كتاب الخميس (الحلقة السابعة والأربعون) / عرض و قراءة: محمد محسن السيد
*****************************
ما تفرّق في الادب والفنون تجمعه الحداثة
ان من اهم ما يميز مرحلة الحداثة هو استقطابها الفنون والادب. في بوتقة واحدة والفاء الفواصل وما يسمى بالاجناس الادبية والفنية الخاصة تحت وطئة متغيراتها المتسارعة واحداثها الساخنة، فلم يعد الشعر مكتفيا بالوزن والنجور والتفعيلات، بل بدا الشاعر نمكي في قصيدته سرديا او دراميا وحتى سينمائيا من خلال استخدام تقنية المونتاج وتعددية اللقطات، وكذا القول بالنسبة الى التشكيلي والموسيقى وربما حتى الى الاغنية واشتغالاتها الاخيرة المتبكرة. وخلاصة القول هنا ان هناك تداخلا واضحا بين الفنون افرزته حقبة الحداثة وما تلاها ومن اهم الكتب التي تناولت هذا الموضوع هو كتاب (في نظرية تداخل الفنون) للكاتبين ا.د. مجيد حميد الجبوري والدكتور حسن عبود النخيلة، والصادر عام2018. نهض الكتاب -كما متعارف- بمقدمة اولية واربعة فصول توزعت على صفحاته ال(190) صفحة من الحجم الوسط . حيث جاء الفصل الاول من عنوان (درامية الشعر وشعرية الدراما) والثاني بعنوان (درامية السرد وسردية الدراما) والثالث بعنوان (دوامية اللوحة وتشكيلية الدراما) والرابع والاخير بعنوان (نحتية الدراما ودرامية النحت) .
حيث ضم الفصل الاول موضوعان رئيسيان هما:
1- شعرية الدراما
2-درامية الشعر
فقد جاء الموضوع الاول حول الشعرية واهميتها واشتغالاتها وتطورها التاريخي . ومما جاء في مقدمتها :
(… ان الشعرية سعت الى تجديد الادب واستنفار طاقاته الكامنة وتطوير مبانيه ومعانيه، ما افسح المجال لتعدد وتنوع الاتجاهات والتيارات الادبية والنقدية ; لدرجة انها استطاعت ان تغير حتى في وظيفة الادب واشكال واليات اشتغاله، ويكفي للتدليل على ذلك ظهور نظريات درست الادب والفنون برؤى مغايرة، نذكر منها النظريات البنيوية وما بعد البنيوية ونظريات التلقي وغيرها. والمعروف ان الشعرية قد ارتبطت بكل ما يرتقي بالاسلوب، وتتجاوز كل ماهو سطحي ومباشر الى ما هو عميق وكامن باحثة عن معطياته الجمالية. وحول وجود الشرط الجمالي في الشعرية نقرا ذلك. (… الشعرية ليست قيمة خاصة بالخطاب الادبي في ذاته، وانما في قدرة الخطاب على ايقاظ المشاعر المشاعر الجمالية في المتلقي، او اثارة الدهشة غير المجانية، او كسر بنية التوقعات لدى المتلقي، او بعث اللذة وإثارة الاهتمام لدى قارئه او مستمعه. ثم ينتقل بنا الباحثان في ذكر عددا من الخصائص الفنية التي تخص الشعرية، التي لايعدم وجودها في الدراما، بل تعد من الركائز الاساسية في الدراما، واول هذه الخصائص هو إيقاظ المشاعر الجمالية ثم التنويه عنها وتاشيرها منذ التنظيرات الاولى للفن الدرامي، بدءاً من (ارسطو) ومقولته بنظرية التطهير في التراجيديا وانتهاءاً بـ(يريخت) ورفضته للتماهي واستبعاده للتطهير ومناداته باثارة المشاعر والرفض للواقع المعيش، وعليه فان اولى خصائص شعرية الدراما هي خاصية (إثارة المشاعر وايقاظها) . والخاصية الاخرى هي (الدهشة) حيث ظهرت حركات فنية في حقب تاريخية. معينة جعلت من الدهشة عمادا لها; كما في الدادئية والسريالية على مستويات التشكيل والشعر والدراما، والمذهب التعبيري على مستويات الرواية والتشكيل والدراما، وكذلك المذهب الرمزي واشتغالاته في الادب والفنون .
والمعلوم ان خاصية الادهاش بلغت اوج فعاليتها ضمن تيار اللامعقول، وهذا ما يؤكد على ان (اثارة الدهشة) هي من الخصائص الاساسية الشعرية الدراما. وهناك من الخصائص المفارقة وخلق الفجوات او مسافات التوتر وكسر افق التوقعات، والتكثيف الدلالي، والاسلوب البديعي الذي يجمع بين ما هو ايجابي وسلبي في الوقت نفسه، وهو ما يدعوه النقد (مجاورة الاضداد) او (الجمع بين المتناقضات)، ويقصد به ذكر الشيء مع ما يعدم وجوده او ينفيه كقوله تعالى:”لايموت فيها ولا يحيى”. وفي الدراما يعد (الجمع بين المتناقضات) من الخواص الاسلوبية المهيمنة; فبدون وجود الاضداد وتجاورها سواء كانت اشخاصا او معان او مضان فان الدراما لا يمكن ان تحقق دراميتها، فضلت على ما تقدمه هذه الخاصية في اعلاء لشعريتها.
وهنا يقفز الينا سؤال مهم: كيف نحدد مظاهر الشعرية في اي نص درامي؟ والجواب نجده حاضرا في ثنايا الكتاب اذ يجيب الباحثين عليه بالاتي:
لمعرفة مظاهر الشعرية في اي نص درامي، لابد من البحث عن وجود الخصائص الاسلوبية الاتية:
1-الجمع بين المتضادات او مجاورة الاضداد.
2-تحرير المعنى: بتحول ما هو خاص الى ما هو عام ويتضمن ما يتعلق بتوسيع الصورة.
3-الانسجام الاسلوبي: الذي يحدث بين نظم المعاني والايقاع الداخلي المتدفق للكلمات.
4-الانحراف الاسلوبي: على المستوى النظمي: وهو يتعلق بنظم المعاني.
5-الانحراف الاسلوبي على المستوى الايقاعي: ويتعلق بترتيب الحروف والكلمات وتواليها.
6-التوازي في المعاني والصور: ويدخل من ضمنه المفارقة في الصور والمعاني.
7-المعنى المضمر.
8-خرق سنن التعبير: من خلال خرق ما هو مألوف في التعبير او مخالفته او مغايرته.
9-كسر افق التلقي او كسر التوقع.
10-الفجوات او مسافات التوتر، التي يتركها المؤلف للمتلقي كي يعمل على ملئها.
11-الاحلال والتعويض: وهو ما يتعلق بخاصية إحلال معانٍ وصور جديدة بدل المعاني والصورٍ التقليدية، بمعنى تعويضها بمعانٍ وصور أكثر حيوية.
