في ذكرى رحيل الممثل الروسي الكبير يفجيني ليبيديف / د. فاضل الجاف
“إننا جميعاً جياد صغار” / فلاديمير مايكوفسكي
في شهر يونيو من كل عام، حينما تمر ذكرى رحيل الممثل الروسي الكبير يفجيني ليبيديف، تمتلكني رغبة شديدة في الكتابة عنه وفاءً لعبقريته المتميزة في الأداء واعترافًا بأني من المحظوظين بمشاهدته في أدواره المبهرة. طالما أني لم أشهد في حياتي ممثلاً مسرحيًا يضاهيه في الخلق الفني إبداعًا ومهارة.
يفيجيني ليبيديف1917-1997، ألمع ممثلي بلشوي تياتر بمدينة سانت بطرسبرج وأحد أهم ممثلي القرن العشرين. أثبت ليبيديف براعة متميزة في أداء عدد كبير من الأدوار الهامة من الأدب الكلاسيكي والمعاصر. وكان من بين أدواره الأخيرة على مسرح البلشوي بمدينة سانت بطرسبرج دور الحصان خولستومير في مسرحية “قصة حصان” للروائي الروسي ليف تولستوي، وشخصية كروتيتسكي في “لكل عاقل هفوة” لألكسندر أستروفسكي، والبروفيسور في “الخال فانيا” لأنطوان تشيخوف. نال ليبيديف جائزة الدولة مرتين عام 1950 وعام 1968 وجائزة لينين عام 1986، وقد تم تكريمه بلقب فنان الشعب عام 1968، ويقدر عدد الأدوار التي قام بتجسيدها بأكثر من مئة دور على الخشبة وستة وستين دورًا في السينما والتلفزيون.
لخّص ليبيديف مبدأه في الأداء في مقولة شهيرة: “لا تتعمق في الدور فقط، إنما تعمّق في الحياة، فالحياة يجب أن تمثل برمتها.”
وقد غدا اسم ليبيديف في ذهن محبي فن المسرح مرتبطًا بأدائه المدهش دور الحصان في مسرحية “قصة حصان” طيلة أكثر من عقدين، إذ جرى العرض الافتتاحي للمسرحية في نوفمبر عام 1975 ولم يتوقف إلا بوفاة بطل المسرحية في التاسع من يونيو عام 1997.
ويذهب النقاد إلى أن عرض مسرحية “قصة حصان” هو أحد أطول العروض المسرحية من الطراز الدرامي الجاد البعيد عن الطابع التجاري السائد في الويست إند والبرودواي. ويتبوأ عرض المسرحية في البلشوي مكانة بارزة في تاريخ العروض المسرحية المتفردة في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم بفضل سماح السلطات السوفيتية له بالمشاركة في العديد من المهرجانات المسرحية العالمية في فنلندا والسويد وألمانيا وبولندا والصين ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا.
كان عرض المسرحية في مهرجان أفنيون عام 1979 حدثًا فنيًا كبيرًا، حيث أثار موجة نقدية عارمة بين استحسان واستهجان النقاد. ففي حين ثمّنت الصحف المحلية رسالة المسرحية وأهدافها الإنسانية وأسلوبها الفني، راحت الصحف الكبيرة تصف الأسلوب الإخراجي بالتقليدية وبجمود ميزانسيناته “التشكيلات الحركية” الغارقة في التفاصيل وخلوه من الجرأة الفنية على حد قول بعض النقاد. بينما أكّد نقاد آخرون على أهمية أسلوب المخرج في إدارة الممثل والقدرة على التعامل مع الأداء الجسدي الذي بلغ مستوى استثنائيًا.
استغرقت كتابة رواية “خولستومير: قصة حصان” فترة طويلة بدأت عام 1863 وانتهت عام 1889، وقد كتبها تولستوي بأسلوب واقعي خشن خالٍ من الزخرفة اللفظية، مبتعدًا تمامًا عن الأسلوب الرومانتيكي والمبالغة في التعبير عن الأحاسيس، حيث كان هذا الأسلوب سائدًا في العصر الذي عاش فيه تولستوي.
ويروي تولستوي، الذي كان نباتيًا معروفًا بحبه للجياد، في خمسة ليالٍ متتالية مأساة حصان يدعى خولستومير، وهو يعاني من الشيخوخة والوحدة والاغتراب بين مجموعة من الجياد المفعمة بالحيوية والعنفوان. ويمضي المؤلف في سرد الرواية على لسان بطلها خولستومير في كل أجزاء الرواية المؤلفة من اثني عشر جزءًا وخاتمة، باستثناء الجزء العاشر حيث ينتقل السرد إلى لسان الكاتب.
