نص مسرحي: “الشحاذ حاكما” / تأليف: د. ميسون حنا
شخصيات المسرحية:
متسول، غانية، تقي، شاب، رجل برجوازي
ملحوظة/ مثلت المسرحية ضمن برنامج مهرجان مسرح الشباب الثاني 1992
اللوحة الأولى
(أرض منعزلة. يظهر التقي وهو شاب ملتح، يضع على كتفيه عباءة سوداء، له نظرات صافية، لها تأثير في النفس، يمشي بخطوات وئيدة).
التقي: يا رب السموات (ينظر في الأفق) لعل الوهم بصور لي هذا الوهج في وقت الغروب (تسمع خشخشة. مصغيا باهتمام ) أما هذا الحفيف، فيذكر بتساقط اوراق شجر الخريف (يتنهد بعمق) وهذا الشذى (يتنشق حالما) أريج عطر الياسمين (يتلفت حوله) كل هذا يتراءى لي….. والمكان حولي مقفر. سبحان الله….. سبحان الله .
(تسمع الخشخشة مرة أخرى)
التقي: (مرهفا السمع) ليس حفيفا …. إنما هو خشخشة (متفائلا) خشخشة بائع شراب عرق السوس.
(تظهر الغانية، تهز يديها فترتطم أساورها معا. تقترب من التقي بشكل مفاجيء).
الغانية : (وكأنها تجيبه) بل خشخشة الحلي التي تجمل هذا الساعد الرشيق (تمد يدها أمامه بإغراء. يتراجع للخلف مأخوذا. الغانية تسحب يدها من أمامه ببطء ثم تجلس على الأرض)
(لحظة )
الغانية : أنت …. ( تنظر إليه بإغراء ) يا من حللت عليك ضيفة هذا المساء …. ألا تجلس بقربي.
التقي : ( متمالكا ) جنية المساء أنت إذن؟
(تضحك)
الغانية : وأنت؟
التقي: اللهم اعفنا الوقوع في المزلات.
الغانية : ما تقوله يا هذا يدعو للتفاؤل (تتأمله لحظة) وما تفعله في هروبك من نظراتي هو الدليل الدامغ.
التقي : (صمت)
الغانية: لن ينفعك الهرب (بإغراء) لقد وقعت في الفخ.
التقي: (صمت ووجوم)
الغانية: (بلهجة جديدة) أنا كما ترى …. أحيا فقط عندما أسمع نداء المعجبين (تتأمله لحظة ثم تتابع) وقد سمعت نداءك من وجيب قلبك الضطرب (تنظر إليه بيأس، ثم تتابع بهمة جديدة) التستر لا يفيد، إذ أني أراك وقد سقط القلــ….
(تسقط سبحة من يده. الغانية تضحك، يتناول السبحة بصمت دون أن يلتفت إليها)
الغانية: أرأيت؟ دليل آخر لصالحي …. بل لصالحك أيضا ….
(لا يبدو على وجهه أي تعبير . تبدو مستاءة للحظة ثم تحاول من جديد)
الغانية : (بأسلوب مثير) بعد أن سقط قلبك، تلقفته في يدي …. ما أن تقترب مني حتى أرده اليك (بدلال) وقد لا أفعل …. ما دمت لا أجد غيرك في هذا المكان.
( ينظر للسماء بشفاعة . تنظر إليه بتذمر ويأس)
الغانية : (بملل) دع عنك هذا الآن (بلهجة مثيرة، ساخرة) أتطلب الغفران قبل وقوع الخطيئة؟!
التقي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(تقف بحماس وتتجه نحوه)
الغانية: إنما الشيطان هو الذي يوسوس لك ألا تصادقني ونحن في هذا المكان المقفر.
التقي: (متمتما) أستغفر الله العظيم …. إليك عني أيتها الجنية.
الغانية: (بتحد) لماذا تسير في طريق العصاة إذن؟
التقي : ولماذا تسمينه طريق العصاة؟
الغانية: لأني أسير عليه ..
التقي: حسنا …. وما دمت أسير عليه أنا أيضا، فهو طريق الأتقياء.
الغانية: اتفقنا …. ليكن طريق الأتقياء …. أو العصاة، ولكننا التقينا فيه.
التقي: لسوء الصدف.
الغانية : (بملل) على رأيك …. (بلهجة جديدة) ومع هذا قد نتصادق ريثما نصل.
التقي: وهل سنواصل السير معا لا سمح الله؟
الغانية : اعتقدت هذا …..
التقي: (بقسوة) بل يتراءى لي أن لكل طريقه.
(يهم بالإبتعاد)
الغانية : هكذا إذن؟
التقي : (دون أن يلتفت إليها) نعم.
الغانية : كما تشاء (غاضبة) ولكن اعلم أنك عديم الهمة. قليل النخوة …. لتترك امرأة ضعيفة في عرض الصحراء والليل يزحف.
(يبدو مترددا ، تلاحظ هذا فتتابع بغنج)
العانية: بعد أن احتميت بك …. إذهب لوكان يرضيك هذا .
التقي : تطلبين حمايتي إذن ؟
الغانية: (بدلال) لا تتركني بالله عليك .
(تنظر إليه بإغراء ، يشيح بنظره عنها بسخط)
التقي: (ساخطا) إنما أنت متحذلقة اللسان، شأن الجنيات مثيلاتك، ومن كان في ورعي لا يقع في حبائلكن .
الغانية: هذا مما يدعو للأسف
التقي: وداعا إذن .
الغانية: (بحزن) لا أعتقد أن من الورع أن تتركني عرضة للسوء (تهز كتفيها بلا مبالاة، ثم بغضب) إذهب يا هذا …. إذهب عفا الله عنك
(يقف واجما مترددا . تهم بالمضي ، بينما يظهر شاب ، فتقترب نحوه بنشاط)
الغانية: أسعدت مساء أيها السيد المهذب .
(الشاب يلتفت إليها)
الشاب : مساء النور يا نجمة الليل، ونوارة الصباح، ما هذا الشذى العطر الذي يفوح مع كل خصلة من خصلات شعرك الحريري (يلمس شعرها بخفة ثم يقرب يده من أنفه) شذى يسكر الأرواح وينعش النفوس (يتأملها بنظرة خاصة) أهلا بعروس البحر … أهلا .
الغانية: البحر ….؟
الشاب :(يوميء برأسه إيجابا) بحر الرمال .
(يضحكان)
الغانية : (للتقي) أسمعت يا من لا قلب لك .
التقي: إنما قلبي أرفع من أن يتمرغ في الوحل .
الشاب :(بلطف) لا داعي لإهانتي ولما نتعارف بعد .
الغانية: (بسرور) مرحى … مرحى … لقد وقع .
(تقترب منه فيتأبط ذراعها). (لحظة) (التقي يهم بالابتعاد)
الشاب :(مناديا) أنت أيها التقي (بسخرية وتحفظ) يا ذا القلب النظيف الذي لا يتمرغ في الوحل … عد بالله عليك . قد نتحدث قليلا .(همسا للغانية) أمدعي التقوى يا ترى ؟
(الغانية تهز منكبيها بغنج، التقي يقترب منهما ، ملتفتا إليهما بحيرة) (الشاب يتأمله بفضول، سرعان ما تتغير تعابيره من وقع نظرات التقي)(لحظة صمت)
الغانية: (للشاب) وكأنك تغازله بنظراتك ورب هذه الديار.
(التقي ينظر للغانية بسخط. الشاب يبتعد عنهما قليلا )
الشاب : الليل موحش. .. والمكان منعزل…وإني والله قد ارتحت لمرآك… إبق معنا (لحظة ثم بإغراء) ها … ماذا قلت ؟
الغانية :(تتأمله) إني أعتذر عن مضايقتي. لن أعود لهذا وقد ظفرت برفقة هذا الشاب الظريف (لحظة ثم تتابع ) إبق معنا، بالله عليك .
الشاب :ها … ماذا قلت؟
الغانية : سوف لا أتحدث معك أبدا لو كان في هذا راحة لك .
الشاب: (بنفس النبرة) ها … ماذا قلت ؟
التقي: (للشاب) ماذا جاء بك ؟
الغانية: الهوى ونداء القلوب .
( الشاب ينظر للغانية لائما )
التقي : (للشاب) ها … ماذا قلت ؟
الشاب : (بشرود) بين ليلة وحلم … وجدت نفسي هنا .
التقي : أنت أيضا ؟ (يتبادلان النظرات)
الغانية: (بشرود) في طريق الهوى (حزن مفاجيء يظهر عليها) أو …أو ربما التوبة .
التقي : (حالما) طريق التقوى .
الشاب: (متأملا) طريق الحياة … (بحماس) إقتحام المجهول.
التقي: (بخيبة) لكل طريقه إذن .
(موجة غبار تكتسح المكان ، فيتكاتف الثلاثة ، يحجب أحدهم الآخر ، أو يحتمي به).
ستــــــــــــــــــــــــــــــار
اللوحــة الثانيــة
(اليوم التالي. الوقت وقت الغروب. الثلاثة يتابعون المسير. الشاب والغانية يسيران متلاصقين التقي يمشي محاذيا لهما على بعد خطوات)
الشاب : تجلدي ياعزيزتي . لم يبق إلا القليل .