12-التجاوز المبدع وحسن التخلص.
وهنا ينتقل بنا الباحثين الى الاسلوب التطبيقي لشعرية الدراما عبر نموذج تحليلي لمسرحية (الجهة المقابلة) للكاتب العراقي الراحل(علي الربيعي) للتدليل على مظاهر الشعرية في هذا النص الدرامي. فوشرين -على ضوء ما تقدم- كل المظاهر الشعرية التي تواجدت في هذا النص بما يلي: الشخصية الرئيسية وهي شخصية (الدوار) وهو مهنة من يمتهن الدوران في الشوارع والازقة، والدوار هنا ليس اسما للشخصية، بل صفة عامة لكل من يمتهن هذه المهنة، فنرى هذه الشخصية تشتري ما هو مستهلك ومعطوب ومنتهية صلاحيته على عكس المعتاد، مما يشكل خرقا للسنن، وهناك مظهر ثالث هو التضاد الواضح بين مظهر الشخصية المتعب والذي يدلل على فقر مدفع وبين اللغة العالية والتي تشير الى مستوى ثقافي عالٍ تتحدث به هذه الشخصية. ويتحقق المظهر الشعري في عبارات قصيرة تحمل بلاغتها من خلال تكثيف المعنى وحسن سبل العبارة من مثل:(ايها الباذخون في الفقر) وكما هو معروف فان البذخ يقترن بالثراء لا بالفقر، فهذا التعبير على قصره قد جمع بين الاضداد و(البذخ/الفقر)، ونرى فيه خرقا للسنن المالوفة. ومظهر اخر من مظاهر الشعرية في هذه العبارة القصيرة هو: ذلك الانسجام الاسلوبي الذي يلوح بين نظم المعاني والايقاع الداخلي المتدفق للكلمات، حتى ان إيقلمها يحملّها موسيقية لا تخفى على اذن المتلقي ذي الحس المرهف ،والمثانية من استمرارية في حروف المد (الالف والواو والياء) وختمها بحرف قصر ساكن هو (الراء) .
كما يبرز لنا مظهر خرق سنن التعبير واضحا بسؤال الدوار ان يبيعه الناس ما يستحيل بيعه او شراءه. وذلك في حواره في منتصف المسرحية مناديا الجمهور: “اجرح للبيع .. حزن للبيع .. حلم للبيع”، ولا يخفى والتكرار حرف (الحاء) هنا والقابل للمد معضدا التدفق الايقاعي الذي يمنحه تكرار حرف المد الصريح (الياء). وهناك ايضا فكرة (السقوط الى الاعلى) التي تعد مظهرا شعريا يشير الى قدرة المؤلف على التجاوز المبدع وحسن التخلص.
وهناك ايضا ما يسمى بالمفارقة الشعرية والمتمثلة بقول الدوار:”حديد عتيق .. عتيق حديد” والعبارة هنا تحمل مفارقة كبيرة على المستوى المضموني ،فسمة (العتيق) تحمل معاني الاستهلاك والقدم وبلاء الشيء وعدم فائدته، وهي اوصاف للحديد الوارد هنا، غير ان الجزء الثاني جعل من (العتيق) صلدا متماسكا يمتلك قوة لانها هي، هي قوة الحديد .
وهنا نصل الى الموضوع الثاني والاخير في هذا الفصل الاول والذي يحمل عنوان: (درامية الشعر) والذي استهله بالقول: “منه المفيد القول بان (الشعر والدراما قرينان لايفترقان مذ عرفت الانسانية الادب، واكتشفت أمكانيته في جعل الحياة اكثر قبولا للعيش، … بل ان مقياس الشاعر المجيد في اوربا كان يتوقف في قدرته في كتابة المسرحيات وعلى مافي قصائده من روح درامية)”.
والسؤال هنا ما المقصود بدرامية الشعر؟ وعلى الفوز ياتينا الجواب:
(ان المقصود بدرامية الشعر هو إمكانية الشعر الافادة من الدراما وخصائصها في صياغاته الاسلوبية، ولعل في الشعر من الافاق الواسعة ما يجعله يستوعب ما للدراما من معطيات، في مقدمتها اعتماده الفعل الذي يعد خاصية درامية اساسية .
وخلاصة القول في الفعل في الدراما والشعر فنقرا 🙁 .. ان الفعل في الاثنين- الشعر والدراما- يمنحهما تلك الطاقة الباعثة الحيوية والدينامية والحركة، فالشعر قد يوظف الفعل لوصف حالة ما او انفعال ما، اما الدراما فانها تقدم بل تُحدث الحالة او الانفعال مباشرة، وفي الحالتين فان خركة الفعل وديناميته تكون حاضرة، ولا سبيل لتجاهلها). وبخصوص المفارقة الدرامية واستخدامها في الشعر فيؤشر الكتاب:(.. اذا كانت. المفارقة الدرامية تعمد في الدراما الى ابراز التناقضات والاضداد بهدف الكشف عن اقطاب الصراع او تحفيز للجانب النقدي; فانها في الشعر تفيد في تفعيل وسائله النقدية او تعميق جوانب السخرية او التهكم، او الفضح فيه، وبرهان ذلك قول الشاعر كاظم الحجاج:
” لم تسعنا غرفة التسفير / كنا اربعين/ منعوا ارجلنا ان تنثني/ فجلسنا واقفين).
ومن المقابلات المتاحة بين الدراما والشعر – كما بينها الباحثين – ان نضع (شعر المديح) في مقابل (الدراما الكلاسيكية) ويعزز ذلك ما ذهب اليه (قدامة بن جعفر) و (اني رشيق) واتفاقهما وما يحمله من سمات كالعقل والشجاعة والعدل والعفة والجمال والابهة وبسطة الخلق وسعة الدنيا وكثرة العشيرة. اما (شعر الغزل) فيمكن مقابلته مع (الدراما الرومانسية) التي تعمد الى اعلاء شان الذات والعاطفة، جاعلة إياهما المركز المحوري لاهتماماتها. وهناك ما يسمى بـ(الشعر الصوفي) الذي يرتقي بسماته الى ما يجعله يقابل (الدراما الرمزية) .
