، ومن بين هذه التجارب التي حددت مساراتها المسرحية المخصبة ولم تلتفت أو تأبه بالمحيط بها أو المجاور لها في هذا اليباب ، تجارب المخرج التونسي توفيق الجبالي والمخرج الكويتي سليمان البسام والمخرج البحريني الراحل عبدالله السعداوي هم مخرجون عرب إنسانيون كونيون في رؤاهم المسرحية ، بجانب تجارب بعض المخرجين الشباب الذين نطمح في أن تتحصن تجاربهم من هذا المد اليبابي في أرض مسرحنا العربي، وهي تجارب كما أشرت أتمنى أن تفتح أفقا إبداعيا جديدا في المسرح العربي والكوني مستقبلا ، وأنا في هذه السانحة المتأملة أقف على العرض المسرحي بوصفه أرقى تجليات حالة وفسح الرؤية في المسرح .
وأنا أتشبث ببعض أمل في هذه الأرض ، لا تنفك أشواك الغابة الكثيفة في أرض مسرحنا العربي من أن توخزني وتدميني أحيانا إذا التفت لغير واديها أو انصرفت وتعاطفت مع من يحاول الخلاص من كوارثها ، فبالرغم من كثرة وكثافة العروض المسرحية التي تقدم طوال العام ، منذ أعوام ، في مهرجاناتنا المسرحية العربية ، والتي يختزل بعضها أعواما في مهرجان واحد على صعيد الإنتاج المسرحي ، إلا أن العرض المختبري الرائي فيها يوشك أن يكون شحيحا ونادرا ندرة العطر في الزهور ، لهاث هنا وفوضى هناك وتخبط يوشك أن يسم هذه الكثافة ، والبحث عن المميز في هذه الغابة يوشك أن يكون أشبه بالبحث عن قطرة ماء نقية في مستنقع آسن .
عروض لا تبحث ولا تنطلق من رؤية مختبرية في أغلبها، عروض تروم الحظوة بجائزة المهرجان قبل جائزة العرض والجمهور، عروض لا تحتفي بالفكر ولا بالفلسفة ولا بالرؤية في تجاربها بقدر احتفائها بالطافح على السطح وبالفكرة المجانية، عروض لا تتأمل، لا تتعمق، لا تسأل، لا تشاكس، لا تشكل وهجا يغري هدير الروح والمخيلة، عروض تقدم في هذا المهرجان وعينها على ذاك المهرجان، عروض مطمئنة على خيبتها باعتبارها إنجازا وانتصارا، وكما لو أن فريقها هو الحكم والجمهور والجائزة .
إنها عروض أوشكت إن لم تصبح تشبه بعضها في كل شيء وفي كل مفردة، فالعرض يكرر نفسه في الآخر القادم وكما لو أنه يضفي بعض الحلى والزخارف التي نسيها مخرجه في العرض الذي سبقه، والأداء هو نفس الأداء، وكما لو أن الكلام بعاميته ودارجيته هو من يحسم أمر اللغة والجسد والوعي بفضاء العرض، والمختبر للأسف الشديد بات معلومة موجزة مكررة يتلقى المشاركون في ورشته بعض ما حفظوه وما تم حفظه سلفا، ليصبح العرض في نهاية الأمر خارج إطار المعلومة والمختبر والورشة .
والجمهور هو نحن المسرحيون ، ولا علاقة حتى لجمهور النخبة من خارج إطار المسرح والمسرحيين به وبما يقدمه المسرحيون في عروضهم ، وكما لو أن هذا الجمهور لا علاقة له بمختبرات العرض المسرحي ، وينسى هؤلاء المسرحيين أن أكبر وأكثر المخرجين المسرحيين المجربين والتجريبيين في العالم ، أن أول ما يشغل فكرهم هو اختبار الفكرة ومدى تواشجها أو استفزازها للمتلقي ، هكذا تفعل أريان نوشكين ويفعل تادوش كانتور وروبرت ويلسون وبيتر بروك وأوجينيو باربا وجوزيف تشاينا مع جمهورهم قبل العرض وأثناءه وبعده ، انطلاقا من كون العرض فضاء رحبا تأويليا لمخيلة التلقي التي أغلب مسرحيينا للأسف الشديد أهملوها وهجروها ولم يكترثوا بها على الإطلاق .