يتعرض تولستوي إلى المعاملة القاسية التي تتلقاها الحيوانات من قبل الإنسان، معّمقًا الشعور بالاغتراب بين الطرفين على مستويين مختلفين. فخولستومير يضع البشر أمام امتحان إنساني عسير من خلال معاناته وآلامه العميقة. ويلاحظ أن تاريخ الأدب الروسي منذ القدم حافل بالنظرة الإنسانية العميقة النابعة من تفهم غربة الحيوان. وليس أدل على ذلك إلا قصة تشيخوف الشهيرة عن العلاقة الحميمة بين الحوذي وحصانه. وفي الشعر عبّر مايكوفسكي عن ذلك بقوله: “نحن جميعًا جياد صغار.” لكن تولستوي يذهب أبعد من ذلك، فهو يتناول الاغتراب الإنساني متجذرًا في تواجد خولستومير ككائن أجنبي غير منتمٍ إلى المجموعة التي لم ولن تعترف بوجوده. والأقسى من كل هذا أن المجموعة الجديدة تسارع إلى إخصائه ما أن تنشأ علاقة حب بينه وبين الفرس ميلوي، التي قامت بأداء الدور الممثلة الكبيرة فالنتينا كوفل (1923-1997).
تبدأ المسرحية بمشهد استهلالي يتم فيه بيع الحصان الأعرج خولستومير بمبلغ 800 روبل لضابط من قوة الفرسان. يقول خولستومير: “اشتراني من باب الشفقة، ذلك لأن لا أحد يريد حصانًا يعرج.” وفي نفس الوقت يصف الفترة التي قضاها في خدمة الفارس بأسعد فترة في حياته، لكنه سرعان ما يتم بيعه لأحد الأمراء. ويكّن الأمير هو الآخر شعورًا عميقًا لخولستومير، لكنه سيفقده بعد حين قصير من الدهر.
أما مشهد التقاء الأمير بخولستومير ثانية دون أن يتعرف على حصانه، فهو من أجمل مشاهد المسرحية. في هذا المشهد يستلقي الأمير بجانب خولستومير وهو يقول: “حصان، كلا بل صديق.”
العالم الذي يجسده تولستوي هو عالم قاسٍ فظ، قائم على التعصب وإلغاء دور الفرد المتميز والمختلف عن المجموعة. إنه في الصميم عالم الإنسان ذاته، لكنه مجسّد بمنظور ورؤية حصان يختلف عن الجياد الأخرى في لون جلده، مما يسبب له متاعب ومشقات تحيل حياته جحيمًا. الحصان هذا يولد كمهرج لعوب مرح، يتدفق حيوية وعنفوانًا، يرنو حوله مزهوًا في اللحظات الأولى من وجوده بين قطيع من الجياد، يتميز عنهم برقصاته العنيفة وشقلباته وقفزاته على صدر أقرانه. المشاهد الأولى تعكس أفكار تولستوي حول الخير والفضيلة والقيم السامية، مؤكدًا من خلالها على كون الطبيعة الشريرة طبيعة مكتسبة وهي من خلق البشر. فالإنسان، كما يراه تولستوي، خالق ماهيته ومسؤول عنها.
ابتداءً من المشهد الافتتاحي، نرى الحصان خولستومير (ليبيديف) يقف وسط المسرح الضخم المزدان بحيطان من الخيش الأبيض والمساند الخشبية بلونها الطبيعي. المصمم (إدوارد كيتشيرغين)، من ألمع مصممي السينوغرافيا وأستاذ مادة السينوغرافيا بأكاديمية الفن المسرحي بمدينة بطرسبرج، ابتكر عالمًا مجازيًا من الخيش الأبيض يوحي بعالم الحيوان – الإسطبل وعالم الإنسان – السجن.
تتخلل نهايات المشاهد فواصل من غناء شجي ذي مضامين إنسانية عن الغربة والحنين، مضامين مألوفة يتغنى بها الروس عادة في جلسات الخمر وحول موائد العشاء. ويتميز أداء الممثلين بالطابع النفسي العميق، ممتزجًا بروح السخرية والتقنيات التمثيلية السهلة المستلهمة من تقاليد المسارح الشعبية.
يقول الناقد أناتولي سميمليانسكي في كتابه (المسرح الروسي بعد ستالين): “إن تولستوي كان يمّيز بين صنفين من الأصوات يرمزان إلى عالمين مختلفين: الأصوات التي تنبعث من الصدر والأصوات التي تخرج من الحنجرة. فصوت خولستومير ينطلق من الصدر، في حين تخرج أصوات قطيع الجياد المتجمعة على شكل كورس من الحنجرة وكأنه غناء غجري أجش. إن عذوبة الغناء وغناه اللامحدود وطربه المعدي، هو انتصار للقوي والمنسجم مع المجموع على المتلونين بلون آخر، كان هذا يفهم من قبل المخرج توفستونوغوف كقانون من أقسى قوانين الحياة. ويصدح القطيع بالغناء ” فقط أولئك الذين يملكون كل شيء يبقون في الطليعة…”. إن سلم التوزيع النغمي للعرض كشف عن هذا: أحد أعمق تناقضات الحياة الذي اهتدى إليه ليف تولستوي.