التقي: تعبت المسكينة .
الغانية : (تبتسم برضى) أنت طيب القلب .
الشاب : ( ممازحاً ) من … انا ؟
(الغانية واهنة. تتجدث باستسلام، وتبتسم بضعف )
الغانية: وانت أيضا يا عزيزي.
الشاب : (للتقي) أرأيت …؟ لم أكن أناى طيب القلب إذن…
التقي : أنت لطيف أيها الشاب.
الغانية : وأنت أيضا أيها التقي …أنت …لطيف…(تهز رأسها ) وطيب .
الشاب : (بمرح) إني أحتج .
التقي : إنها تقصدك من غير شك … ولكنها تجاملني.
الغانية : (تتنهد) آه… نعم… أنا أقصدك… وأقصده… وأقصد … كل الناس (تتهاوى على الأرض في إعياء)
الشاب : ما هذا؟ (بمسك يدها محاولا مساعدتها على النهوض، تسحب يدها بحدة وتتراجع للخلف، دون أن تنهض).
الغانية : (تصرخ) لن أمشي خطوة بعد الآن.
الشاب: قد نسير ساعة أخرى…(مشجعا) ساعة …فقط.
الغانية : (أكثر حدة) ولا دقيقة.
(الشاب ينظر إليها بخيبة . التقي يقترب منه)
التقي : لا بأس. لنسترح…لقد تعبت والله.
(يجلسون) (لحظة)
الغانية: (للشاب) أنت لا تحبني.
الشاب : (يبتسم) لا داعي لهذا الآن.
(التقي يتشاغل عنهما، ناظرا إلى السماء بتأمل)
الغانية: نعم…(بإشارة من عينيها تشير للتقي) ولكنه يحبني .
الشاب : (مقتربا منها) كيف عرفت؟
الغانية: لقد رأف حالي … أما أنت …فلا.
الشاب : سامحك الله … إنما أردت اختصار الوقت الذي نجهل كم سيكون.
الغانية : لكنه فكر بتعبي.
الشاب : لا تكوني مرهفة الحس هكذا.
الغانية: هذه هي الحقيقة .
التقي : (يصرخ) ظل من هذا…؟
(يلتفتان حيث ينظر بانتباه)
الغانية: (تصرخ) هذا شبح …
الشاب : إنه شخص ما على ما يبدو .
التقي : (مناديا) يا عبد الله …أنت يا من يسير نحونا … اقترب.
(يستمر في سيره دون ان يلتفت إليهم. يتبادلون النظرات)
التقي : يبدو أنه لم يسمع.
الغانية : (للشاب) ناده أنت … ماذا تنتظر؟
الشاب : (محدقا ناحية الظل) أين هو ؟ .. لا أرى أحدا.
(يلتفتون حولهم باحثين)
الشاب : أين اختفى؟
الغانية: لا بد سيأتي…
الشاب : وإن لم يأت؟
الغانية: (بفزع) يكون شبحا حقيقيا.
التقي: (مطمئنا) لا يوجد أشباح في هذا المكان. اطمئني يا أمة الله …اطمئني.
(لحظة) (يظهر البرجوازي من خلفهم. البرجوازي يبدو أنيق الملبس، سلسلة ذهبية ظاهرة على صدره، يقترب منهم وينظر إليهم جيدا، تتحول نظراته إلى نظرات استصغار، يهم أن يحدثهم، يتردد قليلا ، ثم …)
البرجوازي: (بتعال) يا قوم …
(يلتفتون إليه باهتمام شديد، سرعان ما يتحول إلى فتور أمام نظراته وهيئته)
(البرجوازي طيلة هذا المشهد يتحدث معهم بتعال)
البرجوازي: لقد ناديتموني…
الشاب: أخطأنا الهدف يا سيدي.
البرجوازي: ولكنك ناديتني .
الشاب: لا لم أفعل .
التقي : أنا الذي ناديتك .
البرجوازي: (مشيرا للشاب) هو ينكر.
(الشاب يتشاغل عنه بأن يتهامس مع الغانية)
التقي : رأيناك … فخلناك تائها .
البرجوازي : وأنتم … تائهون؟
(الغانية تضحك، بينما الشاب يهمس في أذنها شيئا… البرجوازي ينظر إليهما هازئا).
الشاب : ولكنك متعبة.
الغانية: قدماي، وليس لساني (تلتفت للبرجوازي) أنت …أيها الرجل الأنيق.
(البرجوازي يتلفت حوله)
الغانية: إياك أعني …
البرجوازي: أنا ؟!
الغانية : أولست رجلا أنيقا؟
البرجوازي: أنا رجل أعمال قبل كل شيء. (يصلح وقفته ثم يخرج من جيبه دفتر شيكات يقلب بعض أوراقه،ثم يعيده إلى جيبه ثانية، ينظرون إليه بفتور)
التقي : (بفتور وتردد) إجلس لو شئت…
(يهم بالجلوس بينما يراقبونه باهتمام، يتردد، الغانية والشاب يضحكان . يرتبك ثم ينأى عنهم قليلا والحرج باد عليه)
التقي : (ملاطفا) لا بأس …إجلس.
البرجوازي : سوف أتمشى قليلا.
التقي : لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
(يتمشى جيئة وذهابا قريبا منهم، عاقدا يديه خلف ظهره) .
الغانية: لا تحزن من أجله أيها التقي الطيب.
الشاب : سوف يتعب بعد قليل… ويجلس دون دعوة من أحد.
التقي : ربما .
الغانية : سوف أماحكه.
التقي: اللهم عفوك ومغفرتك.
الشاب : لا تفعلي.
الغانية : بل سأفعل.
الشاب : قلت لك لا.
(الغانية تهمس في أذن الشاب فيضحك)
(التقي ينأى عنهما قليلا ويشرد في تأملاته)
الغانية : لا يمل الغفران.
الشاب : له قلب نقي كالثلج (تصطك أسنانه) بدأ برد الليل يزحف.
(الغانية تقترب منه ملتصقة به تماما)
الشاب : شكرا لك يا عزيزتي . هكذا أدفأ.
الغانية: دعني أماحك البرجوازي .
الشاب : غريب أمره … لماذا لا يتابع السير …
الغانية: إنه يرغب في أن ينضم إلينا.
الشاب : أوتعتقدين هذا ؟
الغانية : نعم (تنظر للشاب نظرة خاصة).
الشاب : ماذا تعنين؟
الغانية : لو كنت جنية مثلي لفهمت .
الشاب : (يضحك) أما لو كنت شابا مثلي، لفهمت أمرا آخر.
الغانية: وماذا فهمت ؟
الشاب: إنه يأنس رؤيتنا في هذا المكان الموحش.
الغانية : معك حق … ولكني سوف أماحكه .
الشاب :(بعدم رضى) أنت وشأنك.
الغانية :(للبرجوازي) أيها السيد … يا رجل الأعمال المحترم (يلتفت إليها تتابع) أنا مشفقة عليك من هذه الوقفة.
(يشيح بنظره عنها متبرما)
الشاب : (يضحك بشماتة) قلت لك لا تفعلي.
(البرجوازي يجلس في ناحية)
الغانية : (مشيرة إليه) لقد جلس .
الشاب :(ملتفتا ) نعم… ولكنه لا يريد الانضمام إلينا …
الغانية : سوف يفعل.
الشاب : لا … لن يفعل.
الغانية: بل سوف يفعل.
الشاب : (بتحد لطيف) سنرى .
الغانية: مسكين هذا الناسك … ألا يتعب من وحدته؟
الشاب : لا اعتقد.
الغانية : أنا أعتقد.
الشاب : وأنا لا أعتقد !
الغانية : سنرى.
(يضحكان بصخب . يلتفت إليهما البرجوازي بفضول)
الغانية : ها قد بدأ يتحرك.
الشاب : من.
الغانية : قلب البرجوازي.
الشاب : (ببرود) أنت سخيفة يا عزيزتي … سخيفة ومسلية.
الغانية: أمس وعدتني بالزواج.
الشاب : لا أذكر.
الغانية : أنا أذكر.
الشاب : وأنا لا أذكر.
الغانية: لا بأس . سوف أماحك البرجوازي.
الشاب: (ينظر إليها بسخط) إذن سوف لا أتزوجك.
الغانية : (بمكر) أي أنك وعدتني .
(التقي يقترب منهما)
التقي: البرد بدأ يزحف.
الشاب : إفتح عباءتك أيها التقي.
(التقي يرفع عباءته، فينضمان إليه. الثلاثة معا تحت العباءة. البرجوازي يزحف نحوهم قليلا. لا ينتبهون له. ينظر إليهم بحسرة).
ستـــــــــــــــــــــــــــــــــــــار
اللوحـــة الثالثـــة
(الغانية والشاب جالسان في ناحية. في الناحية الأخرى يجلس البرجوازي، ينظر إليهما من طرف عينه)
الشاب : أين صاحبنا ؟
الغانية : التقي ….؟
الشاب: من ظننت إذن ؟
الغانية : (بمكر) لا أحد .
(الشاب ينظر إليها بعدم رضى)
الغانية : إنه ينظر إلي نظرات جريئة.
الشاب: التقي ؟!
الغانية : البرجوازي.
الشاب : (متجاهلا) أين صاحبنا؟
الغانية : ذهب يصلي … على ما أعتقد.