وهنا نصل الى موضوع اخر هو (درامية الشعر في قصائد اودنيس) وفيه يقدم الباحثين اجراءات تطبيقية على بعض قصائد الشاعر (علي احمد سعيد) المشهور بـ(اودنيس) التي وردت في ديوانه الموسوم (المسرح والمرايا) اذ يقدم الشاعر فيه مجموعة من القصائد يرتبط عنوان اغلبها بـ(المرآة) ويبدو ان خواص الدرامية تبدأ اشتغالها في هذا الديوان من عنوانه الذي يذكر – منذ التامل الاول – بالمقولة السائدة التي ترى ان المسرح مرآة عاكسة للمجتمع، كذلك يحيل العنوان يحيل المتامل الى ما اطلقت عليه تسمية (مسرح المرآة) الذي اشتغل عليه الكاتب الايطالي (لويجي براندلو) كثيرا، فضلا على; ان اقتران المسرح بالمرايا يوحي بان هناك كشفا واضاءة لما هو مخفي وظاهر على حد سواء، وان هذا الكشف وهذه الاضاءة يتمان بواسطة صادقة لا تقبل الكذب هي المرآة. وتتجلى درامية الشعر في هذا الديوان في مواضع عديدة، واول تلك المواضع هو ما يردد في قصيدة (مرآة الراس) التي افادت من إمكانات الحبكة الدرامية المتضمنة لبداية ووسط ونهاية، اذا بالأمكان تعيين مسار الحبكة وتطورها خلال المراحل الثلاثة المذكورة، فمرحلة البداية التي تبدأ بعمليات التهيئة ونصبا الفخاخ وتهيئة وسائل الهجوم أو (جمع العوامل القابلة للاشتعال) -كما يسميها كريفش- يمكن ان نلحظ ذلك في قول الشاعر:
“سايدته ، رصدته / غلغلت في جفونه/ ايقظت كل شهوتي هجمت وختززته / وجئت”. وواضح جد اهميته الافعال خلال هنا المقطع، وهذا يشير ايضا الى مقطع تتمظهر دراميته بامتياز، لان عماده الاساسي هو الفعل، والفعل -كما هو معروف- هو عماد الدراما – فضلا – عما يشير اليه المقطع من وجود شخصين، احدهما ضحية والثاني مهاجم تدور في داخله المناجاة الفردية اعلاه.
بعد ذلك تاتي مرحلة الوسط التي تتضمن التصعيدات والتوترات التي تنتجها التعقيدات الموقف، وتظهر تلك المرحلة بعد رجوع الجاني الى داره ، ليدور بينه وبين زوجته حوار درامي صريح، كما هو واضح في المقطع الآتي:
– او حستني ، اطلت ، كيف؟
– ابشري، جئتك بالدهر، يمال الدهر.
– من اين ، كيف ، اين؟
– براسه …
– الحسين.
وهنا يمكن الاشارة الى هناك حركة الشخصيين، وحوار مشهور بتوتر درامي يدور حول جريمة وجناية ومعتدٍ ومعتدى عليه، وهذا ما يشكل اركان دراما واضحة. بعد ذلك تاتي نهاية هذه الدراما القصيرة في خاتمة تكشف عن اشمئزاز الزوجة من فعل زوجها. وتقريها إياه على ما اقترفه من جريمة، يعقب ذلك بروز النقطة الحل التي تتمثل بقرار المرأة ; الانفصال عن زوجها ; في نهاية درامية متميزة :
(ويلك يوم الحشر / ويلك لن يجمعني طريق او حلم او نوم / اليل، بعد اليوم ..). ويستمر الباحثان تطبيقاتهما على نص آخر لادونيس هو (الراس والنهر). بتحليل متمكن من أداته مؤكدين على درامية الافعال من خلال حركيتها وتحرريتها، مع وجود حكبة وتكاملة مع وجود تعددية في الشخصيات والاصوات، وهنا نقرا:
شيخ:(بصوت ضعيف): الحرب زريبة غنم .
شيخ:(بنبرة من المسرح): قالوا: ان الحرب حقيبة. (بصمت، يتابع بشيء من الجد) لو ان الحرب حقيبة لملاناها خرزا وجلسنا فيها وصبرنا .
شاب:(يظن انه كان جنديا) قالوا: إن الحرب وسادة (يتمدد كمن يحاول ان ينام) وانا الوسن).
ولا يمكن لاي قارئ ومتلقٍ لابيات المقطع الشعري الماضي ان يحير في ملاحظة ان الشاعر في هذه القصيدة، استعار بشكل صريح اسلوب كتابة النص المسرحي على شكل حوار متدفق بتواصل مستمر، ليجعله اسلوبا اساسيا في كتابة قصيدته. ويستمر الباحثان بتطبيقهما الاجرائي بقصيدة اخرى لادونيس هي(مرآة القرن العشرين) . ويسهبا في تحليل هذه القصيدة ووضع ايديهما على مظاهر درامية الشعر فيها، منها تعددية مستويات الصراع فيها، والمفارقة الدرامية، الافعال ودلالتها التعبيرية، والجمع بين المتضادات، وفي خلاصة هذا البحث يؤكد الباحثان القصائد التي حملت عنوان (المرآة) قي ديوان (المسرح والمرايا) للشاعر ادونيس، يمكن مقارنتها بثنائية الوهم، الحقيقة التي وردت فيما يعرف بـ(المسرح داخل المسرح)، فالمسرح الاطار هنا هو الحياة بكل تناقضاتها واقنعتها، والمسرح الداخلي هو (المرآة) الداخلية; مرآة الروح التي تكشف الحقيقة المخبوءة تحت اقنعة الحياة، وليست المرآة المادية التي تعكس الصور الخارجية فقط .
وهنا نصل في رحلتنا المعرفية والجمالية هذه الى الفصل الثاني والموسوم (درامية السرد وسردية الدراما) وفيه يستعرض الباحثان علاقة السرد بالاصول الدرامية وبالبدايات الاولى لظهور السرد الذي يرجعه بعض الباحثين بمولد الرواية إبان القرون الوسطى وفي شكلها الروائي الاول الذي اقتصر على صيغة مباشرة لسرد اخبار يشترط فيها ان تكون حقيقية وحديثة الوقوع، وكذلك عن شخصيات مهمة ومثيرة للاهتمام. وكان السرد في تلك الحقبة يعمد الى تدوين الوثائق التاريخية; نظرا لالتزامها بتدوين الحقائق الواقعة فعلا، واهتمامها بالشخصيات الحقيقية . ثم يستعرض الباحثان المرحلة التي اكتسبت فيها الرواية استقلالية تامة ، حيث اكتست الرواية درامية، وبذلك اخذت الرواية مفهومها الحديث، ومع رواية (دون كيشوت) للكاتب الاسباني سيرفانتس اول نموذج للرواية الحديثة. ويلخص الباحثان ان اهم استعارة للسرد من الدراما كانت (الحبكة) التي نسيج الدراما وقماشتها الاولى، وبحسب (ارسطو) فانها روح الدراما وجوهرها. وحاولت الرواية الافادة من الحبكة الدرامية لتجاوز آلية السرد وجموده، واحدة فيها الاسلوب الفني الحيوي الذي يبث فيها روح الابداع وسعة الخيال اللذان يمنحان الرواية مزيدا من المبررات والمقترحات الفنية والجمالية. اما بخصوص انواع الحبكة فيمكن تسجيل ظهور اربعة انواع من الحبكة يمكن تسميتها على الوجه الاتي:
1-الحبكة البانورامية
2-الحبكة التشكيلية
3-الحبكة الانتقائية
4-الحبكة العضوية .