إنها عروض تنتظر نتيجة لجنة الحكم قبل انتظارها ردود فعل المتلقي ، ذلك أن أكبر مصيبة وأكبر كارثة ابتلى بها مسرحنا العربي ، هي عروض المسابقة ، وليست عروض المهرجان ، وهذه حالة عربية بامتياز للأسف الشديد ، وإن كانت الجوائز قد تسهم أحيانا في دعم الفرق وتشجيعها على العطاء الخلاق باستمرار ، إلا أنها من الممكن أن تأخذ هذه الجوائز منحى تحفيزيا وداعما للفرق غير أن تكون جائزة في مسابقة ، خاصة وأنها ، بوعي أو دون وعي ، أسهمت في كثير من الأحيان في تشكيل وعي مغاير ومضاد للوعي بالمسرح ومسئوليته لدى بعض الفرق المسرحية ، بإحساسها الدائم أنها الأفضل ، فباتت تكرس بوعي أو دون وعي نفس مفرداتها الفنية والجمالية في كل عرض تقدمه بوصفها منطقة الجذب التي تتجه إليها لجنة الحكم أثناء تقييمها للعرض .
وحتى لا يعتقد البعض أنني متحاملا على المهرجانات ولجان التحكيم ، فإني أؤكد وللمرة الألف ، أن المشكلة في المسرحيين أنفسهم قبل المهرجانات ، فالمهرجانات بالتأكيد لا تدعو إلى تمييع وتسييح التجارب المسرحية ، وإن كانت بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في آلياتها الإدارية والفنية ، أقول المشكلة في المسرحيين ، لأن بعضهم يهندس ويفصل أثواب تجربته المسرحية وفق وحسب نوعية كل مهرجان مسرحي ، وبالتالي ينصرف هؤلاء المسرحيين عن الاهتمام بتجربتهم المسرحية الخاصة بهم وكيفية إنضاجها وتدشينها بالأسئلة الشائكة والمقلقة والمؤرقة التي من شأنها أن تشكل رؤية عميقة في حراكنا المسرحي وتؤثر فيه وفي المتلقين لعروضهم المسرحية .
إن استسهال الكثير من مسرحيينا العرب بأهمية ودور المسرح في محاورة الفكر والمخيلة والتأثير في الحياة بلغة ترقى على الحياة نفسها ، قادهم لأن يتعاطوا المسرح ، وفق إيقاعهم اللهاثي السريع ، بوصفه شيفرات يومية أشبه بشيفرات ( السوشيال ميديا ) ، وكان الأمل أن تصبح هذه السوشيال ميديا لغة فنية تستثمر العصر وتقرؤه من زاوية فكرية عميقة ، بعيدا عن الثرثرة اليومية العامية التي تضج بها هذه القناة اللحظية والبرقية ، إذ كيف يمكننا أن نؤسس لوعي جديد من خلال هذه الثورات المعلوماتية الهائلة والمرعبة ، بدلا من تعاطيها ككلمات وشيفرات لا رابط فكري بينها ولا نسيج يشظي الرؤية من خلالها .
إن هذه الحالة ( الغابوية ) الكثيفة ، أزعم أنها ستطغى على سطح احتفالاتنا باليوم العالمي للمسرح هذا العام ، فالمهم أن نقدم شيئا بهذه المناسبة ، وليس الأهم في ما الذي يليق بهذه المناسبة كي نقدمه فيها ، وتلك الطامة الكبرى ، إذ أن هذه المناسبة ينبغي أن نقدم من خلالها رؤى جديدة وإبداعات مغايرة ، تجعلنا أهلا بها وبالمسرح الذي نتجسده في حياتنا يوميا ، فإذا لم نكن مؤهلين لتقديم ما يليق بالمسرح الذي نريد ونطمح ونحلم ، وبنا كمسرحيين يشغلنا هم المسرح في كل لحظة من لحظات حياتنا ، فلنكتفي بتأمل ومراجعة رؤانا وتجاربنا المسرحية حتى مناسبة قادمة لليوم العالمي للمسرح ، ولنتذكر بعض ما جاء في كلمة الكاتب النرويجي جون فوس 2024 وتقاطعها مع كلمة المخرج الإرجنتيني كارلوس سيلدران للعام 2019 :
” كل أساتذة المسرح يحملون معهم إلى قبورهم لحظاتهم التي يتجسد فيها الوضوح و الجمال و التي لا يمكن أن تعاد مرة أخرى ، كل واحد منهم يضمحل بالطريقة نفسها بدون أي رد للاعتبار لحماية عطائهم و تخليدهم ” .
ويظل السؤال عالقا في الرأس ..
ماذا قدمنا للمسرح في يومه العالمي غير كلمات مناسباتية تقتضيها المناسبة ذاتها ، وغير عروض في أغلبها ترتجل المناسبة ولا تقترب من أهميتها وضرورتها إيغالا وعمقا ورؤية وفلسفة وفكرا ؟ ! ..