الشاب : آه … تذكرت.
(يهم بالابتعاد)
الغانية : إلى أين ؟
الشاب : دقائق وأعود.
الغانية: (تضحك) مفهوم ….مفهوم.
(الشاب يبتعد إلى أن يختفي)
(البرجوازي ينظر للغانية نظرات خاصة)
الغانية : لماذا تسلط علي هذه النظرات الغريبة؟
(البرجوازي يبتسم محتفظا بصمته)
الغانية : أهو استحسان ؟
البرجوازي: اقتربي مني .
الغانية : ولماذا لا تقترب أنت ؟
البرجوازي: تعالي، أهديك هذه السلسلة (مشيرا للسلسلة)
الغانية: مقابل ماذا؟!
البرجوازي: أيتها الماكرة …
الغانية : لا أريد ذهبا.
البرجوازي : ماذا تريدين إذن؟
الغانية : الحب … أريد الحب.
البرجوازي : (يضحك) مرة واحدة …
الغانية: بعت الهوى فيما مضى… أما الآن فأريد الحب …
البرجوازي: تعالي فقط … وسأكتب لك شيكا…(بإغراء) مائة دينار .
الغانية : فقط…؟
البرجوازي: يا لله … أو تطمعين بأكثر من هذا ؟
الغانية: المكان هنا مقفر.
البرجوازي : (بشرود) تعالي نبدد الوحشة معا .
الغانية : أقول لك المكان مقفر …مقفر.
(ينظر إليها مستفهما)
الغانية : أعني … ليس هنا جنيات غيري .
البرجوازي: تستغلين الظرف إذن ؟
الغانية : أولم تستغله أنت فيما مضى .
البرجوازي: كيف؟
الغانية : لقد كنت تزورنا في الملاهي والحانات.
البرجوازي: (مزهوا) تعرفينني إذن .
الغانية : هذا ليس مهما …
البرجوازي : وما المهم إذن … (ينظر إليها مستاء)
الغانية: الحب … (تنظر إليه بإغراء ومكر)
البرجوازي: قلت لك اقتربي … ولأجعل المائة اثنتين (بإغراء) ام… ما رأيك ؟
الغانية: أريد ألفا.
البرجوازي : وماذا أعطاك ذلك الشاب غير الوعود ؟
الغانية: أكنت تتسمع لحديثنا إذن ؟
البرجوازي: (مسترضيا) أنا أكتب لك شيكا (يتناول دفتر الشيكات، ويكتب لها … ثم يلوح بورقة الشيك)
الغانية 🙁ببرود) كم كتبت؟
البرجوازي: ثلاثمائة دينار.
الغانية : ولكني طلبت ألفا.
البرجوازي : هذا غير معقول.
الغانية: (بثقة) ألف … ولا فلس أنقص.
(البرجوازي يبدو مفكرا، كئيبا ويردد بشرود)
البرجوازي: المكان هنا مقفر … إنه والله مقفر.
الغانية : (بتصميم عنيد) ألف…
البرجوازي : (كمن حسم الموقف) ليكن.. ليكن ما تريدين(جانبا) أنا مفلس، مفلس، ما الفرق إذن؟ (يكتب شيكا آخر، ويمده نحوها)اقتربي.
(تهم بالإقتراب بينما يعود الشاب والتقي، تنظر إليهما ثم إلى البرجوازي)
البرجوازي: (حاثا) استلمي الهدية … هيا .
( الشاب والتقي يتبادلان النظرات. الغانية تقترب من البرجوازي، تظهر علامات انفعال على الشاب، بينما يطرق التقي متجهما ثم يربت على كتف الشاب محاولا تهدئته)
الغانية: هات.
(تتناول الشيك . التقي والبرجوازي يجلسان ويراقبان المشهد)
الغانية: (تقرأ) ألف دينار… (تنظر إليه بجمود)
البرجوازي: ها… اختاري ؟ الوعود في كفة (بإغراء) وألف دينار في كفة أخرى.
الغانية : كنت تشتري بضاعتنا بأبخس الأثمان فيما مضى …(مذكرة) في الملاهي.
البرجوازي: لكل ظرف أحكام .
الغانية : أي أن الموضوع هو عرض وطلب .
البرجوازي: ليكن هكذا لو شئت.
الغانية: وأنت الآن تدفع ألفا… والسلسلة هذه أيضا (تشير للسلسلة الذهبية)(ينظر إليها بسخط ، ثم يتمالك ويبتسم)
البرجوازي: يا لكيدكن … لك السلسلة (ينزعها من عنقه)
الغانية :(مفكرة) لا …لا… لقد غيرت رأيي.
البرجوازي 🙁لحظة ارتباك) ولكني أقدمها لك .
الغانية: بل أعدها مكانها (متلطفة) لا حاجة لي بها
البرجوازي : كما تشائين . إجلسي إذن (يدس السلسلة في جيبه)
الغانية : ها أنت ترجوني لأجلس (البرجوازي يبدو ممتعضا بينما تتابع) فيما مضى كنت أباع دون رغبة مني … لقد كنت عبدة لأهوائكم.
البرجوازي : (ملاطفا) سوف تأنسين رفقتي على كل حال (بشرود) لن يبقى للوحشة أثر ونحن معا…
الغانية: كنت تدفع فنلبي. كنت أنت الذي يختار…
البرجوازي: (يخفي ضيقه) قلنا لكل ظرف أحكام .
الغانية: الآن … أنا التي أختار…
البرجوازي: ما بيني (مشيرا للشيك بثقة) وبين وعود طائشة.
الغانية: (متأملة) بين عبوديتي أو حريتي (ينظر إليها مستغربا، تتابع) لا عليك يا سيدي …قد اكون ثرثارة أحيانا.
البرجوازي : لا باس … لست غاضبا لهذا … فأنا أحب الثرثارات … من أجلك سوف أحبهن.
الغانية :(بشرود) عصر العبودية انتهى يا سيدي … هذا كل ما في الأمر …
البرجوازي : ومن ذكر عصر العبودية الغابر؟
الغانية : لا تستبعد الأمر … قبل أيام كنت أعيش فيه …تصور ؟ عندما كنت أباع لأحدكم كل ليلة .
البرجوازي : لا داعي لمثل هذا القول.
الغانية : انا الآن حرة يا سيدي.
البرجوازي: (مجاريا) أجل … أنت كذلك.
الغانية: لقد خضعت لك في عبوديتي.
(تمزق الشيك . ينظر إليها فاغرا فاه. الشاب يبتسم . التقي يبدو مرتاحا)
الغانية: (مسترسلة) بعد أن نلت حريتي … أرفضك يا سيدي .
البرجوازي : (ثائرا) أيتها العاهرة … المجنونة.
(تتراجع للخلف قليلا)
الغانية: (بلطف) المعذرة يا سيدي … هذا عدا أن ما وهبتني إياه لا يساوي شيئا في مثل هذه الظروف.
(ينظر إليها مستنكرا)
الغانية : (مبررة) لا بنك هنا
الشاب : ( مكابرا) أنا لم أغضب من أجلك .
(التقي يطرق مخفيا حزنه)
الغانية: أعلم هذا … ليس أنت من يتألم لأجلي على كل حال.
(الشاب يلتفت دون إرادته للتقي، ثم إليها)
الشاب : أتعنين … ؟ ( يوميء بإشارة من عينيه للتقي).
الغانية : نعم …
الشاب : وأنت …؟
الغانية: لا أعرف…
الشاب: أوهام .
الغانية : ليست أوهاما.
(الشاب يبدو مفكرا)
الغانية : إني أحس بالجوع. وأنت ؟
الشاب: أحسه. (للتقي) وأنت ؟
التقي : رحمة الله واسعة…الصبر… الصبر…(يتنهد بعمق)
الغانية: (للبرجوازي) أنت أيها السيد (يلتفت إليها بامتعاض) هل تستطيع أوراقك التي كتبتها لنا …
البرجوازي: (مقاطعا) كتبتها لك فقط (مستفزا) مقابل ما تبذلينه من متاع…
الغانية: (متابعة ببرود) هل تستطيع أن تؤمن لنا وجبة طعام؟
البرجوازي: (مستنكرا) وجبة طعام؟ إنها ألف دينار.
الغانية : لا بنك هنا … ولا مطاعم…ولا حتى ملاهي…لا شيء هنا … أبدا إنها أوراق جوفاء أيها السيد
البرجوازي : (مزمجرا) حمقاء.
الغانية : لا تغضب يا سيدي… عرض وطلب… نحن جائعون (لحظة) ألست جائعا أيضا؟
البرجوازي: (مكابرا) لا .
الشاب : سوف تجوع يا سيدي . لا بد ستجوع عما قليل.
(البرجوازي يشيح بنظره عنهم)
ستــــــــــــــــــــــــــــار
اللوحــــــة الرابعـــــة
المشهــد الأول
(الغروب. يجلسون في حلقة، عدا البرجوازي الذي يتمشى قريبا منهم)
(ابتداء من هذا المشهد يتنازل البرجوازي عن لهجته المتعالية)
الغانية : سرنا كثيرا اليوم .
التقي : كيف أنت اليوم؟
الغانية : شكرا لك ايها التقي الطيب (تنظر إليه بارتياح شديد) سؤالك ينعش النفس.