والنوع الاول بحسب مايرى(ادوين ماير) هي حبكة هزيلة مفككة لا تستقر على نظام او وضع ما، فغالبا ما تاتي احداثها بفعل المصادفة، وتدخلات الروائي بعيدا عن طبيعة الشخصيات ورغباتها ودوافعها النفسية وحدود قدراتها، والرواية هنا عاجزة مفتعلة عن وضع خاتمة مبررة لاحداثها، وغالبا ما يضطر الروائي الى قطعها كيفما اتفق، ومثالها تلك الروايات التي تطلق عليها تسمية (روايات تيار الوعي)، اما النوع الثاني (الحبكة التشكيلية) وهذا النوع قادر على تركيز الانتباه على خط سردي واضح، والتزام بالتسلسل المنطقي للاحداث، فالحبكة فيها تتضمن كشفا واضحا عن طبائع وسلوك الشخصيات وتفكيرها وردود افعالها، وخير مثال لها هو الروايات الرومانسية والواقعية. اما النوع الثالث من الحبكة فهو (الحبكة الانتقائية) التي غالبا ما تبتعد في سبك احداثها عن الارتباط بالواقع فلا يكون لها اي علاقة منتظمة بالواقع، فالمهيمن في بناءها السردي هو حركة الشخصية التي تكون المحور الرابط بين عناصر السرد المتفرقة، وهو ما يلاحظ ظهوره في قصص المغامرات، وعلى عكس هذه الحبكة، فان النوع الرابع والاخير الذي تطلق عليه التسمية (الحبكة العضوية) فانه يتأسس على وفق مبدأ الت الترابط العضوي المتماسك الذي تنظم فيه حركة الشخصيات وتطور الاحداث بشكل مبرر ومنطقي يؤدي الى نهايات مقنعة ومنطقية، وبحسب ما يرى الباحثان فان هذا النوع هو صورة مقاربة او متماثلة للنوع الثاني (الحبكة التشكيلية). وبخصوص الفعل في الدراما والرواية، فالفعل في الدراما يشكل جوهرا اساسيا فيها، غير ان السرد لا يمكنه ان يستغني عن وجوده في كل الاحوال، حتى وان جاء محكيا او مرويا، والفعب في الدراما يكون اكثر تركيزا وانتقائية واكثر اقتصادا وتكثيفا، في حين ان الفعل في السرد وبخاصة في الرواية يكون اكثر سعة وعمومية واكثر شمولية وتفرعات; وهذا ما جعل الفعل يكون يحتل مكانه مهمة في الرواية واعطاها كثيرا من الحيوية والحركة والنشاط، لتستوعب احداثا كثيرة. والفرق بين الحبكتين – في الرواية والدراما – يعود الى طبيعة الاثنين اذ تميل الدراما الى التكثيف والاختزال، في حين تميل الرواية الى التوسع والامتداد. اما بخصوص الفعل في الدراما والرواية، فبحسب توكيدات(ارسطو) التي اشارت الى ضرورة كيفية تطور الفعل وسيرورته، لا كيفية وجوده في الدراما، في حين يميل السرد -بعامة- الى البناء المفتوح، اذ ان السرد ياتي بالافعال مرصوفة جنبا الى جنب، لانه يركز على كيفية وجود الفعل وعلاقته بغيره من الافعال. وهناك من العناصر الدرامية التي تهتم بها الرواية هي الشخصية وتكوينها الدرامي، والمؤكد هنا ان المؤلف في السرد -بعامة- يبدو ظاهرا في شخصية الراوي، اذ يفرد السرد مساحة واسعة لشخصية الراوي، يستشعر المتلقي وجودها دائما خلف كلماته وذلك لما تقتضيه عملية السرد. بحسب ورودها على لسان المؤلف نفسه او من ينوب عنه، سواء جاء سرده بصيغة المتكلم او بصيغة الغائب، او جاء بصيغة الراوي العليم او الراوي الضمني، وغيرها من صيغ الرواية. اما الكاتب المسرحي فانه مختف وراء شخصياته – فيما عدا صيغة المسرح الملحمي الذي يولي فيه الكاتب المسرحي بعض شخصياته مهمة السرد – اذ غالبا ما ينسى متلقي المسرحية الكاتب المسرحي ويتفاعل مع شخصياته البادية للعيان. اما بخصوص عنصري الزمان والمكان، فان هذين العنصرين اصبحا من العناصر الفاعلة في السرد، كما هما من العناصر الفاعلة في الدراما، ولهما اشد التاثير في تاسيس علائق مستمرة تدعم الاجواء النفسية التي تتحرك داخلها الشخصيات، لذا فكل حادثة تقع في الزمان ومكان بذاته، وهي لذلك ترتبط بظروف وعادات ومبادئ خاصة بالزمان والمكان اللذين وقعت فيهما، والارتباط بكل ذلك ضروري لحيوية القصة; لانه يمثل البطانة النفسية للقصة. وبما ان الارتباط بين الشخصية وعنصري الزمان والمكان يعد من الضرورات الدرامية المهمة، فان ذلك يؤشر -بوضوح- ذلك التداخل الذي حدث بين الدراما وااسرد المعاصر. وهنا يفرج بنا الباحثان الى مثال تطبيقي حول درامية السرد في رواية (المسخ) لفرانزكافكا . مؤشرين على ان ابرز السمات الدرامية التي حفلت بها هذه الرواية هي بختصار شديد:
1-الاستهلاك المثير.
2-بناء الحبكة
3-الصراع الدرامي.
4-الافعال الدرامية.
5-التشويق وإثارة الاهتمام
6- التطهير (اثارة مشاعر الخوف والشفقة على البطل).
وهنا نصل الى موضوع (سردية الدراما) وهو الموضوع الثاني والاخير في هذا الفصل من المعروف ان السرد يقوم – من حيث المبدأ – على سرد الاحداث، بينما تقوم الدراما على تتابع الاحداث التي تقوم نفسها بنفسها. ومع تطور الدراما اخذ بعض المؤلفين الدراميين يفيد من السرد اسلوبا لتقديم افعال مسرحياته، او التعليق عليها او دعمها لها او تدخلا فيها; وبخاصة الالماني (برتولدبرنجت) الذي جعل السرد متداخلا مع الدراما بانسجام تام، فشكل السرد لديه عنصرا اساسيا في البنية الدرامية، ليقدم – في الوقت نفسه -تاثيرات بدل من تاثير واحد، يتبدلان الادوات ويعطيان صورة للدراما مغايرة للصورة التقليدية،… فالسرد والدراما يوصفان بانهما من وسائل الاتصال التي تعتمد على عرض تتابع احداث مرت بها الشخصيات او خلقتها الظروف المحيطة. والسؤال المهم هنا هو: ماهو الوسائل التي يستعين بها السرد ليتحقق خطابا متعدد المستويات؟ .