وتحدد الناقدة الروسية إليتشييفا الخصائص الإبداعية لهذا الإنتاج المسرحي عند استئناف عرضه ثانية في السادس والعشرين من شهر يونيو عام 1990 بعد توقف قصير بسبب موت المخرج توفستونوغوف في نفس العام، في ثلاث نقاط. مؤكدة في النقطة الأولى على أهمية الأداء الصوتي والمؤثرات الصوتية. أن صوت ليبيديف كان يعبر عما يجيش به أعماق الحصان خولستومير من رعب وحب وغم نافذًا إلى أعماق المتفرجين، على الرغم من أن عمره كان قد جاوز السبعين. وتذكر أن الأداء الصوتي كان بشكل عام قائمًا على الصراخ والترنيمات الشعبية البدائية الشبيهة بالعويل.
لقد استلهم ليبيديف نحيب الحصان من سني طفولته. ويؤكد الناقد سميمليانسكي على أهمية تقنيات منهج ستانيسلافسكي لليبيديف في تجسيده دور الحصان، خصوصًا على مستوى الأداء الصوتي. فهو يقول: “لقد سألت ليبيديف بعد عدة سنوات من العرض الافتتاحي للمسرحية عن المصدر الذي استلهم منه بكاء الحصان، حيث أني لم أجد في فرادته ما يماثل الأصل. فاسترجع الممثل عام 1930 وقال: “كنت ابنًا لقسٍ وكان هذا يكفي كي ينظر الكل إليك كمنبوذ في المجتمع، فالكنائس كانت تُهدم ورجال الدين تعرضوا لاضطهاد شديد من قبل السلطة الشيوعية. وكنت أراقب أفراد التعاونية من الفلاحين وهم يقودون قطيع الأبقار بعيدًا عن القرية.. كانت ثمة امرأة تتبع الرجال منتحبة لفقد أبقارها، مولولة في نحيب ينطلق من الصدر، هو ذات النحيب الذي كان يخرج من صدر حصان تولستوي بعد عقود من السنين”. ويرى سميمليانسكي أن هذا بحد ذاته مثال ناصع للاستفادة الصحيحة من تقنية ستانيسلافسكي المسماة بــ”الذاكرة الفعّالة”.
يبسط ليبيديف فلسفته في الأداء بالاستناد إلى تقنية ستانيسلافسكي في تجزئة بنية الدور إلى وحدات متميزة، بوضوح وفاعلية خالية من التعقيد. فهو يبلور مفهوم التمثيل بمقولته الشهيرة: “التمثيل عبارة عن نقاط، محطات”، ولا شك أن المحطات تشكل بنية الدور وإيقاعه الدقيق.
تتمثل خصوصية المخرج توفستونوغوف الثانية في تأكيده على الأخلاقية الفردية. إن العرض، مثله مثل نص تولستوي، قائم على المبدأ التعليمي. ولكن ماذا يعلمنا العرض؟ إنه لأمر جيد أن يكون المرء شابًا وقويًا مثل الفرس (ميلي) التي هام بها خولستومير، وأن يكون المرء ميسور الحال يكسب ربحًا طائلاً. فقوانين الحياة لا ترحم أحدًا، ليست هناك عدالة أو إنصاف، يعيش المرء حياته كيفما اتفق، ويردد الكورس: “لا يمكن العيش دون أن يكون الفرد محميًا”. البشر قساة ليس مع الحيوانات فحسب، بل مع بعضهم أيضًا.
أما الخصوصية الثالثة للمسرحية فتتجلى في غزارة أفضيتها الموسيقية الرحبة. فالشكل الموسيقي كان معدومًا في العروض الروسية عام 1975 على حد قول الناقدة إليتشيفيا. فقد بنى توفستونوغوف عرضه في هيكل موسيقي متكون من المقاطع الموسيقية المؤلفة خصيصًا لهذا العرض وإنشاد الكورس بعض المقاطع من النثر الكلاسيكي. لقد كان بناء العرض موسيقيًا تمامًا على الرغم من أن “قصة حصان” ليست مسرحية موسيقية. وهي في صميمها مأساة محزنة جدًا وفي الوقت نفسه ملهاة مفرحة بهيجة تستعرض ألعاب الجياد ورقصاتهم العنيفة على غرار عروض المهرجين والمضحكين، بينما المجموعات الإنسانية نراها تتحول من هيئة إلى أخرى كما يحدث في الحكايات.
إن للعرض بدءًا من إعداد رواية تولستوي طابعًا ملحميًا إلى درجة يصح تسميته بالعرض الملحمي البريختي. حتى أن الناقد المسرحي نيكولاي زايتسيف أطلق عليه اسم “تولستوي علامة شارحة بريخت”. وحتى على صعيد فن الممثل والأسلوب الإخراجي، فإن توفستونوغوف المعروف بكونه من أشهر مريدي منهج ستانيسلافسكي والذي أكد طيلة مسيرته الفنية الطويلة على اعتبار المنهج النفسي في الأداء والمنهج الشرطي كطرفي نقيض، نراه في هذا العرض يقرب طرفي النقيض ليخلق عرضًا قائمًا على أسس ومنجزات ستانيسلافسكي وبريخت. ففي العدد الثاني من مجلة المسرح الروسية لعام 1976 اعترف توفستونوغوف بهذا التمازج واستخدامه التغريب البريختي في “قصة حصان”. ذلك التمازج الذي حدا بالناقد زايتسيف إلى أن يكتب: “إن هذه المسرحية قصيدة عن الحياة”.