الشاب : إنه يتبعنا كالظل… يأنس رؤيتنا… ألم أقل لكما هذا؟
التقي : كان الله في عونه.
الغانية : إن لم نجد طعاما اليوم، سوف لا أستطيع السير خطوة.
التقي : (مطمئنا) سنجد بإذن الله.
(الشاب والغانية بصوت واحد، متفائلين)
الشاب والغانية : حقا؟
التقي : (لحظة إرتباك) آمل هذا … رحمة الله واسعة.
(يتبادلان نظرة خائبة)
(البرجوازي كمن طرأت له فكرة، يضع يديه على بطنه ثم يصرخ)
البرجوازي: آه … آخ .
(يلتفتون إليه باهتمام)
البرجوازي : (يتلوى) ألم يمزق أمعائي.
التقي : لا بأس عليك.
(ينهض ويهرع إليه. لحظة ثم يتبعه كل من الشاب والغانية، يحيطون به)
الشاب : إصبر يا رجل… إصبر.
الغانية : (تضع يديها على جبينه) جبينه حار كنار جهنم.
التقي : (يلمس جبينه) لا … هذا يخيل لك فقط.
الشاب : يداك باردتان كمياه القطب إذن .
الغانية: البرد أصابه… نعم هو البرد.
التقي : إحتمال معقول.
(يلتفت للعباءة الملقاة جانبا)
التقي : (للشاب) هيا نحمله هناك … لنغطيه جيدا.
الغانية : لماذا لا نحمل العباءة إليه ؟ ونرحل عنده.
الشاب : نعم هذا أفضل.
(يجضر العباءة ويغطي البرجوازي الذي يئن بصوت ضعيف)
التقي : هل أنت بخير الآن؟
(يجلسون حوله)
البرجوازي: أحسن حالا …
الغانية : تجلد أيها البرجوازي … تجلد.
(البرجوازي ينظر إليها مستاء)
الغانية: (متلطفة) عما قليل ستدفأ … صدقني.
(يبدو عليه الارتياح … ثم يلتفت للشاب والتقي )
البرجوازي:( بضعف) هل سنصل ؟
التقي : الاتكال على الله جميل … سنصل يا عبد الله، سنصل !
البرجوازي : (قلقا) ولكنها قالت أمس : قد لا نصل .
الشاب : هذا يعني أننا قد نصل أيضا .
البرجوازي : معك حق ايها الشاب .
الغانية : آه …. اني أحس بالجوع .
الشاب: (متذمرا) كلنا يحس هذا … سألتك الله أن غيري هذه النغمة .
الغانية : (تنظر اليه بسخط) انت لا تحبـ...(تصمت)
التقي: لا بأس أيها الشاب. لا داعي للغضب … انها فقط جائعة ….
الغانية : (تقترب من التقي) أنت لطيف … وطيب .
(التقي يلتفت اليها بعطف ، ثم يشيح بنظره عنها سريعا)
الغانية : لا تهرب بنظراتك عني … أرجوك … انظر إلي .
(التقي يبتعد عنها قليلا ، ويتأمل السماء)
الشاب: لا تضايقيه أيتها الشقية .
الغانية : لا شأن لك بي أيها الشاب.
الشاب : لا أسمح لك التلاعب في عواطفه .
الغانية : (تصرخ) انه يحبني … هل تفهم ؟
(التقي يجفل دون أن ينظر إليهم)
البرجوازي: (يصرخ) آه … بطني .
(الشاب ينظر للغانية بسخط شديد … ثم يلتفت إلى البرجوازي)
الشاب : تحمل قليلا … سوف تشفى بإذن الله .
البرجوازي: وقد لا أشفى .
الشاب : با رجل … ما هذا القول ؟
التقي: السماء صافية .. كما لو لم تكن في الأيام السابقة .
الغانية: هذا فأل حسن .
الشاب : دعينا نتخيل السوء كي ينقلب الأمر خيرا .
التقي : رحمة الله واسعة … رحمة الله واسعة .
الغانية : إني أموت جوعا .
الشاب : (منفعلا) أنت تموتين جوعا … وهو (مشيرا للبرجوازي) يموت مرضا … وذاك (مشيرا للتقي) يموت تصوفا … وأبقى أنا لأشيعكم جميعا .
الغانية : ثم تموت بعدنا …
التقي: لا حول ولا قوة إلاّ بالله .
البرجوازي: خفف عنك أيها الشاب . أرجوك.
(يلتفتون للبرجوازي بدهشة)
الغانية: فأل حسن … ألم أقل هذا ؟
التقي : نعم .. الأمل بالله جميل (للبرجوازي) قد خف مصابك ، ما دمت تخفف عنا . الحمد لله …الحمد لله .
الشاب : آمل هذا أيها الرجل … آمل هذا من كل قلبي …
الغانية : هل حقا خف ألمك ؟
البرجوازي: أنتم طيبون … (بشرود) عندما نصل سوف أهدي كل واحد منكم شيكا …(بضعف) نعم ، ألف دينار لكل واحد فيكم .
الغانية: لا تتعب نفسك بالكلام … استرح .
البرجوازي : أنت طيبة أيتها المرأة … مع أنك … (يرتبك)
(الغانية تبدو مستاءة جدا)
البرجوازي : (مستدركا) ولكنك طيبة … أقولها بصدق … أنت طيبة .
(الغانية تطرق بحزن . التقي ينظر إليها برأفة)
الشاب : (مستدركا أيضا) نحن هنا لا نساوي شيئا من غيرها … انها الزهرة الوحيدة بين هذا القطيع الجاف (للتقي) المعذرة أيها التقي . إنها … إنها أختنا .
الغانية : (تنظر إليه بتحد) في الليلة قبل الماضية … لم أكن أختك .
الشاب : (مرتبكا) لقد عنيت …
الغانية : ولكنك لا تحبني أبدا (للتقي برقة) أما أنت أيها التقي (يطرق متجهما) فتحبني، إني أرى الحب في عينيك كل لحظة.
الشاب : (مهددا) قلت لك دعيه وشأنه (ينهض ثم يسحبها بعنف) لا تضايقيه …
الغانية : (تتفلت منه وتصرخ) إنه يحبني رغما عنك وعني، وعن الطبيعة.
(الشاب ينقض على الغانية، البرجوازي ينهض بسرعة ويردعه. التقي يسحب الغانية لتقف خلف ظهره محتمية به ) .
البرجوازي: لا تفقد أعصابك … إنها والله لا تقصد شرا (مستدركا) لحظة غضب عابر…لن تتكرر بإذن الله .
(الغانية تبكي)
الشاب : إني أعتذر … لا تبكي … أرجوك …
التقي: (واجما ، مفكرا)
البرجوازي : هيا أيتها المرأة الطيبة … خففي عنك ، لا أحد يستطيع تلطيف الجو غيرك . دعي عنك الحزن .
الغانية : (تصرخ) لا أريد أن أسمع كلمة واحدة من أي منكما …
البرجوازي : (مبتسما) لا بأس … لا تكبتي غضبك … فجريه …تكلمي (مربتا على كتف الشاب)
الغانية : أنت أمس أردت أن تشتريني بأوراقك الجوفاء… بل لقد رجوتني كي أجلس قربك… واليوم تعايرني بنفسي… أما أنت (للشاب) فأرى ما تعكسه نفسك من احتقار … ومع هذا تدعي أنك أخي (ساخرة) في النهار فقط (للتقي برقة) أما أنت …
الشاب : (مهددا ) ماذا عنه؟
الغانية : إنه يرأف حالي … ويتألم من أجلي .
الشاب : لا فائدة (يضرب كفا بكف ثم يلتفت للبرجوازي) سوف لا يصل أحدنا لأنني قد أقتله وحق الله .
الغانية: إنه الإنسان الوحيد بيننا (بتحد) إنه يحبني .. (تصرخ) يحبني … يحبني.
(التقي يختلس النظر إليها)
الشاب: ( ثائرا) أيتها العاهرة … أما علمتك التجربة بعد التمييز بين صيد وآخر ؟
الغانية: (تضحك بيأس وفجور) من منا الصيد أيها الشاب؟ أنا …؟ أم أنتم؟
الشاب : (أشد ثورة) ما هذا؟ … ما هذا ؟… ألا زلت تلعلعين؟
الغانية: (بهدوء) صدقت دون قصد منك (تلتفت للبرجوازي) لكل ظرف حكم… قبل أيام كنت صيدا… أما اليوم فأنا القناص… أنا وحيدة وأنتم قطيع جاف . صدقت والله … صدقت (تعود تضحك بفجور)
البرجوازي: قلنا لا داعي لتأزم الموقف… إهدئي أيتها الشابة الجميلة… إجلسي أرجوك. وأنت أيها الشاب… دعها وشأنها، إنها والله لا تقصد.
الشاب : (متوترا) تافهة … غبية .
الغانية : (للبرجوازي) قلت لك أمس .. بعت الهوى سابقا .. أما اليوم فأريد أن أحب.
الشاب : إبتعدي عن التقي فقط … وأحبي من شئت. لا فرق عندنا (مشيرا للبرجوازي) عليك بهذا، أحبيه، سوف يرحب بذلك، أما التقي فلا .
الغانية : ولكني اخترت التقي.