ونجد الجواب حاضرا لدى الباحثين، بتوكيدهما على صوت الراوي الذي يثير الاسئلة ويجيب عليها باعتباره من اهم الوسائل التي استخدمها السرد، ومن هنا انطلقت محاولات عديدة لوضع اليات للكشف عن طبيعة السارد، منها:
أ- تحديد العلاقات التعبيرية التي يُدرك – من خلالها – السمات التي تشير الى سعة ثقافة السارد ووعيه ومعتقداته وقيمه وتوجهاته الفكرية والاجتماعية مواقفه من حركة الناس والاحداث والعصر .
ب- تحديد العلامات التداولية التي تشير الى حضور المتلقي في ذهن السارد ودرجة توجهه إليه، لذا يلحظ ان اغلب الانواع السردية تستحضر المتلقي – دائما – بضمير المخاطب (انت). اما كيف تتحقق سردية الدراما فنرى البحث يجيب بالاتي:
تتجلى سردية الدراما عندما يجري عليها تطبيقات لنظرية السرد، ومن اوضح الامثلة على ذلك; فان (نظرية التجلي والاخفاء) التي نادى بها(جاتمان) عام 1978 ، يمكن ان تكون حاضرة في حميم الخطاب الدرامي عند تمييز صوت السارد في الدراما، اذ يمكن التمييز بين السارد ظاهر يروي الاحداث، وبين سارد مختفء يبقى متوازيا خلف الشخصيات، على ان الساردين يظهرون ويختفون بدرجات متفاوتة. ثم يستعرض الباحثان بعض النظريات السردية التي يمكن ان تجد لها طريقا في المنجز الدرامي، خاصة فيما يتعلق بـ(جيرارجيينت) و(مانفريد) و(ستانزل) و(باختين) واطروحاتهم المهمة في هذا المجال، وتماشيا مع الاختصار نسلط الضوء على وجهات نظرهم على سبيل الايجاز الشديد. فبخصوص (جيينت) فقد سعى للتمييز بين نوعين من السرد هما: سرد عالم الحكي الداخلي، الذي هو احد شخصيات القصة الفاعلة، فالفرد الذي يفعل السرد هنا هو شخصية في مستوى الحدث (سرد متجانس الحكي)، فالكهل والمراة والرجلان الاخران في مسرحية(حكاية صديقين) لـ(محي الدين زنكنة). يمهدون في اول مواجتهم للجمهور بانهم الشخصيات التي ستسرد قصة الصديقين.
وهذا النوع يتطابق مع دور الجوقة في مسرحية (بائع الدبس الفقير) لـ(سعد الله ونوس) كعنصر متجانس يمثل الشخصيات الظاهرة التي تشكل جزء من عالم الشخصيات المرتبطة بما يجري من احداث في المسرحية المذكورة.
اما النوع الثاني بحسب نظرية (جينيت) فهو (سرد عالم الحكي الخارجي) الذي يختص بقصة تحكى بواسطة سارد عالم الحكي الخارجي والذي لا يحضر بوصفه شخصية في القصة. ومثال ذلك ما يمكن ملاحظته في وظيفة الراوي في مسرحيتي(الانسان الطيب من ستسوان) لـ(بريخت) ، و(راس المملوك جابر) لـ(سعد الله ونوس); اذ يلاحظ ان السارد (الراوي) في هاتين المسرحيتين يكون منفصلا تماما عن عالم الشخصيات التي يقدمها، وبذلك يكون هناك عالمان: عالم الحكي وعالم الشخصيات التي تُحدث الحكاية. ومن مظاهر السرد التي نجد لها صدى في الدراما، هو ما يسمى بـ(التبئير) الذي يبين وجهة نظر السارد وتعليقاته على الحدث او موقفه من الشخصيات، ويرى (جينيت) ان هناك ثلاثة انواع من التبئير هي: التبئير الصفري والخارجي والداخلي. والاول هو الذي لا يقدم فيه السرد او السارد اي وجهات نظر تذكر، وان ما يعرض هو سلوك الشخصيات وجريان الاحداث فقط، وبعبارة ادق انه يعرض الشخصيات وهي في حالة الفعل، وفي هذه الحالة فان التبئير الصفري ينطبق تماما على مجريات الدراما ;لانها لا تقدم سردا بل تقدم فعلا، اما التبئير الداخلي فهو بحسب (مانفريد) :(تقنية عرض شيء من وجهة نظر شخصية داخلية في القصة). اما الشخصية التي تعرض الاحداث من خلال رؤيتها، فتسمى المؤبر الداخلي، ويفضل بعض المنظرين ان يطلق عليه العاكس. والذي يوصف على انه السارد الضمني او الداخلي الذي يمتلك وعيا مركزيا او يكون مصدر للمعلومات التي لا تمتلكها الشخصيات الاخرى، ومثل هنا المؤبر الداخلي يمكن ملاحظته بخاصة في المسرحيات الرمزية، مثال ذلك شخصية (الاعمى العجوز) في مسرحية (العميان) لـ(مترلنك) الذي يوجه العميان الاخرين، وشخصية (المخبر) الذي يكون مصدر المعلومات المركزي الناقل لاخبار البلاد واحوال الساسة والعباد في مسرحية (بائع الدبس الفقير) لـ(سعد الله ونوس)، او شخصية (نوار) الذي يوجه مسار (حيرة وجيران) في مسرحية (المفتاح) لـ( يوسف العاني). اما التبئير الخارجي فهو السرد الذي يقوم به سارد خارجي يكون خارج عالم السرد، ويقدم وجهات نظر حيادية دون ان يكون متاثرا بما يجري من احداث او مواقف، ويطلق عليه كل من(بال) و (ريمون كينان) تسمية (المؤبر- السارد) ويمطن ملاحظة وجود مثل هذا المؤبر في الجوقة الكلاسيكية، ويوسع (مانفريد) انواع التبئير ليجعلها اربعة بدلا من ثلاثة، اذ يراها على الوجه الاتي:
1-التبئير الثابت: وهو الذي يكون فيه عرض الاحداث والحقائق السردية من وجهة نظر ثابته، ومثاله في الدراما شخصية الراوي في مسرحية(الانسان الطيب في ستسوان) لـ(بريخت)، او السرد الذي يقوم به (المخرج) في مسرحية (حفلة سحر من اجل5 حزيران) لـ(سعد الله ونوس)، اذ يقدم الراوي فيها سردا بصوت واحد يمثل وجهة نظر واحدة.
2-التبئير المغاير: وهو التبئير الذي يتصل بعرض حوادث عرضية مختلفة في القصة من خلال عدة مؤبرين، ومثاله الشخصيات التي تروي استهلاك مسرحية (حكاية صديقين) لـ(مجي الدين زنكنة) .
