خواطر في فن التمثيل 3… أنت والأخر/ محمد الروبي
اعلم صديقي الممثل الشاب أن (أنت والأخر) هو عنوان جامع لمعنى التمثيل، بل هو لب فن التمثيل، فلا تمثيل من دون آخر. أعرف أن هناك من سيقفز الأن معترضا قائلا : “وماذا عن المونودراما؟” .. وحتى المونودراما صديقي بها آخر (وربما آخرين). فأنت تمثل وحدك نعم، لكنك تمثل شخصية في مواجهة آخرين تقوم أنت بتشخيصهم. ومن ثم أنت تواجه آخرين وهم يواجهونك.
والآن نعود للعلاقة (أنت ـ الآخر) ولنر لماذا سميناها بـ (لب التمثيل) لنعرف على وجه الدقة ما الذي علينا أن نفعله مع هذا الآخر (الآخرين).
بداية عليك أن تعلم بل تؤمن بأنك (كممثل) تؤثر فيمن حولك وتتأثر بهم وبما حولك. فأنت تحفّز أو تخذل الممثل الذي أمامك الذي سينعكس شعوره هذا عليك فتهبطا بإيقاع العمل أو ترفعانه إلى حيث المكانة التي يجب. أنت وهو في مباراة بنج بونج تأخذ منه وتعطيه. وحين نقول (تأخذ وتعطي) لا نعني فقط أن تتلقى منه الكلام وتلقي إليه بالرد . لا بل تأخذ الكلام ورد الفعل سواء على الوجه أو في الحركة (إنكسارا أو هجوما أو هربا… إلخ ) وتردهم إليه بأحسن منها. وفي لعبة الـ(بنج بونج) هذه إعلم يا صديقي أن الصمت أحيانا يكون أبلغ من الكلام، فقط حين يأتي في حينه وبقدرٍ يليق بالموقف.
وإذا كانت لعبة (أنا والآخر) هي لب التمثيل فإن مفتاح الجودة يكمن في القانون القائل: “كل شيء بقدر” أو “لا أكثر لا أقل” فأنت تقيس إحساسك ومن ثم ضحكك وغضبك ودموعك بميزان دقيق. فالإفراط آفة التمثيل وقاتله.
“كل شيء بقدر” .. قانون صعب التنفيذ. وكي تحققه عليك أن تعي بأن لكل شخصية إغرائاتها التي يجب أن تتجنبها. هناك شخصيات تغريك بإعلاء الصوت، أو باتساع العينين، أو رفع الحاجب، أو الصراخ غضبا، أو البكاء إلى حد النهنهة. كل تلك المشاعر هي فخاخ تنصبها لك الشخصية لتقع فيها ظناً منك أنك غصت فيها وأنك ملكتها تماما. بينما النتيجة أنك صرت شخصية مفرغة باهتة لا يصدقها أحد. في المقابل لا تبالغ في كبح جماح عواطفك، فتبدو باردا. وهو فخ آخر يقع فيه البعض رغبة منهم في الهروب من الفخاخ الأولى . وتصبح النتيجة وجوه جامدة، وأصوات أقرب للفحيح، وحروف لا تبين. لذلك كان الوسط خير ملجأ . وهو ما لن يتأتى لك إلا بمعرفة القانون (كل شيء بقدر) وترديده بينك وبينك لتذكر به نفسك فلا تسقط في أي من الفخين.
حديث الصمت
تقول الحكمة القديمة «إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب».
وهي الحكمة التي تنطبق تماما على عالم فن التمثيل. فعلى عكس ما يعتقد البعض فإن الصمت لغة، إن أجدت استخدامها (أين ومتى) فأنت تقترب كثيرا من الشخصية التي تؤديها. فالحوار بين الشخصيات ليس كلاماً يروح ويجيء لكنه عالم من التفاصيل والمشاعر يكون الصمت في وسطه كلاماً. أنت تتكلم بعينيك بإهتزاز يديك، بإرتجاف رموشك، بإغماض عينيك. كل هذه التفاصيل هي كلام ولكن بلغة أخرى.