الشاب : سوف أقتلك حتى الموت وحق الله…(يقف مهتاجا، بينما يقف التقي بسرعة)
التقي: (يصرخ) كفى عراكا … لقد قبلت اختيارها.
(يتبادل التقي والشاب النظرات بحيرة، ثم يجلسان، لحظة ثم تقترب الغانية لتجلس ملاصقة للتقي، التقي يبتعد قليلا. الشاب يبدو شديد الانفعال)
البرجوازي: دعهما وشأنهما، إنه موافق.
الشاب : أما تراه يتملص مبتعدا وهي لا تحس.
البرجوازي: ليس هذا من شأننا … لقد فصل التقي بلأمر وقبل الاختيار .
الشاب : إنه ينقذ الموقف فقط. أنت لا تعرفه كما أعرفه .
(التقي والغانية يتبادلان نظرات خاصة)
البرجوازي: ليكن … دعه وشأنه. لن نكون أكثر منه حكمة ، دعه يعالج الموقف كما يشاء.
(الشاب ينظر إليه بقلق)
البرجوازي: إهدأ ، إهدأ .
(يظهر المتسول ، ثيابه ممزقة، قذرة، يحمل على ظهره كيسا من الخيش، مليئا ..! يقضم كسرة خبز، يلمحه الشاب)
الشاب : (للبرجوازي) أنظر … (يصرخ مشيرا إليه) أنظروا جميعا … أنظروا .
(يلتفتون للمتسول باهتمام)
الشاب: (متفائلا) إنه يأكل …
(المتسول ينظر إليهم ، مقلبا نظراته بينهم جميعا بفضول)
التقي: الحمد لله … رحمة الله واسعة.
الشاب: أين وجدت الخبز؟
(المتسول يجيبه بلهجة ساخرة، وهي لهجته في أغلب الأحيان وحتى نهاية المشهد)
المتسول : أجائع أنت ؟
الشاب : (يبتلع ريقه) هل معك خبز غيره؟ أنقذنا يا أخا العرب.
المتسول : هذا الكيس مليء بالخبز .
(يقفون مندهشيثن ، آملين. المتسول يتراجع للخلف خطوات ويصرخ)
المتسول : (مهددا) مكانكم … مكانكم جميعا … لا أحد يقترب مني …
(يباغتون)
المشهــــد الثانــي
(جميعهم جالسون، يتبادلون النظرات بخيبة. البرجوازي والشاب متقاربين، والغانية والتقي متقاربين أيضا. المتسول يتربع أمامهم حاضنا كيسه يقضم كسرة خبز ويغني)
المتسول : تحت الشجر يا وهيبة. ياما أكلنا برتقال…(يتلمظ) آه … لذيذ والله (يعود للغناء) ياما أكلنا برتقال.
التقي : أيها الشاب.
الشاب : نعم أيها التقي..
التقي : إنما عنيت ضيفنا .
(المتسول يتوقف عن الغناء،ويجيب دون أن يلتفت إلى أحد)
المتسول : هل أنا ضيفكم؟
البرجوازي : نحن لم نتعرف اليك بعد أيها الضيف.
المتسول : إذن أنا ضيفكم (يضحك، ثم يعود للغناء) ياما أكلنا برتقال.
الشاب : (متفائلا) نحن نرحب بك ضيفا عزيزا .
المتسول : (يتوقف عن الغناء) ترحبون بي أين؟ في بيتكم هذا؟
(يتبادلون نظرات خائبة)
المتسول : هذه الصحراء لي كما هي لكم … لا أحد هنا ضيف على الآخر.
الشاب :(مفتعلا المرح) معك حق … ولكننا كنا جالسين عندما وفدت علينا ، فتهللنا برؤيتك.
المتسول : تهللتم لرؤية خبزي.
البرجوازي : إغفر لنا هذه الزلة …
الشاب: ولكنك لا بد قد أدركت مصابنا …
الغانية : نحن هنا منقطعون وجائعون.
الشاب :(آملا) ها … ماذا قلت؟
التقي: وقد أرسلك الله لنا عونا …
البرجوازي: والمسامح كريم…
الشاب : ها … ماذا قلت؟
المتسول: (لا يزال مشيحا بنظره عنهم) سوف أفكر …
البرجوازي : إنّا والله لفي أسوإ حال.
الشاب : ها … ماذا قلت؟
الغانية : (بدلال) أنقذنا أيها الشاب الظريف.
(فجأة يلتفت إليها ويحدق بهل بفضول)
الشاب: ها … ماذا قلت؟ (يبتسم)
( المتسول يشيح بنظره جانبا ويعود للغناء)
المتسول : تحت الشجر يا وهيبة.. ياما أكلنا برتقال.
التقي : لا حول ولا قوة إلا بالله .
الغانية: (يائسة) هذا هو العذاب بعينه .(للمتسول) الجوع سلطان فتاك أيها الشاب. أنقذنا حماك الله .
( المتسول يصوب إليها نظرات فاحصة)
المتسول : أنت زوجته؟ (مشيرا للتقي)
الغانية : لا …
الشاب : كانت زوجتي.
المتسول : إذا هي طليقتك .
الشاب : إعتبرها هكذا .
المتسول : (يعود يدقق النظر بها) جميلة … وبعد الطلاق ! … تزوجت ذاك؟(مشيرا للبرجوازي)
البرجوازي : لقد رفضت.
المتسول : لماذا؟
البرجوازي : لم يعجبها المهر .
المتسول : آه… (يتحسس كيسه وينظر إليها بإغراء، بينما تنظر إليه نظرات يائسة)ا
المتسول : أنت زوجة لا أحد إذا … (يضحك بصخب ثم يعود للغناء)
المتسول : كحلة عينك يا وهيبة (يصمت فجأة ويلتفت إليها) : إسمك وهيبة؟
الغانية : لا .
المتسول : بل أنت وهيبة … لقد سميتك وهيبة .
الغانية : (كمن طرأت لها فكرة) حسنا أيها الشاب … وبعد أن تعارفنا … ألا تطعمنا؟ ها … ها ؟ (تبتسم)
المتسول : جميل … جميل كلامك . (ينظر للبرجوازي بفضول) لم نتعارف بعد …
الغانية : هذا … هذا صديقنا.
المتسول : صديق من ..؟
الشاب : إنها تعني أننا هنا أصدقاء … هذا التقي … وهذه (يرتبك قليلا) هذه صديقتنا . (مشيرا للبرجوازي) وهذا صديقنا.
المتسول : ومن (نا) هذا … هل هو أنت؟
الشاب (يفتعل المرج)أنت لطيف أيها الشاب، لطيف.
البرجوازي : (مجاريا الموقف) عرفنا بنفسك.
المتسول : أنا شحاذ لامع … وهذا الكيس هويتي …(بحدة) هذا تعبي.. هل تفهمون؟
البرجوازي : تشرفنا بمعرفتك أيها الشاب.
المتسول : كاذب …(يحدق به)
البرجوازي : سامحك الله .
المتسول : أنت بالذات كاذب.
البرجوازي : لماذا؟
المتسول : عندما كنت أمر بك مادا يدي القذرتين، طالبا العون، كنت تقرف ، وتلعن في سرك، بل قد تكون لعنتني علنا.
البرجوازي :(بدهشة) أنا …؟ أنا لم أر في حياتي متسولا أبدا.
المتسول : من…متسـ …(يصرخ) شحاذ … أقول لك شحاذ…
البرجوازي : أقصد أنني لم أر شحاذا أبدا.
المتسول : لماذا؟ ألست تعيش في هذا العالم؟
البرجوازي : كنت أسكن في أرقى أحياء المدينة … حيث لا متسولين … أقصد …
المتسول : هذا لا يبرؤك من الذنب يا هذا.
البرجوازي : ولم لا؟ أقول لك لم أر شحاذا… أي أنني لم أسخر من أحد.
المتسول : أنت آخر من ينال رضاي. لقد حكمت عليك بالتشرد.
البرجوازي : لكنك متشرد مثلي في هذه اللحظة.
المتسول :(متحسسا كيسه) ومع هذا هناك فرق .
( البرجوازي يبتلع ريقه، وينظر للكيس بنهم)
المتسول : مت جوعا وأرحني من رؤيتك.
البرجوازي : (متلطفا) لماذا أيها الصديق؟
المتسول : أوقاسمتني أملاكك فيما مضى؟
البرجوازي : أملاكي؟ … وما شأنك بأملاكي يا هذا؟
المتسول : وما شأنك بأملاكي أنت إذا؟
البرجوازي : هل تريد أن تقول: أن هذه الصحراء ملكك حقا؟
المتسول : أيها الأبله … هذا الكيس ملكي. (يربت عليه بحنان)
البرجوازي : (هازئا) كيس الخبز اليابس هذا ؟
المتسول : أرأيت؟ … ها أنت تسخر مني ، ومن أملاكي، مع أنها قد تنقذ حياتك.
(البرجوازي يتظر إليه بفزع)
المتسول : فرصتك انتهت، لم تنجح بالامتحان. لقد فشلت… فشلت ، لا فائدة.
(يتبادلون نظرات حائرة)
البرجوازي :(مصطنعا المرح) لطيف مزاحك أيها الشاب…
المتسول : أنا لا أمزح.
