ماجد درندش… حكواتي السيرة وتحديات الفن في التعبير الادائي/ بقلم: د.عماد هادي الخفاجي
قراءة في عرض مسرحية “حكاية درندش” للمؤلف والمؤدي ماجد درندش، دراماتورج د.جبار حسين صبري. انتاج نقابة الفنانين العراقيين – المركز العام بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح
في عالم مليء بالأصوات والقصص، نجد الحكواتي يقف على خشبة المسرح يسرد حكايات من الماضي والمستقبل، يمزج بين الخيال والواقع، ليحملنا في رحلة عبر الزمن. هذا الراوي ليس مجرد ناقل للأحداث، بل هو حامل لروح الجماعة، يعيد تشكيل الذاكرة الجمعية ويمنحها حياة جديدة مع كل قصة يرويها. في هذا العرض “حكاية درندش”، نستحضر أفكار الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، الذي رأى في الراوي رمزاً عميقاً للاتصال الإنساني والحكمة، فضلا على تأكيده بأن الحكواتي ليس مجرد مُسل بل هو فيلسوف بطريقته الخاصة، ينقل المعارف والحكم عبر الأجيال، ويصنع رابطا قوياً بين الماضي والحاضر. يرى بنيامين أن الراوي يمتلك القدرة على تحويل الأحداث العادية إلى تجارب ذات مغزى، وأن الحكايات تعبر عن تجارب إنسانية مشتركة، تسهم في تشكيل هويتنا وفهمنا للعالم. إن فن السرد، كما يراه بنيامين، هو وسيلة للتأمل والفهم العميق، وهو شكل من أشكال المقاومة ضد النسيان والاندثار.
في هذا السياق، يجسد ماجد درندش، الحكواتي العراقي، تاريخاً فريدا من خلال نقل وقائع الحياة والوطن بمشاعر تعبر عن رحلة مليئة بالتجارب بأسلوبه الفريد، يلقي الضوء على المواقف بروح تأمل واعتزاز، محلقا بنا في سماء مسرح السيرة، في هذا المسرح يتبنى درندش رؤية بنيامين للحكواتي حيث لا يروي فقط حكايات بل ينقل حكمة الاجيال ويخلق رابطا بين ماضي العراق وحاضره، محافظا على تراثه الثقافي ومساهما في استمرارية الذاكرة الجمعية، لذلك فقد كان درندش بارعا في تقديم تجربة مسرحية غير تقليدية، خالية من التعقيدات، ليقدم عملاً جماليا بسيطا وعميقا في آنٍ واحد بعيدا عن الإطناب والإرهاصات التي تفقد أحيانا المعنى، أتى درندش بأسلوبه الأدائي المغاير والممتع، ليأخذنا في رحلة مع أوجاعه وأحلامه وذكرياته.
من خلال هذه التجربة المسرحية، نجح درندش في إثارة مشاعرنا بطرق متعددة، فقد أضحكنا وأحزننا، وأشعل فينا شوقاً لا يُطفأ، التجربة لم تكن مجرد عرض مسرحي، بل كانت رحلة حقيقية في عالم ممتلئ بالمشاعر العميقة، حيث استطاع أن ينقل لنا تفاصيل حياته بصدق وإحساس نادر، كل حركة وكل كلمة كانت تنبض بالحياة، مما جعل الجمهور يعيش كل لحظة معه وكأنها جزء من ذكرياته الشخصية. وعند العود الى مسرح السيرة والحكواتي والارتباط الشخصي بالقصة التي طرحها درندش نلاحظ سمة الارتباط العميق بالقصة التي طرحها، لانها ليست مجرد حكاية، بل هي جزء من حياته وتجربته الشخصية. اما الأسلوب الشفهي والارتجال، فقداعتمد درندش على الأسلوب الشفهي والارتجال في سرد قصصه، مما يعزز الصدق والتأثير العاطفي في العرض لان التعبير العفوي والذاكرة الحية هما الأكثر تأثيرا وصدقا في نقل المعاناة والأمل للتجسيد الحي للمشاعر فكانت كل حركة وكل كلمة في أداء درندش تنبض بالحياة، مما جعل الجمهور يشعر وكأنه يعيش اللحظة معه، هذا التجسيد الحي يجعل من مسرح السيرة تجربة فريدة ومؤثرة، فضلا على ان البساطة التي استخدمها درندش كأداة للتعبير اثبتت بانها أبلغ أدوات التعبير لان الفن الحقيقي ينبع من القلب ويصل إلى القلب بدون حواجز أو زخرفة، وهو ما ميز عرضه بالتداخل الشخصي والعام فأضحت حكايات درندش تتجاوز الحدود الفردية لتصبح قضية عامة، فكانت حكاياته مرآة لحياة العراقيين، حيث لا مسافة بين الشاهد والضحية، ودائما ما تكون البطولة في الصمود والبقاء رغم كل الصعاب.
