تجليات اللا توقع الحركي عند ماهر الكتيباني / أ.د. مدحت الكاشف
يتطلع الكتيباني في تجربته المسرحية شديدة الخصوصية [اللاتوقع الحركي] إلى محاولة صك أورجانون جديد للمسرح يسير فيه على خطى بريشت الذي ناهض أورجانون أرسطو الذي ضمنه كتاباته في المنطق مستخدما العلم للوصول إلى الحقيقة والصواب.. ليقف بريشت موقف مضاد لموقف سابقه أرسطو ويستخدم العلم لكشف الحقيقة وإعادة النظر فيها والجدال حولها أو بمعنى آخر حفز المتلقي لتكوين وجهة نظر تعينه على مجابهة قضاياه وهمومه والسعي إلى تغييرها.
ومن هنا يأتي [أورجانون الكتيباني] وكأنه بمثابة لعبة المكعبات الخشبية التي من خلالها يقوم اللاعب ببناء مدن وعوالم وحيوات يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها… ليصنع منها جسورا مدهشة يسير فوقها المتفرج، ليجعل من العرض المسرحي قابل للتفكيك وإعادة الترتيب، وبالتالي إعادة التفسير. ومفتوح لكافة الاحتمالات التي تعتمل في ذهن كل متلقي وفقا لمعطياته البيئية والحضارية والاجتماعية، وهو ما يدعوه إلى تجاوز الزمان والمكان في تجاربه المسرحية، التي لا تعبأ بالدراما بشكلها التقليدي، حيث تصبح نصوصه مجرد دليل يهتدي به كمخرج ليبني تلك العوالم والحيوات وحتى المنازل الخشبية التي يشارك المتفرج في هدمها وإعادة بنائها ثانية، وفقا لنوازعه الداخلية التي تكون دلالاته الخاصة والنابعة من وجوده الاجتماعي، وكأن جسد المتفرج يتحول إلى جسد مؤدي وسارد للقضية المطروحة وهو ما يمنح تجربة الكتيباني سمة التفرد والتمرد على أوضاع اجتماعية تهم المتفرج بنفس القدر الذي يهم المبدع المسرحي، ورغم البساطة الظاهرية التي يبدو عليها النص/العرض عند الكتيباني إلا أنه ينطوي على عالم بأكمله، وعلى مستوى الابداع يتوسل بأسلوب التجسيد الحركي، والإشاري والإيمائي والذي يتجلى للمتفرج وكأنه تلقائي وواقعي/ طبيعي إلا أنه استند إلى خطة هندسية مغرقة في دقة التصميم، وبالرغم من ذلك فإن هذا التجسيد يرسل لنا عدد لا بأس به من القراءات المفتوحة التي تمنحنا نحن المشاهدين الحرية في التفسير وفق توقعاتنا وأحاسيسنا وأفكارنا وتصوراتنا المتعددة والمتناقضة، الأمر الذي يذهب بنا إلى آفاق فكرية وجمالية بعيدة المدى تتجاوز حدود المكان والزمان.
إن تجربة اللاتوقع الحركي لدى ماهر الكتيباني تستند على موقف جمالي وفكري ونظرة فلسفية إبداعية للحياة وللإنسان وما يحيط به من أحداث محلية تارة وعالمية تارة أخرى تعصف به يمينا ويسارا تنزلق به إلى هوة عالم قلق، وعليه فمسرح الكتيباني يسعى لمواجهة ذلك القلق على كافة مستوياته، من أجل إعادة تفسير العالم وفهمه وإعادة تشكيله، في محاولة للبحث عن يوتوبيا جديدة للإنسان المعاصر الذي ينسحق تحت نير صراعات سياسية واجتماعية وعرقية، وبيئية ومناخية بدأت في تصفيته وإقصائه عن الحياة التي خلق من أجل أن يحيا بها، وهذا لا يعنى أن تجربة الكتيباني تتمتع بنظرة تشاؤمية فحسب، بل على العكس تماما فهي تنطلق من نظرة تفاؤلية تطرح فكرة مؤداها إنه من الممكن خلاص الإنسان من معاناته الحياتية التي تفتك به.
ولذا فأن “الكتيباني” حاول تصوير الإنسان المعاصر في مسرحه كفرد وكظاهرة اجتماعية عن طريق عرض البشر كأفراد في جماعات وطبقات أو مجتمعات معينة وهو ما يتجلى في عملية الربط بين عمليه الإنتاج والتلقي في هذه التجربة المسرحية المتفردة والتي تدعو المتفرج أو المتلقي إلى محاولة تفسير شفرات ثقافية معينة، أو بتعبير آخر القيام بعمليات فك شفرات معينة تحكمها عوامل ثقافية واجتماعية، مستهدفا بذلك التعبير عن الظواهر الاجتماعية وتعريتها، ومن ثم فالكتيباني يريد أن ﹸيثير العرض المسرحي في المتفرج إحساساﹰً، بأنه لو كان يعيش في الظروف التي تصورها المسرحية، لتحتم عليه أن يتخذ موقفاﹰً إيجابياﹰً، ويسلك سلوكاﹰً معيناﹰً، وهكــذا عندمــا يرى المتفـرج أنّ الأمور قد تغيرت، يستطيع أنْ يدرك أنّ في الإمكان إحداث التغييرات المطلوبة بالنسبة للواقع الحاضر، وكأنه يرفع شعار مؤداه أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم كنوع من تخطى كل ما هو زائف ومتناقض ومصطنع بين الذات والموضوع في عملية صناعة التاريخ.
هذا نص ما افتتح به كتاب ( اللاتوقع الحركي القصير بيان رؤية ونصوص ) الذي سيصدر بطبعة جديدة 2024 ، عن ( دار الفنون والاداب ) العراق / البصرة.