بعض الممثلين للأسف لا يقدرون قيمة الصمت، هم يتكلمون ويتكلمون ويتكلمون وكأنهم يريدون التخلص مما يحفظون. بل إن بعضهم يظن خطئا أن الكلام بسرعة هو تأجيج للإيقاع. وهنا لابد من تذكر القانون الذهبي (كل شيء بقدر). فلا البطء وقار ولا الإسراع حيوية. كلاهما مطلوب لكن متى وأين؟ ذلك هو السؤال.
واعلم يا صديقي أن آفة بعض الممثلين تكمن في طريقتهم في تقطيع الجملة الحوارية. فمنهم من يقسم جملته أجزاء متساوية ينطق كل جزء منها بالإيقاع نفسه فيخرج حديثه منغما رتيبا أو ما يسمى بـالـ (مونو تون) وهو الطريق السهل إلى حيث الملل. بل إن بعض الممثلين يضبط إيقاع حديثه بحركة من يده أو رأسه ليعمق حدة ثبات تقطيع الجمل.
هذه الأخطاء وغيرها (مما سيأتي) تعيدنا مرة أخرى إلى دعوة (إعرف نفسك). فربما كنت أنت تتحدث في الحياة بهذه الطريقة، ربما كنت تشير بهذه الطريقة أثناء الكلام، ربما كنت حين تغضب تغيم الحروف بين شفتيك ولا تبين .. وربما وربما وربما. لذلك عليك قبل أن تبدأ التمثيل أن تعرف من أنت، ما رد فعلك في المواقف المختلفة فتتجنبه.
ولنعد الآن إلى قيمة الصمت. وهي القيمة المشروطة بسؤالين :(متى و كيف ؟). فالصمت في حد ذاته ليس ميزة، لكنه يكون كذلك إذا ما عرفت متى وكيف وبأي قدر. فالشخصية الدرامية يا عزيزي لا تتحدث بالكلمات فقط. لكنها تتحدث أيضا بنظرات العين، وبإرتجاف الجفن وبلفتة العنق و .. و.. و.. وهو ما ستحدده معرفتك الدقيقة لما تكون عليه هذه الشخصية.
لا تنفعل أرجوك
ربما يثير هذا الرجاء دهشة البعض ويسأل كيف يُطلب من ممثل عدم الإنفعال.. أوليس التمثيل إنفعالاً؟. هذا السؤال يا عزيزي هو تعبير عن وهم آخر من الأوهام المنتشرة عن فن التمثيل. لا يا صديقي التمثيل ليس إنفعالا بل هو تمثيل الإنفعال. الإنفعال يا صديقي قد يجعلك تبرع في لحظة من لحظات الدور فيصفق لك الجمهور منبهراً . لكنك لن تستطيع الحفاظ على هذا الإنفعال طوال أدائك للدور، فيتعجب الجمهور كيف برع هذا الممثل في تلك اللحظة ثم تراجع أداؤه في بقية اللحظات؟
تذكر دوما أنك تمثل دورك كل يوم، وأن تغييب عقلك وفتح الباب لسيطرة الإنفعال لن يجعلك تحافظ على ثباتك فتصبح كمن يتأرجح بين صعود وهبوط وتضيع منك مفاتح الشخصية بوهم أنك كنت (مندمجاً).
التمثيل يا عزيزي هو فعل عقلاني تماما. فأنت بعقلك ووعيك تمثل الإنفعال لا تنفعل. أنت تقلد إحساساً ما في لحظة ما. وإلا كيف ستتذكر حوار الشخصية؟ كيف ستتذكر الحركة التي رسمها لك المخرج؟، كيف ستتأمل فيما تسمعه من زميلك الذي يؤدي شخصية أخرى فتجيبه بما يلائم ما سمعت؟ كيف ستسيطر على يديك وأنت تخنق زميلتك؟. إن الإنفعال هو فخ يقع فيه بعض الممثلين ظناً منهم أن ذلك هو الغوص في الشخصية. تماما كما وهم (التقمص).