3-التبئير المتعدد: وهو تبئير يركز على تكرار عرض الحدث او الموقف، ولكن من خلال رؤية مؤبر داخلي مختلف في كل مرة، عارضا ميل الشخصيات المتعددة على ادراك وتاويل الحدث او الموقف بحسب وجهات نظرها الخاصة، وهذا ما نجده في وجهات النظر المتعددة في المسرحيات الواقعية وبخاصة في مسرحيات (هنريك إبسن) مثل(بيت الدمية) و(البطة البرية) حيث تعرض الشخصيات المتعددة وجهات نظرها في قضية واحدة، وهو ما يمكن ملاحظته ايضا، وبوضوح جدا في وجهات نظر الناس المختلفة من قضية الفيل في مسرحية (الفيل ياملك الزمان) لـ(سعد الله ونوس)، او تلك الاراء الطريفة حول الصخرة; لجيران(منتظر رحمه الله) في مسرحية(الصخرة) لـ(فؤاد التكرلي) .
4-التبئير الجمعي: وهو تبئير ياتي من خلال مجموعة من مؤبرين أو ساردين . وخير من يمثله دراميا هو الجوقة بمختلف انواعها والعصور التي ظهرت بها .
اما (باحتين) فقد اولى اهمية قصوى للتاثيرات السردية! ومما نقرا له: (… اذ يميز بين صوتين سرديين، يمكن من خلالهما تمييز نوع النص السردي، وهو يطلق على التاثير الاول: تسمية(الحوارية الآحادية) ويعني لديه التاثير الذي يُخلق عندما يبدو كل الاصوات متشابهة مما ينتج نصا حواريا، اما التاثير الثاني فانه يطلق عليه تسمية (المبدأ الحواري) ويعني لديه التاثير الذي يُخلق عندما يحتوي النص على تنوع من اصوات السارد والمؤلف والشخصية مما يخلق تناقضات وتوترات دلالية فتكون النتيجة نصا حواريا او نصا متعدد الاصوات.
وصدى هذين التاثرين يمكن ملاحظته من خلال مسرحيات المونودراما بالنسبة للتاثر الاول، والحواريين الشخصيات بالنسبة للتاثير الثاني. والسؤال المهم هنا هل هناك في مسار السرد خروقات تنتهك شفرات النص؟ ويجيب البحث: بنعم، فاحيانا ياخذ السرد شكل منحنيات غير متوقعة يطلق عليها (جينيت) تسمية (انتهاك المخططات المعيارية); اذ تحدث في مسار السرد جملة خروقات تنتهك شفرات النص ;يحددها (جينيت) على وفق الآتي:
1-التبدل:ويقصد به تحول مؤقت الى صيغة عرض لا تحمل على وفق التوقعات المعيارية ;كما يحصل في سياق القطعة الموسيقية عندما يحدث نشاز في عزفها في لحضة ما، ويمكن ان يشير ذلك في الدراما الى الافعال الثانوية او الحبكات الثانوية، كما يمكن ان يشير الى الصدف او المفاجأت التي تحفل بها المسرحيات الرومانسية والميلودرامية.
2-الاستفاضة: هو ما يتعلق بالامتدادات الخارجية والاسهاب والافاضة، ويكثر في مجال الوصف الذي يتخلل الرواية والقصة، وفي الدراما يمكن ملاحظته في تداعيات الشخصيات والحوارات الجانبية والمناجيات الفردية التي يكثر ورودها في المسرحيات التعبيرية.
3-الايجاز: وهو ما يتعلق بالتكثيف والاختزال والاقتصاد، ويشمل حذف المعلومات او تجاوزها او القفز عليها، وهو من المنحنيات التي تشكل الميزة الاكثر في الدراما وهي ميزة الاختزال والتكثيف. ثم يذهب بنا الباحثان الى نموذج تطبيقي السردية الدراما في مسرحيات (راس المملوك جابر) و(بائع الدبس الفقير) و(الحر الرياحي) للشاعر الراحل عبد الرزاق عيد الواحد، على وفق ما مربنا في الصفحات الماضية. وهنا نصل الى الفصل الثالث وحمل عنوان (درامية التشكيل وتشكيلية الدراما)، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو هل يمكن الحديث عن وجود عناصر درامية تشتغل في الفنون التشكيلية؟. وللاجابة على هذا السؤال. يجيبنا الباحثان : بنعم ولكن: كيف؟ وعلينا قبل كل شيء ان نعرف عناصر التكوين في اللوحة التشكيلية ومن ثم مقاربتها مع ما يماثلها في الدراما. ونرى هنا – لزاما – ان نعرف بالتكوين لتكتمل الصورة، فالتكوين:(هو ترتيب مجموعة من العناصر والاشكال في اللوحة بطريقة متناسقة وخاصة، تتلاءم مع ميول واحاسيس وخيرات الفنان الجمالية من اجل تحقيق عمل فني مبتكر وجديد، ويحمل صفات جديدة وإيحاءات وجدانية تخدم الموضوع المراد التعبير عنه). فالتكوين اذافهم بهذه الكيفية فانه لا يبتعد ادنى خطوة عن مفهوم الحبكة الدرامية; التي تعمل بدورها على ضبط حركة العناصر الدرامية مانحة إياها ترتيبا قادرا على خلق فكرة ما مشفوعة بالوان من التعبير والارهاصات الانسانية. اما بخصوص عناصر التكوين في اللوحة التشكيلية فيتحدد بسبع عناصر هي):النقطة/ الخط / الكتلة / الفضاء / اللون/ الضوء/الظل/ النسيج). والان لنرى كيف تشتغل هذه العناصر ومايقابلها دراميا، فبالنسبة الى النقطة فتعد في الفن التشكيلي اساسا لانطلاق الخطوط والكتل والاحجام، وهي بذلك تقابل وتماثل من حيث الوظيفة نقطة الانطلاق في الحبكة الدرامية. وتعرف النقطة:(هي ابسط عناصر التكوين التي نراها دائما في النظام الكوني من حولنا باشكال وتكوينات عديدة مثل قطرات الندى، ذرات الرمال … بالرغم من بساطتها الا انها من العناصر الهامة التي يقوم عليها التصميم فهي تحمل حلولا وتنويعات). وتتضح اهمية النقطة كعنصر اساسي في التكوين عندما تتبين اهميتها بالنسبة لتكوين الخط الذي يعّرف على انه:(مسار نقطة او امتداد مجموعة من النقاط الملتحمة والمتجاورة اي اتجاه واحد) . مايجعل الصورة اقرب لايجاد مقاربة مجدية بين نقطة إنطلاق الفعل وخط حركة اافعل في الدراما. اما العنصر الثالث من عناصر التكوين وهو الكتلة، وهي في الفن التشكيلي تشتمل على ماهو جامع للثابت والمتحرك والصامت والناطق، فهي أذن تجمع الشخوص وموجودات بيئتها المحيطة المشتملة على صور واشكال متنوعة، وعليه فهي تقابل مجتمع المسرحية بما يشتمل عليه ذلك المجتمع من طبيعة ومسكن وملبس، وبما تظهر عليه الشخصيات من هيئة ومظهر خارجي، وهي عوامل يمكن – من خلاله – التعرف على الطبيعة البيولوجية والاجتماعية والنفسية للشخصيات، وما يحف بها من موجودات مادية وحيوانية ونباتية او موجودات كالمباني والادوات والاكسسوارات .. وغيرها .اما العنصر الرابع في التكوين فهو الفضاء او مايدعى(الفراغ)، فالفراغ أذن يرتبط بالمواضع التي لم تملا ، ويشير الى الجو المحيط بالاشكال، (او هو الهواء الذي يعطي تنفسا مريحا في التصميم، كي لا تكون الاشكال مكدسة في العمل الفني مما يكون له دور في الغاء عمق الصورة). ان هذا الفهم يبرر مقاربة توحي بدرامية اللوحة، ذلك لان الاسترخاء والمتنفس اللذان يتحمها الفراغ في اللوحة يحمل مشابهة للحظات التهيئة التي تسبق كل فعل في الدراما. ويحتل العنصر الخامس في التكوين وهو (اللون) مكانة مميزة في اللوحة التشكيلية، فهو الذي يتحكم بالجو النفسي العام، وهو الموجه المهيمن الذي يقود العين نحو مضان اللوحة الاساسية، فضلا عن مهمته الجمالية التي يرتفع بها شان التصميم للوحة. واذا ماتم الكشف عن الخصائص اللونية في اللوحة بعين فاحصة متأملة ;فان ذلك سيقود الى الكشف عن قيمتها الدرامية الكامنة التي تتمظهر في تلك الطبائع المحسوسة التي يتفرد بها كل لون عن غيره.