وبعد هذا يمكننا القول بان هذه التجربة تثبت بان الفن ليس مجرد تقنيات وأساليب، بل هو تجربة حية تنبع من الصدق والإحساس العميق بالمشاعر الإنسانية، فالارتجال والأسلوب الشفهي يمكن أن يكونا أدوات قوية في نقل القصص، حيث يتلاشى التكلف وتظهر الحقيقة العارية. إن إبداع درندش يذكرنا بأهمية أن يكون للفنان ارتباط حقيقي بما يقدمه، وأن يستخدم البساطة والصدق كأدوات رئيسية في التعبير الفني.
وفي النهاية يمكن القول بان تجربة ماجد درندش في مسرح السيرة تبرز كإحدى النماذج المضيئة في الفن الأدائي. بأسلوبه الفريد وبساطته العميقة، استطاع أن يخلق علاقة مميزة مع جمهوره، محولاً حكاياته الشخصية إلى تجارب جماعية تتجاوز الحدود الفردية، وإن تفانيه الواضح جدا في الصدق والعفوية، مع الحفاظ على تأثيره العاطفي القوي، يعكس قوة الفن في بناء جسور التواصل والتفاهم بين الناس. إن هذه الرحلة التي قادنا فيها درندش ليست مجرد استعراض لأحداث حياته، بل هي دعوة للتأمل في معاني الصمود والأمل والإنسانية، مما يجعل من مسرحه فضاءاً حقيقيا للتفاعل الإنساني العميق، بالإضافة الى ذلك هذه بعض المقترحات والتي يمكن لماجد درندش الاخذ بها لتعزيز تجربته المسرحية وجعلها أكثر تأثيراً وارتباطًا بجمهوره، مع الحفاظ على طابعها الفريد والمميز:
- تعزيز التواصل مع الجمهور: التوازن بين الشخصية والعامة: بينما يعبر الحكواتي عن تجربته الشخصية، يجب أن يكون هناك توازن بين السيرة الذاتية والتجربة العامة، هذا يجعل القصة أكثر شمولية ويعزز ارتباط الجمهور بها.
- التفاعل مع الجمهور: يجب أن يكون هناك وعي كبير بالتواصل مع الجمهور، مما يعزز التفاعل المباشر ويجعل العرض أكثر حيوية ويمكن تحقيق ذلك من خلال إشراك الجمهور في بعض اللحظات أو توجيه الخطاب إليهم بشكل مباشر.
- تعزيز الرسالة: يجب أن تكون القصة ليست مجرد سرد للأحداث، بل وسيلة لنقل رسالة معينة إلى المتلقي بحيث يجب أن يكون هناك مضمون يعكس قضايا اجتماعية أو إنسانية ويحفز الجمهور على التفكير والتفاعل.
- استخدام الأدوات المتنوعة: يمكن استخدام الموسيقى والإضاءة والعناصر البصرية لتعزيز الجو العام للعرض وتكثيف التأثير العاطفي، دون الإخلال بالبساطة التي تميز مسرح السيرة.
- التدريب على الارتجال: حتى يكون الأداء طبيعيًا وعفويًا، يجب على الحكواتي أن يكون متمرسا في فن الارتجال، مما يتيح له التكيف مع أي ظرف أو تفاعل غير متوقع من الجمهور.
- البحث والتحضير المكثف: الاطلاع على تفاصيل القصة والشخصيات والحقبة الزمنية يساعد في تقديم عرض متماسك ومقنع وهذا يتضمن فهم السياق الاجتماعي والثقافي والنفسي للشخصيات والأحداث.