( الشاب والبرجوازي يتهامسان. الغانية تنظر للتقي مستنجدة، بينما يطمئنها بنظراته)
التقي : لا تكن قاسي القلب هكذا أيها الضيف .
المتسول :(ثائرا دون أن ينظر إليه) لست ضيفا عليك …أولم تفهم بعد؟
الشاب :(كمن حسم الأمر) إسمع أيها الغريب.
المتسول : (ببرود) ماذا؟
الشاب : لا تظن أننا قد نموت لو لم ترأف بنا. نحن فقط أملنا بشهامتك.
المتسول : (ببرود) حسنا .. كما تشاء.
(الشاب يرتبك لحظة ثم يتمالك، ويتابع حديثه متلطفا)
الشاب : وإني والله أرى الشهامة في عينيك.
المتسول :(مقاطعا) أخطأت عيناك يا هذا … أنا لست شهما.. أبدا.
الشاب :(مفتعلا القوة من جديد) نحن لا نريد شيئا… لا فرق عندنا.. (متلطفا) ولكن معنا امرأة … وإن سألناك الرأفة ، فهذا من أجلها فقط.
المتسول : أتعني وهيبة؟
الشاب :(متلطفا) نحن كما ترى شباب أقوياء… لا نحس الجوع أبدا … ولكنها بحاجة إلى عناية.
البرجوازي : قد تقدم لها شيئا… ولن يضرك أن تجامل مجالسيها، أقصد أصدقاءها.
المتسول : فأقدم لكل واحد منهم شيئا أيضا.
البرجوازي : (متفائلا) مثلا ، وهل هذا يضرك؟
المتسول : (بغضب مفاجيء) أنت آخر من يطلب رحمتي يا هذا ، كنت قد أوافق لولا تدخلك.
(ينظرون للبرجوازي بلوم)
البرجوازي : المعذرة يا أخ العرب، إنس ما قلت ، لن أفتح فمي بكلمة بعد الآن…
الشاب :(يحاول من جديد) ألا تراها شاحبة المسكينة؟
المتسول :(ينظر للغانية بوقاحة) إني أراها متوردة.
الشاب : واهنة ، لا تقوى على متابعة المسير.
المتسول :(للغانية) لماذا تصمتين؟ أليس لديك ما تقولينه؟
الشاب :(حاثا) إسأليه العون … هيا.
الغانية : إسمع أيها الشحـ …(مستدركة) الشاب.
المتسول : ولكني حقا شحاذ. (يحدق بها) وأنت من تكونين؟
الغانية : أردت أن أخاطب روحك وضميرك.
المتسول : بل خاطبيني أنا.
الغانية : حسنا … لتعلم إذا أيها الصديق أننا جائعون، وقد نهلك لو بقينا هكذا ، وفي يدك القرار.
المتسول : هذا الشاب يدعي أنه في غنى عن مساعدتي.
الغانية : لا تصدق … إنه أشدنا جوعا، ولكنه يكابر.
المتسول : ولماذا يكابر؟ أوليس كبيرا بعد؟
الغانية : طبعه هكذا.
المتسول : (غاضبا) وأنا طبعي العناد … وخصوصا مع من لا يكبر… أقصد يـ … يـ …
الغانية : يكابر.
المتسول : يكابر… آه يكابر.
الشاب : حسنا … إني أعترف أني بحاجة لرحمتك، هل رضيت؟
المتسول : أي أنك كذبت علي.
الشاب : كذبة بيضاء.
المتسول : أوتجرؤ على الإعتراف بعد؟
الشاب : (مفتعلا الهدوء) حبل الكذب قصير … لا بد من الاعتراف (آملا) ها… ماذا قلت؟
المتسول :(يعود للغناء)
تحت الشجر يا وهيبة.
(يتبادلون نظرات يائسة)
الغانية :(تحاول من جديد) إعلم أيها السيد…
المتسول :(مقاطعا) أنا سيد ؟… من قال هذا؟
الغانية : (مرتبكة) إتما أردت أن أخاطبك بالصيغة المتعارف عليها.
المتسول : لم أفهم.
الغانية : كلمة سيد تقال، أعني .. ندعو أحدهم فنقول: أيها السيد فلان.
المتسول :(يضحك بصخب) أي أردت أن تقولي : أيها السيد الشحاذ، لطيف، لطيف ، شحاذ وسيد، لا بأس. لقد قبلت ، وماذا تريدين من السيد الشحاذ؟
الغانية : لقد أردت أن أقول.
المتسول : ها… قولي يا جميلة، قولي. (ينظر إليها بوقاحة)
الغانية : لو رأفت بنا، وقدمت لنا شيئا من خبزك، والحسنة بعشرة أمثالها يوم القيامة.
المتسول :(متذمرا) عدنا لنفس الحكاية.
الغانية : وهل لنا حكاية أخرى أيها الشحـ … السيد.
المتسول :(مغضبا) ولماذا سكت؟ ألم أقل لك أني حقا شحاذ؟
الغانية : (مفتعلة الهدوء) لن نختلف في هذه الحقيقة…
المتسول : (متذمرا) ولكنك تقولين… سيد.
الغانية : أعذرني لو كنت متضايقا من هذا اللقب.
المتسول : كلمة سيد تقال لرجال نظيفي المظهر. (ينقل نظراته ما بين البرجوازي والشاب ثم يثبتهما على البرجوازي): ولكنها لا تقال للمتشردين بين الأزقة ، وعلى الأرصفة، قد تُستعمل لزبائن الملاهي مثلا (الغانية تجفل، بينما يتابع) بالمناسبة … أنت من تكونين؟ أعني من كانت غير محتشمة اللباس مثلك قد تعمل في ملهى مثلا… هاك نصيحة، والنصيحة من غير مقابل.(محدقا بها) عليك بمهنة البغاء.
الغانية :(تصرخ منفعلة) ماذا تريد مني يا هذا؟
المتسول : أتطلبين رأفتي ورضاي؟
الغانية :(متفائلة) نعم .
المتسول : تزوجيني.
الغانية : (تضرب كفا بكف) لا فائدة … لا فائدة.
المتسول : الفائدة في المفيد، والمفيد في الزواج، والزواج فرض وفائدة…و…
الشاب :(منفعلا) وخلاصة القول يا هذا.
المتسول :(ببرود) لقد أطلقت حكمي عليكم وانتهى الأمر. تابعوا سيركم بعيدا عن وجهي، إذ لا تشرفني رؤيتكم أمامي.
الشاب :(ثائرا) ولماذا لا تغرب أنت عن وجوهنا؟
المتسول : أنا أريد أن آكل خبزي آمنا ، مطمئنا، هانيء البال. (يتمدد) هكذا !
(يغني من جديد) تحت الشجر يا وهيبة
ياما أكلنا برتقال.
(الشاب ينهض منفعلا، ينظر للمتسول بغيظ شديد، يضرب كفا بكف ثم يجلس ثانية)
(الشحاذ مستمرا في الغناء)
البرجوازي : هل هذا حكمك النهائي؟
المتسول : نعم.
البرجوازي : ولكننا نطلب الاستئناف.
المتسول : الا… ماذا؟
البرجوازي : أقصد أننا أردنا أن نخاطب روحك العادلة.
المتسول :(مغضبا) أوتتمنى موتي يا هذا؟ خاطبني أنا ودع روحي في أمان.
البرجوازي : حسنا … ألا أنصفتنا في حكمك، أقصد أعد النظر في حكمك علينا.
(المتسول ينقل نظراته بينهم ثم يثبتهما على التقي الذي يبدو مطرقا مفكرا)
المتسول : (للتقي) كلهم سألني الرحمة وألح إلا أنت !
( التقي يرفع بصره إليه بصفاء. المتسول يقع تحت تأثير نظراته، فتتغير تعابيره)
المتسول : أنت من طينة مختلفة. تكلم يا هذا… تكلم.
التقي : رحمة الله واسعة أيها الشاب. ماذا تريدني أن أقول بعد؟
المتسول : ولي من أولياء الله أنت إذا.
البرجوازي : ألا ترأف حاله وهو التقي الورع، الذي يدفع حياته طالبا الرحمة لك ولنا، وللناس جميعا.
الشاب :(آملا) أطعمنا من أجله، رزقك الله.
البرجوازي :(متفائلا) نسألك العون من أجله. من أجله فقط.
المتسول : أف منك ، لولا تدخلك لفعلت…
الشاب :(للبرجوازي) هذه المرة الثانية التي تفسد بها الأمر. إرحمنا بسكوتك.
البرجوازي : (غاضبا) ولماذا لا تسكت أنت؟
الشاب : لقد تبرم منك سابقا، إفهم هذا، واقفل فمك.
(المتسول يراقبهما بشماتة)
البرجوازي : لا تتطاول علي أيها الشاب، وإلا…
الشاب :(متحديا) وإلا ماذا؟… ها ؟؟؟
(المتسول يضحك بصخب . الجميع ينظرون إليه، المتسول يغني بعد أن كف عن الضحك)
المتسول : تحت الشجر يا وهيبة
ياما أكلنا برتقال.
****
اللوحة الخامسة
(الغانية متمددة على الأرض، منهكة، التقي يمسح على جبينها برفق. البرجوازي والشاب يجلسان متبرمين، كل في ناحية. دندنة المتسول مسموعة)
التقي : لا بأس عليك ، تجلدي.