ويتنوع الخصائص المتعلقة بكل لون من الالوان تتنوع الإحالات الدرامية عبر تمايز بين الساخن والبارد .. ان تلك الخصائص اللونية تتعلق بمت توحيه من ردود افعال نفسية او شعورية، فهي وليدة الأحاسيس المختلفة، فقد اتفق المتخصصون بالفنون ان اللون إحساس وليس رؤية، وهذا ما يجعل مقاربتها دراميا ممكن; ذلك لان الاحاسيس وردود الافعال النفسية تعد من المرتكزات الاساسية للدراما. ويحتل كل من (الضوء والظل) العنصر السادس من عناصر التكوين في العمل التشكيلي، وتتجلى اهميته من ذلك التضاد الذي يمنح اللوحة عوامل التوتر والاثارة فيه، وتتجلى دراميته في ذلك الصراع الذي يحدث بين مناطق الضوء وظلالها، كما يتجلى في إضفاء علامات الاظهار والاخفاء او علامات الحضور والغياب في اللوحة، وهذا الموضوع يمكن مقاربته دراميا بالشخصيات التي تضيئها الدراما عندما تزيد من ظهورها على ساحة الاحداث بالضد من الشخصيات التي تقبع في الظل وتقل اهميتها في السياق الدرامي عن الشخصيات المضيئة – إن صح التعبير – فكل الشخصيات التي تمنح كمية ضوئية كبيرة في اي مشهد من مشاهد المسرحية تكون هي المهيمنة وصاحبة المبادرة في ذلك المشهد، حتى ان هذه الميزة عدت تختص بها الشخصيات التي تتسم بالبطولة او تكون من الشخصيات الرئيسية في الدراما، اما الشخصيات القابعة في الظل فهي أما يكون ظهورها قليلا في مساحة الاحداث، او يكون دورها ثانويا في تلك الاحداث، اما العنصر السابع والمهم من عناصر بنية اللوحة التشكيلية فهو (النسيج) الذي يمثل في اللوحة (الملمس او الايحاء البصري بخامات الاشياء المرسومة، ويتحقق عادة باشكال الاضاءات الملقاة على هذه الاشياء). وبما ان النسيج يمثل الارضية التي تظهر عليها مؤثرات الاضاءة، والاشكال والسطوح، لذا ان النسيج على وفق المنطق الدرامي يمكن ان يماثل في طبيعته البيئة والجو النفسي العام للدراما، ويعطي إشارات الى المذهب او الصنف الدرامي الذي تنتمي اليه المسرحية.
بقي ان نقول ان عناصر الحبكة التشكيلية تنظمها وسائل تعمل على ضبط عملها وتمنحها فاعلية التاثير والتعالقه فيما بينها وهي على نحو الايجاز:
1-الايقاع
2-التماثل
3-التنوع
4-التدرج
5-الصراع او السيادة
6-التضاد والتوافق
7-الاتزان
8-تناسب الاشكال مع الارضية .