اعلم يا صديقي أن الفارق بين ممثل وممثل هو المقدرة على الكذب. نعم الكذب ولا تتعجب. كلما كنت كذوبا كلما كنت ممثلا قديرا. مرة أخرى لا تتعجب، واسأل نفسك : ما الكذب ؟. الكذب هو إخبار الآخر بغير الحقيقة ؟ وما فن التمثيل ؟ إنه إخبار الآخر (المتفرج) بغير الحقيقة بل وإقناعه بها. أنت تخبره بأنك هاملت أو ماكبث أو رجل شرطة أو لص أو محب ولهان أو… أو ..أو..أنت هنا وبكل بساطة تكذب عليه. فإذ لم تكن قادراً على حبك كذبتك وإتقانها فأنت – وببساطة أيضا – ممثل فاشل.
إذن كيف ستكذب وأنت منفعل؟ كيف ستتقن كذبتك وأنت تارك نفسك لإنفعال تظنه صدق فني. الممثل الجيد هو الذي يعرف متى يبكي (مثلا) .. فيجهز نفسه لهذه اللحظة من قبلها. ومعنى أن تجهز نفسك يعني أنك واعٍ تماما ومترصد تماما لهذه اللحظة ومستعد لها. أو كما قال الفيلسوف الفرنسي (دنيس ديدرو): “إن دموع الممثل تنزل من عقله، أما دموع الرجل العادي فتصعد من قلبه”.
كيف نمثل الإنفعال
تذكردوماً هذه النصيحة (لا تنفعل، ولكن مثّل الإنفعال)
وكيف نمثل الإنفعال؟ هنا الأمر الأصعب . لكن وكما سبق وأن قلنا لا شيء يصعب مع التدريب. والتدريب الذي نقصده هنا يبدأ بمعرفتك الجيدة للشخصية التي تريد أن تكونها. أنت الآن يفترض أنك تعرف نفسك، تعرف كيف يكون رد فعلك في المواقف المختلفة. ومن ثم أنت تستطيع تجنب هذا الإنفعال وتبحث عن إنفعال يليق بالشخصية التي بت تعرفها . تعرف تاريخها ومكونها النفسي ومكونها الاجتماعي والشكلي. ومن ثم ستبحث عن ردود فعل تليق بهذه المكونات. وهي بالتأكيد تختلف عن ردود فعلك أنت. وربما تتشابه بعض الردود مع بعض ردودك. لكن لا تركن إلى هذا الاعتقاد. إبحث فقط عن ما يليق بها واجتهد في ذلك ولا تستسهل.
وفي بحثك عن هذه الأفعال وردودها، لا تلجأ إلى السهل السريع . حاول مرة ومرة ومرات. حتى تصيح كما أرشيميدس «وجدتها». إن استسهال رد الفعل هو فخ آخر يقع فيه أغلب الممثلين. لكنك لست منهم، أنت ترغب في أن تكون الأفضل.
وفي رحلة بحثك عن الإنفعالات – التي هي ردود أفعال – يجب أن يكون لديك مخزون منها في ما سبق وأن أطلقنا عليها (حصالتك) أو (خزانتك) أو (هارد ديسكك) الذي يفترض أنك ملأته سابقا بتدريبات المشاهدة اليومية والتأمل والذاكرة. ومن هنا تأتي أهمية النصيحة الأولى (التدريب اليومي).
لا تقنع بما في خزانتك، ضف إليها جديداً كل يوم.
إن تمثيل الإنفعال هو ما يجعلك تجرب انفعالات ودرجات من الإنفعالات قد يوافق عليها المخرج أو لا يوافق. أما الإنفعال (في الحياة) فهذا ما لا يمكنك التحكم فيه هو يخرج هكذا . يمكن أن يستفزك شخص ما فتكظم غيظك فيستفزك فتكظم فيستفزك فتكظم حتى تنفجرفيه. وهو الإنفجار الذي يخرج على شكل لم تكن نفسك تتوقعه وقد يصل إلى القتل. هذا هو الإنفعال الذي عليك أن تمثله (تقلده إن أردت) لا أن تكون عليه. وكي تقلده بإتقان لابد من التدريب عليه مرة ومرة ومرة حتى ترضى عنك نفسك ويرضى عنك الآخرون.