(الغانية تنظر إليه بضعف شديد، ثم تغمض غينيها)
التقي : لا حول ولا قوة إلا بالله … الصبر جميل … إن الله مع الصابرين.
(يظهر المتسول حاملا كيسه، يجلس أمامهم)
المتسول : (للتقي) إقترب مني أيها الولي.
التقي : ماذا تريد أيها الشاب؟
المتسول : أريد أن أهبك طعاما.
(التقي ينظر إليه وكأنه لا يصدقه)
البرجوازي : إذهب، إ… إذهب.
الشاب : هيا … ماذا تنتظر؟ أحضر لنا الطعام.
(التقي يقترب من المتسول، فيناوله كسرة خبز صغيرة)
التقي : هذه فقط؟
المتسول : بعد أن تأكلها أهبك غيرها… لا تخش…
التقي :(يعيدها إليه) لا أيها الشاب.
المتسول : لماذا؟
( التقي ينظر للخبز، ثم يلتفت لجماعته حائرا)
المتسول : لا فرق عندي شأن هؤلاء المتسكعين. لقد حكمت عليهم بالموت جوعا… أما أنت فلا… خذ، خذ .(يمدها نحوه من جديد)
التقي : أي أنك خصصتني باهتمامك.
المتسول : نعم. خذ يا هذا … خذ لا تتردد.
( الشاب والبرجوازي ينهضان بتحفز، وينظران إلى التقي) (الغانية تنظر للتقي بشفقة، التقي حائرا ) .
التقي : لا ايها الصديق … لا …
(يتراجع للخلف قليلا)
المتسول : لماذا؟
التقي : لو كنت ترأف بي حقا ، أطعم أصدقائي معي .
( يهزان رأسيهما موافقين)
المتسول : (يصرخ) لا … لن أفعل هذا أبدا. إن شئت رضاي أكلت وحدك وإلا فلا.
(التقي يعود ويجلس مكانه. الشاب والبرجوازي يجلسات كذلك).
الغانية : إذهب يا عزيزي وكل شيئا.
(التقي ينظر إليها نظرة عطف)
البرجوازي : ماذا تعنين ؟ هل يأكل وحده؟
الشاب : هل هذا ما عنيت أيتها الماكرة؟
الغانية : ولم لا …؟ نجاة واحد خير من هلاك الجميع.
البرجوازي : أيتها الخبيثة … تريدين له النجاة، بعد أن كسبت عطفه ليفر بك من هنا ؟
التقي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم … لا داعي لهذا النقاش ، ولما يحصل بعد شيء.
الشاب : أنت طيب أيها التقي، ولا تعرف هذا الصنف من النساء جيدا. إنها كما قال صديقي بالضبط، ترسم لنجاتها.
البرجوازي : (يهز رأسه موافقا) وهل تصدق أيها التقي، أنها ستتزوجك فيما بعد؟ ما أن تصلا حتى تتركك محطم القلب، لتذهب للبغاء … سلني عنهن.
(الغانية تنظر للبرجوازي باحتقار)
التقي : إرحماها وهي أشدنا ضعفا ، لا داعي لإثارتها ، أستغفر الله العظيم.
البرجوازي : صمتها دليل صدقي أيها التقي … إفهم هذا أرجوك.
(التقي يهز رأسه بأسى)
التقي : بل دليل ضعف صحتها … إنها تموت وأنتم لا تدركون.
المتسول : لا تتعب نفسك مع هذين القذرين، إقترب مني وخذ خبزك .
التقي : أوافق بشرط.
(البرجوازي والشاب يقتربان من بعضهما ويتبادلان نظرة سريعة، ثم يسلطان نظرهما عليه)
البرجوازي :(مهددا) ماذا؟ تكلم.
التقي : (متجاهلا) شرطي أن أهب ما تعطيني إياه هذه المرأة.
البرجوازي : ويحك… أترأف حالها ولا تحفل بنا؟
الشاب : أتريد أن تطمعها وتتركنا؟ من كانت مثلها استحقت الموت. أنسيت من تكون؟
التقي : إنها بشر قبل كل شيء … (للمتسول) ماذا تقول أيها الشاب؟ أموافق أنت؟
المتسول :(بحدة) ما أعطيه لك هو لنفسك، ولا أقبل مساعدة غيرك. (ينظر للغانية بإعجاب، ويتابع متلطفا) أما وهيبة ، فدع أمرها لي ..
البرجوازي :(متهكما) يتمنى لها النجاة ولا يطلبها لنا ، هذا الذي حسبناه تقيا .
الشاب : لقد توهم حبها ليس غير … هذا ما خشيت وقوعه (للتقي) أوتصدق أنها تحبك؟ أفق أيها التقي من أوهامك…
(التقي ينظر للغانية بشفقة ثم يهز رأسه بأسى)
التقي : (للمتسول) إرأف حالها … إنها والله قد تموت.
المتسول : أستطيع أن أطعمها بشرط.
التقي : لن نختلف، ما شرطك؟
البرجوازي : مهلا ، أيطعمها وحدها؟
الشاب : ونحن ، ماذا عنا؟
المتسول :(للغانية) تزوجيني يا امرأة … ها أنا أكررهذا للمرة الثانية.
(يمتقع لون التقي ويطرق مفكرا. الغانية تنظر إليه بعطف وحب… الشاب والبرجوازي ينظران إليها بحقد)
التقي :(للغانية) وافقي … لا بأس … وافقي.
البرجوازي : هكذا إذا … هيا … إظهرا على حقيقتكما.
الشاب : لتظهر خبايكما جيدا… فأنت مطمئن إذ انه عرض عليك الطعام متوهما الورع فيك، وهي لا فرق عندها ممن ستتزوج.
البرجوازي : (للمتسول) أتريد الزواج من عاهرة؟ هل يشرفك هذا؟
(الغانية تبكي بصمت)
التقي : لا شأن لكما بهذا (مشجعا) لا تبكي، وافقي على الزواج وإلا هلكت… الرحمة يا رب.
المتسول : ما هو ردك يا امرأة؟
البرجوازي :(يصرخ) أقول لك: إنها عاهرة… هل تسمع؟
المتسول : لا شأن لك في هذا… (يسلط نظرة عليها): جميلة (بلهجة جديدة) ما هو ردك؟
الشاب : لا أظن الجد في حديثك ! هذه إمرأة… وأنت شحاذ لامع، مرموق. فكر قليلا وسترى أنك لن توافق على قرار كهذا. إتها… لقد كانت معي قبل يومين… هل تفهم؟
المتسول : إخرس ، لا شأن لك في حياتي الخاصة.
التقي :(للغانية برجاء) وافقي، أرجوك ، من أجلي وافقي(يهز رأسه بأسى) آه يا رب…
المتسول : ما هو ردك يا امرأة؟
التقي :(منفعلا) إنها موافقة … أنا أجيبك عنها.
البرجوازي : ولماذا لا تجيبه هي؟ (متهكما) هل هو الحياء؟
الشاب : (يصرخ) أجيبيه أيتها العاهرة … لماذا تصمتين؟
(البرجوازي ينهض فجأة ويقترب من المتسول بحماس)
البرجوازي : إسمع أيها المتسول: أتريد أن أقاسمك أملاكي؟ (يسحب دفتر الشيكات، ويكتب له شيئا ثم يمده نحوه)
البرجوازي : لك مني هذا الشيك، سوف تعيش بعده غنيا، من أصحاب الثروات، ما رأيك؟
(المتسول يمسك الشيك ويقلبه محدقا فيه)
المتسول : ما هذا؟
البرجوازي : إقرأ… إقرأ.
المتسول : لا أعرف القراءة.
(الشاب يضحك بشماتة. البرجوازي يبدو خائبا، لحظة ثم سرعان ما يتمالك)
البرجوازي : كتبت لك ألف دينار …
المتسول : وما يضمن لي صدق قولك؟
البرجوازي :(بحماس) هذا الشيك هو الضمان.
المتسول : وما يدريني ما كتبت حقا؟
البرجوازي : ألف دينار… أنظر … أنظر جيدا.
المتسول :(يصرخ) قلت لك لا أقرأ…
الشاب : لا تصدقه … إنه يكذب …هذه ورقة لا قيمة لها.
(المتسول يدفع البرجوازي عنه ويمزق الشيك)
المتسول : أتسخر مني أيها الخبيث؟
الشاب : ها قد ظهر على حقيقته، لا تصدقه أبدا.
البرجوازي : لا تتدخل أنت … ماذا يهمك من أمري؟
الشاب : أتريد أن تستأثر لنفسك الطعام؟
البرجوازي : وأنت ؟ ألا تتمنى هذا؟
الشاب : إلزم حدودك. هل تفهم؟
البرجوازي : ولم لا تلزمها أنت؟ (للمتسول) كتبت لك ألفا، ولكن لا عليك سأكتب لك غيرها.
المتسول : كيف أعرف صدق ما تقول؟ هو يدعي أنك كاذب.
البرجوازي : لا تصدقه.
الشاب : بل كاذب وألف كاذب، لا تدعه يخدعك بمعسول كلامه.
(الغانية تئن، التقي يربت على رأسها بحنان)
التقي : لا حول ولا قوة إلا بالله.
