“لا فيكتوريا”، أو سلطة الهوامش/ رشيد بلفقيه
“لا فيكتوريا” لفرقة” نقولوأكسيون لسينما والمسرح” إخراج أمين ساهل
================
يشير “عواد علي” في غواية المتخيل المسرحي إلى أن الخطاب المسرحي هو الرسالة الموجهة والمقصودة، أي تلك الشفرة التي تشير في ثناياها إلى إطار التفسير، حيث يسعى أسلوبه إلى تفكيك العملية المسرحية وكشف حقيقتها للمتلقي، كما يشير إلى أنه -أي الخطاب المسرحي- يُعني بعملية تكوين الدلالة وآلية تشكيل الرسالة من خلال ما يظهر في النص، أو العرض من تعليقات أو حيل أو تشكيلات توجه القارئ أو المتلقي صراحة إلى الإطار الذي يجب أن يقرأ من خلاله ما يحدث أمامه.
تختصر هذه المواقف جزءا من مسار قراءة العرض المسرحي “لافيكتوريا”، المنجز الثاني في مسار الفرقة بعد عرضها الأول “بريندا”، بوصفه منجزا يتجاوز عتبة الإمتاع ليصير سيرورة إقناعية، توجه المتلقي إلى تغيير رؤيته لعالم الإلتراس (ultras) بوصفه ممتج لفرجة هامشية، ترافق فرجة رئيسية (مباراة كرة القدم)، لتصير أحيانا فرجة رئيسية بل مدخلا ينافس مركزية الفرجة الأولى (المباراة) عندما تحظى باهتمام الإعلام الرياضي، لما توجهه لوحاتها من رسائل.
يفتح عرض “لافيكتوريا” نافذة على عالم الإلتراس (ultras) بوصفها فرجات تستدعي مزيدا من الاهتمام فهي فرجات لا تخلو من الفرجوي ومن التمسرح كما أشار خالد أمين في مقالته “فرجة الألتراس بالمغرب نموذجا”، فيصف العرض ما يدور في كواليس تلك التجمعات الشبابية المتخصصة في التشجيع من خبايا داخل ملاذها الأثير الكورفا ( curva) أو الفيراج أو خارجه، متجاوزا مستوى التوصيف إلى التبرير، وصولا إلى المحاججة لكسب التعاطف والتأثير في المتلقين، من خلال عرض مسارات شخصيات العرض (الذيب، إل كابو، وزوجته… إلخ) والسبل المتشعبة التي ألجأتها إلى ذلك العالم العنيف ذي القواعد الصارمة، والمؤطر بالصراع الدائم سواء بين أعضاء المجموعة نفسها، أم مع بقية الألترات.
يحث العرض المسرحي المتلقين على تفهم حالة الهوس بالتشجيع، ويسعى لاستمالة المتلقي وجعله يتجاوز النظرة السطحية للمنتسبين إلى الإلتراس(ultras)، التي تعجز سلطة المجتمع عن تفهم هوسها بما تفعل، يمثلها صوت ضابط الشرطة الذي يصرخ في لحظة غضب وسأم من متابعة حالة هؤلاء المشجعين، متسائلا عن المحرك الحقيقي الذي يدفع شبابا في زهرة العمر إلى إهدار الوقت وراء فريق قائلا:
-“علاشكتديرو هاد الشي؟ شنو الهدف ديالكم من هاد الشي؟ جاوبوني…”،
ويجيبه كل من “الكابو” قائد المجموعة،و رفيقته، بأن ذلك يتجاوز فهمه النفعي الضيق، وأن ذلك الشغف يمنحهم الإحساس بالانتماء إلى شيء ما بعد أن لفظهم المجتمع، وهو ما يحقق لهم بعد كل مباراة حالة التطهر من الضغط والقيود، هم القادمون من الأزقة والشارع، والمكتوون بنار واقعها الأليم (الفقر-الضياع-اليتم-الاغتصاب)، ومما قاله معبرا عن حالة التهميش القاسية التي يعيشها ومن يشبهه في المجتمع:
-“حنا سلعة قديمة
ما عطاوهاش القيمة
حنا مللي دوينا
جاوبونا بتنخيمة … يختفو !”
ولصياغة الرسائل بشكل أقرب إلى واقع مرسلها يختار المخرج فن الراب في تحاور الشخصيات في مقاطع متعددة، فتعكس مقاطعه الصاخبة وقوة كلماته وإيقاعاته الحقد والغضب الذي يهمين على الشخصيات ويعصف بدواخلها.
تهيمن العتمة على المشاهد البصرية للعرض، محققة الاتساق الدقيق بين عناصره من ملابس وستائر تحيط بفضاء اللعب، وقهوة سوداء مرة تنتقل بين الشخصيات مخترقة فضاءات متعددة (الخشبة، فضاء الجمهور، السجن، الملعب) لتوزع مرارتها على الجميع، كما يهيمن اللون الأسود على بقية الألوان بالعرض بوصفه لون التكتم، واللون المطابق للحالة النفسية للشخصيات (حزن، قهر، حقد، حنين …).
تخلو الخشبة أو تكاد من الأكسسوارات الكثيرة، بوصفها فضاء يهيمن على تأثيثه الاقتضاب، إلا من حواجز تحاصر الشخصيات، وتتشكل المرة تلو الأخرى، لتنشئ مزيدا من العوالم المغلقة (سجن، غرف معزولة) تعمق الإقصاء والتهميش بين الشخصيات وعوالمها.
تساهم الموسيقى المرافقة للمشاهد والمشكلة من طبول المشجعين في توكيد صخب الأحداث، بوصفها مكونا متوازي الإيقاع مع مسارها، فهي مكون صاخب، نابض، يلائم أجواء الملاعب الصاخبة، لتغدو أسلوبا لتضخيم مشاعر الغضب والحنق المهيمنة على الشخصيات.
وهكذا يتشكل عالم الإلترات في العرض بوصفه ذلك العالم المليء بالمتناقضات فهو الفضاء العنيف القاسي الذي لا يرحم، وهو في الوقت نفسه الفضاء الأليف والملجأ لكل من ضاقت به السبل ولفظته الشوارع ولم يجد يدا تحنو عليه، ليكون عالما بوليفوناي بامتياز تتقاطع داخله أصوات متعددة، وتتنازعه سلطات متعددة أيضا إذ يؤسس الفضاء الحر الذي تنتزعه جموع المشجعين من السلطة المهيمنة لتمارس فيه شغبها وأساليب احتجاجها بالشكل الذي يحقق لها تملكه ولو إلى حين.
ختاما …
“المسرح ليس معبدا، كما أشار أفراينوف، وليس مدرسة، أو مرآة، أو منبرا لإلقاء الخطب العصماء، ولا قاعة درس، فالمسرح هو مسرح فقط”، بهذه القناعة-ربما- يقوم “لافيكتوريا” على الفرجة الخالصة، واللعب، والعبث بواقع المتلقي وإعادة تفكيكه وتركيبه بما يضمن اكتشافه أو إعادة اكتشافه من جديد.