- تنويع الأساليب السردية: استخدام تقنيات سردية متنوعة مثل الفلاش باك، والفلاش فوروورد(Flash Forward)، والتداعيات الحرة يمكن أن يجعل العرض أكثر تشويقاً وتنوعًا وذلك من خلال الانتقال بالزمن الى الامام داخل القصة على عكس الفلاش باك(FlashBack) الذي يعود الى الماضي لعرض احداث سابقة، وبالتالي يقوم الفلاش فوروود بنقل المتلقي الى احداث مستقبلية بالنسبة للنقطة الزمنية الرئيسية للقصة.
- التطوير المستمر للنص: يمكن ان توفر تجربة النص أمام جمهور صغير قبل العرض الرئيسيملاحظات قيمة لتعديل وتحسين النص وتقديمه بأفضل صورة.
- استخدام لغة الجسد بشكل فعال: الحكواتي يعتمد كثيراً على تعابير الوجه وحركات الجسد، لذا يجب أن يكون هناك تمرين مستمر على تحسين هذه المهارات لتوصيل المشاعر والأحداث بشكل أكثر فعالية.
- التكيف مع المكان: كل مسرح له خصائصه الخاصة، لذا يجب أن يكون الحكواتي مرناً في تعديل أدائه وفقا لحجم المكان، توزيع الجمهور، والإضاءة المتاحة.
- التعاون مع فريق فني محترف: الافادة وبشكل سليم من العملمع مخرج أو دراماتورج يمكن أن يوفر للحكواتي رؤى جديدة ونصائح مهنية لتحسين العرض. كذلك يمكن لفريق الصوت والاضاءة ان يضيفوا ابعاداً جديدة للعرض.
- الانفتاح على النقد: استقبال النقد البناء من الجمهور والمختصين يمكن أن يكون طريقة فعالة لتطوير الأداء والارتقاء بمستوى العرض.
- الدمج بين التقليدي والحديث: يمكن إدخال عناصر حديثة مع الحفاظ على روح الحكواتي التقليدية، مما قد يجذب جمهوراً أوسع ويضيف للعرض نكهة مميزة.
- التركيز على التفاصيل الصغيرة: الاهتمام بتفاصيل صغيرة في السرد، مثل وصف الأماكن والروائح والأصوات، يمكن أن يساعد في خلق صورة ذهنية حية للجمهور، مما يعمق تجربتهم العاطفية.
- العمل على تطوير الصوت: التدريب على استخدام الصوت بطرق متنوعة مثل التغيير في النبرة، والسرعة، والشدة بحيث يمكن أن يضيف حيوية ونبضا إلى السرد ويجذب انتباه الجمهور.
- استغلال الصمت: يمكن أن يكون للصمت والتوقف المؤقت تأثير قوي جداً في خلق التشويق أو التأثير العاطفي، لذا يجب تعلم متى وأين يمكن استخدام هذه الأدوات بشكل فعال.
- التفاعل مع المكان والأدوات المتاحة: استخدام الأدوات المتاحة في المكان بشكل إبداعي، مثل استخدام أجزاء من المسرح كجزء من القصة أو التفاعل مع الأشياء المحيطة، يمكن أن يضيف عمقًا وأصالة للعرض.
- استلهام قصص الجمهور: يمكن للحكواتي في بعض الأحيان أن يستلهم بعض القصص أو التفاصيل من الجمهور، مما يعزز شعور التواصل الشخصي ويجعل العرض أكثر تفاعلية وحيوية.
- تنويع الحكايات: يمكن تقديم مجموعة متنوعة من الحكايات التي تمس مواضيع مختلفة مثل الحب، والحرب، والثقافة، والتاريخ، مما يضمن تلبية اهتمامات جمهور واسع ويمنح العرض بعدًا متعدد الأوجه.
- الاهتمام بالملابس والإكسسوارات: يمكن أن تساهم الملابس والإكسسوارات في تعزيز شخصية الحكواتي وبيئة القصة، مع الحرص على أن تكون مناسبة للحقبة أو الثقافة التي يتم سردها.