البرجوازي : أنا على استعداد لأكتب لك شيكا غيره، ويقرأه التقي.
المتسول : حسنا ، إفعل لنرى.
( يكتب شيكا ويتجه للتقي، يقطع عليه الشاب الطريق ويسحب الشيك منه ويمزقه، يتعاركان. الجميع يراقبونهما . الشاب يخلص البرجوازي من دفتر الشيكات ويمزقه إربا)
الشاب : (منتشيا) لا فرق بيننا الآن. لقد جردتك من سلاحك.
(البرجوازي يجلس منهارا على الأرض ثم ينتحب، المتسول يراقبهما بفضول، وكأنه يشاهد موقفا مسليا)
المتسول :(للتقي) قلت لك لا تتعب نفسك مع هذه النفاية، تعال إلي… لقد كسبت رضاي… تعال.
(التقي ينظر للغانية حائرا)
المتسول : ها؟ ماذا تقول العروس؟ هل هي موافقة؟
التقي :(بحماس) نعم، نعم، إنها موافقة، حتما موافقة.
الشاب : لا … إنها لا توافق أبدا.
المتسول : سكوت… أريد جوابها من فمها.
(يصمتون بمن فيهم البرجوازي الذي يكف عن النحيب ولكنه يبدو محبطا)
التقي : وافقي أرجوك… وافقي.
العانية : (بوهن) لا … لا أستطيع.
(الشاب والبرجوازي ينظران إليها بدهشة فائقة)
المتسول : (غاضبا) لا طعام إذا … موتي جوعا شأنك شأن غيرك.
التقي : إرحمي نفسك ووافقي، أتوسل إليك.
الغانية : لا أستطيع… لا أسـ … تطيع.
التقي : لا تجعليني أحمل ذنبك. أني والله لا أقوى على هذا.
(يتابعان كلامهما همسا)
الغانية : أنت لا ذنب لك.
التقي : أنت مشفقة علي ، ولكنك قد تقتليني برفضك.. وافقي أتوسل إليك.
الغانية : أنت طيب أيها التقي. إني حقا أشعر بعاطفة نحوك… (برقة) اني أحبك … ولكني لا أريد أن أبيع حريتي مرة أخرى…(تنظر إليه نظرة صافية): أنسيت كيف مزقت ألف دينار، ومزقت عبوديتي معها؟
التقي : ولكنك شاحبة ، أخشى عليك من الهلاك.
الغانية : عندما اخترت حريتي، شعرت بإنسانيتي للمرة الأولى، لا تجعلني أفقدها من جديد، هكذا أكون قد قتلت.
التقي : ولكنك ستموتين لو بقيت هكذا.
الغانية :(حالمة) أموت حرة…
التقي : لا حول ولا قوة إلا بالله.
الشاب : إسمع أيها الصديق، هذا التقي يحب هذه المرأة، وحالما يصلان سوف يتزوجان. لا تصدقهما، ها هو يقنعها بخداعك، أما ذاك (مشيرا للبرجوازي) فقد ظهر على حقيقته، عندما كتب لك ورقة مزيفة.
(المتسول ينظر إليه ساخرا بينما يتابع)
الشاب : لقد مزقتها، لم أسمح له بالتلاعب فيك، فأنت لا تقرأ وهو يستغل الظرف… أرأيت… ليس أمامك غيري. أنا صديقك الوحيد.
المتسول : أتظن هذا؟
(الشاب يقترب منه متفائلا)
الشاب : طبعا… أبسط طعامك لنأكل، ثم نرحل عن هنا .
(المتسول يركله بقدمه)
المتسول : إذهب أيها الكلب… لا شأن لك بي وبأملاكي.
الشاب : قلت لك لا صديق لك غيري .
(يقترب منه مرة أخرى وينظر إليه آملا)
المتسول : إبتعد من أمامي، لقد حكمت عليك بالموت جوعا. (يركله بقدمه مرة أخرى)
******
اللوحة السادسة
(الغانية شاحبة جدا ، متمددة على الأرض، متلفعة بعباءة التقي الذي يجلس قربها حزينا. البرجوازي يجلس واجما في ناحية. الشاب يتمشى قلقا مفكرا، التوتر ظاهر على حركات يديه، بينما يجلس أمامهم المتسول، الشاب ينظر إليه بحدة متناهية، المتسول يشعر بالقلق مما يبدو من تعابيره، فينهض ممسكا كيسه بإحكام. الشاب ينقض عليه، البرجوازي يلتحق بهما ، ويلتحمون في عراك. الغانية والتقي يراقبان المشهد بصمت، يتمزق الكيس، فتتناثر كسرات الخبز هنا وهناك. الشاب والبرجوازي يتركان المتسول ويهرعان يلتقطان قطع الخبز، بينما يتمسك المتسول ببقايا الكيس، ويضمه جيدا، محتفظا بما بقي فيه من خبز، وينظر إليهما بسخط شديد، ويصرخ)
المتسول : تعبي … شقائي ، تعب عمري، سرقتماني أيها اللصان… آه آه آه..(يتهاوى مع كيسه على الأرض، ولكنه لا يزال متمسكا به جيدا) (الشاب والبرجوازي يأكلان بنهم جالسين على الأرض، بعد أن جمع كل منهما مقدارا ، ووضعه أمامه) (المتسول يبكي بصوت حاد. التقي يهز رأسه بأسى. الغانية تغمض عينيها باستسلام)
التقي : أيها الشاب… أيها الشاب …
(الشاب يواصل أكله بنهم، غير متنبه لشيء حوله)
التقي : لا حول ولا قوة إلا بالله.
(البرجوازي يخلع قميصه، ويضم ما جمعه فيه، ويربطه ثم ينهض، يهم بمواصلة السير غير ملتفت لأحد، يلحق به المتسول بعد أن ترك كيسه ملقى على الأرض، ويلتحمان في عراك من جديد) (التقي يذهب حيث الكيس، ويلتقط كسرة خبز، ثم يعود للغانية، العراك مستمر)
التقي : تقوتي بهذه الكسرة.
الغانية : لا … أستطيع.
(طيلة هذا المشهد الغانية تتكلم بصعوبة. إذ يكون التعب قد أخذ منها مداه)
التقي :هيا… سنأكل معا… أنا وأنت…(مشجعا) هيا، لست وحدك التي سوف تأكل.
الغانية : أنا أشعر بغثيان شديد… أعذرني أيها التقي.
التقي : قاومي، أرجوك.
الغانية : لو تحبني حقا كل أنت، ودعني أرتاح.
التقي : لن أفعل هذا إلا إذا أكلت ، هيا.
(قميص البرجوازي يتمزق، وتتناثر كسرات الخبز منه، البرجوازي يطأها بقدميه بينما يشده المتسول أرضا… ويواصلان العراك)
الغانية : إني سعيدة أيها التقي، سعيدة.
التقي : كلي إذا.
الغانية :(تنظر للسماء بشرود) السماء صافية كما لم تكن… زرقاء، أنظر.(لحظة) صفاؤها يشدني إلى النجوم…
التقي : الرحمة يا رب… الرحمة.
العانية : (برقة متناهية) جميلة هذه الطيور… أرأيتها؟ (يفرك يديه من شدة الانفعال بينما تتابع) بيضاء، ترفرف فوق رأسي.
التقي : لا تقولي هكذا أرجوك.
الغانية : (برقة) تناديني… (حالمة) نداؤها عذب ، هل تسمع؟
(التقي ينظر إليها بحزن وفزع شديدين)
التقي : الرحمة يا رب، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الغانية : (تبتسم) لا تحزن أيها التقي الطيب… إني سعيدة ، أتعلم لماذا؟
التقي : لماذا؟ تكلمي.
(الغانية تنظر إليه بصفاء وصمت)
التقي : تكلمي أرجوك، قولي ما في نفسك.
الغانية :(تبتسم ابتسامة مشرقة) لني نلت حريتي، ثم اخترتك. لم أبع نفسي لك، لا… إنما اخترتك، أتعلم لماذا؟ لأنك تحبني ، ألست تحبني؟ (يهز رأسه إيجابا بينما تتابع) لذا اخترتك… حرة…
(التقي يبكي. الشاب يتوقف عن الأكل وينظر إليه باهتمام)
الغانية : لا تبكي يا عزيزي، إني أتألم لرؤيتك حزينا، إفرح لأجلي…
(العراك يبدو عنيفا)
التقي : (يكف عن البكاء) يجب أن تأكلي لنعود معا، قاومي ضعفك (مشجعا) قليلا من المقاومة… ها… هيا ..(يقدم لها كسرة خبز، تتناولها وهي تبتسم)
الغانية : إني سعيدة بهديتك ، هدية عرسنا..(برقة) إبتسم معي (حالمة) سوف أموت هنا على الأرض التي نلت حريتي بها… هل تعلم؟ (تهمس) إنها أرض مقدسة، أرض الحرية هذه.
التقي :(يصرخ) لا … لن يكون هذا …
(الغانية تغمض عينيها وهي لا تزال تبتسم. التقي يغطي وجهه بيديه. الشاب يقترب منه بانفعال، في نفس اللحظة يتهاوى البرجوازي والمتسول أرضا وكلاهما يلهث في إعياء تام)
******
د ميسون حنا