ففي التمثيل يا صديقي لا يوجد (غضب) بل يوجد إدعاء الغضب. وكذلك الفرح والحزن والضحك والحب … وكل انفعال. ولذلك قلنا ونقول أن التمثيل كذب. وأن كلما كنت بارعاً في كذبتك كنت ممثلاً قديرا.
و مازال السؤال قائماً وكيف نمثل الإنفعال ؟ كيف نستدعيه ؟ كيف نكذب؟
ستقول لك بعض الـ(مناهج) أن تستدعي من ذاكرتك موقفا شبيها مررت به؟ لكن هذا المنهج لن يجيبك عن (وماذا أفعل إذ لم أكن قد مررت بموقف شبيه؟) هنا تأتي أهمية البروفة والتدريب. فأنت تجرب وتجرب وتجرب حتى تصرخ ويصرخ معك المخرج (هذا هو) .. (إثبت على ذلك).
التحكم في النفس
كيف أتحكم في نفسي وأجبرها على فعل ما ليست عليه؟.
هنا تأتي مرة أخرى أهمية التدريب . ولفهم تلك الأهمية تخيل معي لعبة البلياردو . أنت مطالب بإدخال هذه الكرة تحديدا إلى الـ (جيب) .. ربما تدخل معك من أول ضربة بفعل الحظ، لكن جرب مرة أخرى، لن تستطيع فعلها ثانية. وإذا أردت أن تتمكن من ذلك لابد أن تتدرب عليها. تتدرب على كيف تقف، أين تضع مقدمة العصا في الكرة وبأية زاوية، وأخيرا ما قدر الضربة التي ستخرج من ذراعك إلى العصا إلى الكرة؟ .. وهكذا ستظل تتدرب مرة ومرة ومرة حتى تصل إلى التوافق التام بين الحركات (طريقة الوقوف والانحناء، مكان وضع مقدمة العصا على الكرة، حجم الضربة) فتخرج الكرة إلى مكانها الذي تريد .. وفي كل مرة ستخرج كما تريد.
هكذا أيضا مشاعر الإنسان. إذا أردت أن يخرج منك إنفعالا ما بالقدر الذي تريد (لا أقل ولا أكثر). عليك أولا أن تطوع نفسك لإرادتك. أن تجعلها تفعل في كل مرة ما تريده أنت. تطلب منها دموعاً فتأتيك طوعاً، تطلب منها ضحكة فتهديك إياها… وهكذا. وهو ما يسميه البعض بـ (السيطرة على النفس). عليك كشخص قرر أن يمتهن مهنة التمثيل أن يكبح جماح نفسه. يجعلها طوع بنانه. إذا وجهها يمنة تتوجه وإذا وجهها يسرة تتوجه.
وهو وللحق أمر صعب.. ويحتاج من التدريب اليومي ما هو شاق في بداياته سهل ومعتاد بعد ذلك.
أول خطوة في تدريب النفس هي أن تعاندها. هي لا تحب كذا، افعله مرة ومرة ومرة. هي تكره هذا الطعام تناوله. هي تحب السهر، اجبرها على النوم (ستعاني في البدايات؟ لا بأس)، هي تفزع من النوم في الظلام، عاقبها بالنوم فيه وتحمل رعبك، مع التكرار ستعتاد…. وهكذا.
إذا حصلت على نفس طيعة تتحكم أنت فيها لا تتحكم هي فيك تكون بذلك وقفت على قمة جبل الإجادة في فن التمثيل . فأنت الأن وبسهولة يمكنك أن تستدعي الإحساس الذي ترغبه. لكن هذه القمة لا يصل إليها إلا من يأخذون أنفسهم بالشدة ويحرصون على التدريب اليومي.
عن: (مسرحنا) عدد: 867، السنة: 17 بتاريخ: 08 أبريل 2024