تجديدات برخت وتجاوز الجماليات الارسطية / عيسى محسن علي
بعد ان رسخت نظرية الدراما الارسطية اسسها في المسرح وفرضت قوانينها على كتابات المسرح الاغريقي وما لحقه من عصور درامية، ونظراً للتطورات الصناعية والثقافية التي دعت الى ثورة من الابتكار والاكتشاف، وما خلفته الحرب العالمية من دمار للذات الانسانية، التي جعلت من جسد وفكر الانسان مادة ترسخ من خلالها تفسخ القيم الاخلاقية والمعرفية، كل هذا ساعد الى تحلل نظرية الدراما الارسطية التي لم تُعد ذات جدوى، لان الانسان اصبح يعي ان وظيفة المسرح لا يجب ان تكون من اجل المتعة او اللذة فقط ، وانما يجب ان يكون مسرح يدعو للتغيير والثورة على واقعه المُعاش؛ فقد ساهمت آراء برخت الفلسفية الى خلق جماليات مضادة للجماليات الارسطية، سعت الى تشكل اساليب جديدة تحاول ان تعبر عن روح عصرها، وخلق المسرح الجديد مسرح ما بعد الحداثة بما يتوافق مع رؤيته للعالم والعصر الذي يعيش فيه عصر الثورات والحروب، من خلال تبني وسائل مسرحية جديدة تسعى الى اجراء التغيير والثورة، وتقديم الوضع الاجتماعي بكل تناقضاته وعلائقه السياسية والتاريخية؛ كما تجلى المسرح الملحمي لبرختفي رفض لغة المسرح السردية، وتبني لغة مسرحية جديدة، لغة الرقص والحركة والتصوير الفوتوغرافي، وخلق لغة تتأسس على نظام يعتمد على اللوحات والتقطيع والمشاهد القصيرة، وتعدد الازمنة وتداخل الامكنة، وخلق فضاء مليء بالاشارات، واستخدام تقنية الوسائط المتعددة مثل السينما، فقد دعا برخت في نظرية المسرح الملحمي الى ضرورة مشاركة المتفرج مشاركة ايجابية في العرض المسرحي، عن طريق ايقاض وعيه النقدي، بحيث يدرك ضرورة تغيير الواقع، والانسان في مسرح برخت قابل للتغير والتحول .
ومن اهم ابتكارات برتولد بريخت التي نتجت عن المتغيرات السياسية والفكرية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على الساحة الادبية والفنية والمسرحية, ظهور مسرح جديد يقوض ما هو قديم, ويسعى الى استيعاب تلك المتغيرات, فلم يعد حماس التعبيرية بمناداتها وصرخاتها الانسانية قادرة على مواجهة وإستيعاب المشكلات التي أحدثتها الاضطرابات الاقتصادية والسياسية, وهنا ظهر المسرح الملحمي لدى بريخت ليقوم بكسر حد التلاقي بين الارث الحضاري للفن المسرحي والقيود الارسطية التي هيمنت على كتابة النص المسرحي, فكان بريخت محطة مهمة استوقف فيها النص المسرحي, لكسر تلك القيود, والاتجاه نحو استدراج المتن الحكائي بأسلوب يُعاكس التوجه الارسطي, لذلك صار يسمى المسرح البريختي بالمسرح اللاأرسطي, وكان من أهم تجديدات بريخت هي أكتشافه صيغة المسرح الملحمي, وأهم سمة تجديدية لهذا المسرح يمكن استخلاصها من آراء برخت نفسه فهو يرى أن مسرحياته ونظرياته هي ليست صيغاً نهائية بل هي عرضة للتغيير المستمر والدائم، وأن تلك الاعمال التي كان يقدمها مجرد محاولات وهذا يعني ان المسرح غير ثابت ويبقى متجدداً دائماً , لذلك فقد عمل بريخت على تحقيق هذا الرأي من خلال مستويين, الاول يخص الكتابة المسرحية والثاني يخص العرض المسرحي, على صعيد المستوى الاول حاول بريخت معالجة الهموم اليومية بأسلوب فني جديد, وعلى صعيد المستوى الثاني فقد عمد بريخت الى جعل التمثيل يجري وسط الجمهور, مطالباً المتلقي بأن يكون واعياً للتغيير الذي طالب به بريخت وبنفس الوقت يكون مستعداً لإجراء هذا التغيير.
إذ يرى برخت أن التطهير الارسطي يجعل المتلقي يفرغ جميع شحناته العاطفية ويعيد التوازن النفسي الى داخله مما يجعله عاجزاً عن اتخاذ موقف ما, بعد أن يحقق المسرح له الكفاية العاطفية والنفسية, في حين أن مسرح بريخت يحفز الذهن ويهيج العواطف التي تساعد على اتخاذ موقف من أجل فعل التغيير، ويختلف بريخت مع أرسطو في رفضه عنصر التماهي الذي يجعل المتفرج يتطابق مع الممثل ومع الشخصية التي يؤديها, وبذلك فأنه سيكون نسخة ثانية للشخصية الامر الذي يجعله يتبنى مواقفها وكأنه مخدر لا وعي له, في حين أن المسرح بحسب برخت يجب أن يجعل المتفرج واعياً يقظاً ذا شخصية مستقلة لا تابعة قادرة على اتخاذ موقف ما, لذلك فأن برخت أوجد بديلاً للتطهير والتماهي هو التغريب؛ ومن تجديداته استخدامه اليافطات والصور الفوتوغرافية والافلام والكورس لتؤدي وظائف ايقاظية تكسر الوهم, ودعا برخت الى الابتعاد عن التقمص والاندماج, لانها باعتقاده عناصر تخديرية تجعل المتفرج يتلقى العرض وهو تحت تأثير التنويم المغناطيسي, وتجعل الممثل يعيش ازدواجية الشخصية، أما الممثل لديه يجب أن يعي ويدرك كل ما يفعله وعليه أن يدرك أيضاً بأن الشخصية ليست هو, فالشخصية والممثل كائنان منفصلان , لكل منهما كيانه المستقل, وأن ما يقدمه الممثل هو عرض للشخصية وليس تجسيداً لها, وهذا الشعور يجب أن يرسخه الممثل طيلة لحظات العرض المسرحي, وان يوصله الى المتفرج بحيث يستطيع الاخير التمييز بين الشخصية والممثل، وهذه إحدى تجديدات بريخت المهمة في عمل الممثل .
المصادر :
1 – برتولدبريخت ، الاورجانون الصغير ، ترجمة : فاروق عبد الوهاب ، ط1 القاهرة : هلا للنشر والتوزيع ، 2000 .
2- عيسى محسن علي ، التجديد في النص المسرحي ، ط1 ( عمان : دار المناهج للنشر والتوزيع ، 2017 ) .
3 – عبد المجيد اوهرى ، المسرح الجديد : من تحلل نظرية الدراما الى تشكل جماليات ما بعد الدراما ، بحث منشور ، مجلة (المسرح العربي) ، العدد (26) ، المغرب .