- الاستفادة من تقنيات السرد الحديثة: يمكن دمج تقنيات مثل العروض البصرية أو التسجيلات الصوتية لجعل العرض أكثر ديناميكية وحداثة، دون أن يفقد روحه التقليدية.
- اقامة ورش عمل تفاعلية: تنظيم ورش عمل تفاعلية مع الجمهور قبل أو بعد العروض، تتيح للحاضرين فرصة التعرف على تقنيات السرد والارتجال، وتبادل القصص الشخصية، ان هذا النوع من التفاعل يمكن أن يعزز شعور الجمهور بالمشاركة والاندماج في العملية الإبداعية.
- إشراك الحكايات المعاصرة والمجتمعية: يمكن للحكواتي أن يدمج قصصا حديثة تتناول القضايا الاجتماعية المعاصرة والتحديات التي يواجهها الناس في المجتمع العراقي اليوم، وان هذه القصص يمكن أن تكون مستمدة من تجارب حقيقية لأشخاص يعيشون في نفس البيئة، مما يضيف بعدا واقعياً وآنيا إلى العروض المسرحية.
- التعاون مع فنانين آخرين: التعاون مع فنانين من مختلف المجالات مثل الموسيقيين، والرسامين، والمصممين، يمكن أن يثري العروض المسرحية ويضيف لها عناصر جديدة ومبتكرة. على سبيل المثال، يمكن دمج الموسيقى الحية أو الفن البصري في العرض لتعزيز التجربة الحسية والجمالية.
- استخدام التقنيات الحديثة: دمج التقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي أو المعزز، أو استخدام تطبيقات الهواتف الذكية للتفاعل مع الجمهور، بحيث يمكن لهذه التقنيات أن تضيف بُعداً تفاعلياً جديداً إلى العروض، وتجذب جمهورا أوسع وأكثر تنوعا، وعلى سبيل المثال، إنشاء تجربة مسرحية متعددة الوسائط تتفاعل مع مشاهدين يستخدمون تطبيقاً خاصاً على هواتفهم لتقديم معلومات إضافية أو تفاعلات مباشرة مع العرض.
- استكشاف الحكايات التاريخية والثقافية: يمكن للحكواتي أن يغوص في التراث الثقافي والتاريخي الغني للعراق والمنطقة، مستعينا بالأساطير القديمة والقصص الشعبية والتراث الشفوي والتي يمكن أن تضيف عمقاً وبعداً ثقافياً إلى العروض، مما يعزز من أهمية الحكواتي كحامل للذاكرة الجمعية.
- تطوير شخصية الحكواتي: ابتكار وتطوير شخصية الحكواتي بحيث تصبح أيقونية ومميزة، يمكن أن يساعد في تعزيز التجربة المسرحية. بحيث يمكن إضافة سمات شخصية فريدة، أو إكسسوارات مميزة، أو حتى لهجة وأسلوب كلام خاص، مما يجعل الشخصية أكثر جاذبية وقوة في التأثير على الجمهور.
- تجربة السرد التفاعلي: دمج عناصر السرد التفاعلي حيث يمكن للجمهور المشاركة في تحديد مسار القصة من خلال تصويت أو اقتراحات خلال العرض، ان هذا الأسلوب يخلق تفاعلًا ديناميكيًا بين الحكواتي والجمهور، مما يجعل كل عرض فريداً من نوعه ويعزز مشاركة الجمهور.
- تنظيم عروض خارجية في أماكن غير تقليدية: تقديم العروض في أماكن غير تقليدية مثل الساحات العامة، والمقاهي، والمكتبات، وحتى البيوت القديمة أو الأماكن التاريخية. هذه العروض يمكن أن تجذب جمهورا مختلفا وتخلق تجربة أكثر حميمية واندماجا مع البيئة المحيطة، مما يعزز من أصالة العرض ويجعله جزءاً من النسيج الثقافي للمكان.
وأخيرًا، أعتقد أن استخدام هذه الاقتراحات أو الاستفادة منها تمكن الحكواتي من تطوير تجربته المسرحية بشكل مبتكر وغني، مما يسهم في جذب جمهور واسع ومتنوع، ويجعل عروضه أكثر تأثيرا وقوة في نقل الرسائل الإنسانية والاجتماعية