وهنا يأخذنا الباحثان في نموذج تطبيقي لدرامية التشكيل للوحة (استشهاد القديس سيباستيان) للرسام الايطالي (انطوينو بولا يولو). ويستمر الباحثان في رحلتهما المعرفة والجمالية الممتعة في هذا الكتاب لنصل الى موضوع (تشكيلية الدراما) ومما جاء فيه:(.. ان تشكيلية الدراما تتجلى من خلال مايمكن مقاربته من عناصر تشكيلية تجد لها ضمن البناء الدرامي، وفي مقدمة تلك المقاربات هو (التكوين) الذي يعد بمثابة الحبكة التشكيلية بالنسبة للوحة، والتي تقابل الحبكة الدرامية في المسرحية … بل يذهب البحث الى الاعتقاد الى ان هتاك انظمة جمالية يخضع لها البناء التشكيلي يتردد صداما بقوة في البناء الدرامي مثل عناصر: الاتزان والايقاع والتدرج والتنوع والسيادة وغيرها .. فالاتزان مثل يتحقق (من خلال وضع العناصر في مقابل بعضها في العمل الفني سواء كانت عبارة عن مجموعة من الكتل او البقع اللونية او خطوط او فراغات). ويتحقق ذلك في الدراما من خلال فاعلية التوازن بين الكتل البشرية في الدراما، فعلى سبيل المثال تشكل شخصية (اياغو) ككتلة بشرية ;اتزانا مع شخصية (عطيل) ككتلة بشرية مقابلة، وشخصية (هاملت) تشكل هي الاخرى اتزانا مع شخصية (كلوديوس) ومن هم معها مجتمعين … وهناك مسرحيات عديدة تكشف عن شخصيات ضعيفة القوة تنزن مع شخصيات تفوقها اضعافا مضاعفة في القوة، من ذلك مسرحيات (ماساة بائع الدبس الفقير) و(يوم من زماننا) لـ(سعد الله ونوس) و(الصخرة) لـ(فؤاد التكرلي) و(الحسين شهيدا)و(الحسين ثائرا) لـ(عبد الرحمن الشرقاوي) وغيرها، وخاصية الاتزان تتعدى فعاليتها الدرامية الشخصيات; لتشمل المعاني والقيم والدلالات، مثال ذلك وضع قيم الارض في مقابل قيم السماء كما في المسرحيات الكلاسيكية. القديمة، والقيم الذاتية والعاطفية في مقابل قيم الجماعة والواجب كما في المسرحيات الكلاسيكية الحديثة وغيرها. والى جانب (الاتزان); فان الايقاع يعد من العناصر الجمالية المنظمة لعمل الحبكة تشكيليا ودراميا، فهو يعد من الاسس الهامة في إسباغ الحيوية لخطوط الحركة سواء في اللوحة او المسرحية، اذ تقاس قيمة الايقاع بمقدار حركة العناصر وفاعليتها، ومن خاال طاقته المنبعثة تجدد الحياة وتبرز فاعليتها، في حين يكون لـ(للتماثل) في الفن التشكيلي – بوصفه عنصرا جماليا – دور مهم في اثراء الدراما بمواصفات عديدة فمثلا هناك تماثل ياتي عبر الافكار مميزا الشخصيات المجتمعة على فكرة الخير عن الشخصيات المؤتلفة على فكرة الشر مثلا، فضلا على ان في(التماثل) مايعلي في الدراما من شحنة الصراع الدافقة بين قطبي الصراع ، والدراما الفاعلة هي التي تجمع في بنائها عدد من التماثلات من ذلك الصراع الذي جمع نقيضين: هما (هاملت و كلوديوس) اللذين يتماثلان في سعيهما للخلاص من بعضهما ، ولا نيفكان عن إثارة افعال متوالية تتماثل في سعيها الى الهدف المتماثل الانف .اما(التدرج) فانه يعد في الفن التشكيلي عنصرا جماليا ضروريا بين عناصر التنظيم الجمالي للحبكة التشكيلية، ويمكن عدّه من العناصر الجمالية الهامة في الدراما ايضا، ويتبين اثره واضحا في خاصية الدراما التي تميل الى تاجيل الكشف عن اسرارها او الاجابة عن الاسئلة التي تثيرها دفعة واحدة، بل تعمل على كشف تلك الاسرار والاجابة على الاسئلة المثارة تدرجا، وذلك لاثارة الاهتمام وبث المزيد من التشويق لدى المتلقي، فالنبوءات الثلاثة التي تستهك بها مسرحية (مكبث) تثير اسئلة والغازا محيرة في البداية، لكن الكشف عن تلك الالغاز والاجابة عن تلك الاسئلة ياتي تدرجا، ولا يكتمل الكشف ولا الاجابة الا في المشهد الاخير من المسرحية، ومثال الكشف التدرجي مايمكن ملاحظته في مسرحية (بيت الدمية) لـ(ابسن) المتعلق بسر الدين الذي تتكلم عليه (نورا); لياتي الكشف عنه مصداقا على فاعلية عنصر (التدرج) في الدراما. فهذا العنصر يثري جوانب القوة والتاثير والتامل وشحذ الاهتمام لمتابعة المتلقي الدراما بحرص وشغف كبيرين. وتحتل خاصية (التنوع) مكانة كبيرة في الاحياء الجمالي للحبكة التشكيلية، وهي خاصية متلازمة الحضور مع الحبكة الدرامية، فهناك تنوع يسعى الكاتب المسرحي لاظهاره في مستويات متعددة مثل مستوى التنوع في الشخصيات، ومستوى التنوع في الافكار، ومستوى التنوع في الافعال والتصرفات والعلاقات. على ان تشكيلية الدراما يمكن ان تنهض من عنصر جمالي اساسي اخر في. الفن التشكيلي هو ما يطلق عليه (الصراع والسيادة) اذ تتمثل السيادة في اللوحة في ذلك الشكل المتفرد بالوانه واضاءته وموقعه في اللوحة، وعنصر(السيادة) هذا يجد اشتغالاته الجمالية والفنية في الدراما من خلال عناية المؤلف باضفاء صفات الهيمنة والسيادة لشخصية من الشخصيات تو لفعل من الافعال او لفكرة من الافكار او لموقف من المواقف مشكلا قطبا اساسيا تدور في فلكه الاقطاب الاخرى، وتكون له الكلمة الفصل في حسم الصراع. ومن الاشتغالات التشكيلية التي نجد لها تاثيرا مميزا في الدراما; تبرز اهمية الاستثمار (اللون) ضمت اهتمامات الخطاب الدرامي من خلال قدرة هذا العنصر على تعميق الدلالات التي بيتها ذلك الخطاب، فاللون الاسود في مسرحية (عطيل) يلعب دورا بارزا ويكون ممتلئا بالمعطيات الدلالية المفسرة لسلوكية الشخصية ونفسها التي تبدو بيضاء اللون، وهو اللون ذاته الذي تتسم به بشرة(دزدمونة) وتصرفاتها ويؤكد براءتها وصدقها، في مقابل ذلك اللون (الرمادي) الذي تتلون به الشخصية (اياغو) التي تتحرك في الظل ماي ما يجعلها تبدو شخصية غامضة تظهر غيره اتبطن، ومن جهة اخرى; فان اللون (الاصفر) يمكن ان يعطي بعد توضيحيا للحالة النفسية. ثم يسوق بنا الباحثان نموذج تطبيقي لتشكيلية الدراما من خلال مسرحية (انتيجونا) لجان انوي.
وهنا يصل بنا المطاف الى الفصل الرابع والاخير من هذا السفر المهم جدا والموسوم(درامية النحت ونحتية الدراما). والسؤال المهم هنا: ماهي امكانية اشتغال عناصر الدراما في بنية النحت؟. وما هي امكانية فعالية عناصر النحت في بنية الدراما؟ ويجيب الباحثان، بنعم ، ولكن كيف يتم ذلك؟. ففي الموضوع الاول لهذا الفصل نجد هناك موضوعا رئيسيا بعنوان(درامية النحت) وتضمن مواضيع فرعية هي .
1-حبكة النحت
2-الشخصية في النحت
3-الحوار في النحت
4-الفعل في النحت.
ففي الموضوع الاول(حبكة النحت) وفيه نقرا:(ان النحت بوصفه صورة تنطوي على حبكة تنضم اجزاءها عبر علاقات متشابكة فانها لا يغايرها عن حبكة. الدراما سوى مادة التكوين، فعنصر الصور هو عنصر شمولي يجمع كل الفنون، إذ ان (معنى الصورة يتحدد عموما بالعلاقات. المكانية والزمانية والسببية التي تنسق بين العناصر المحسوسة المستمدة من الطبيعة مثل الاصوات والالوان والاشكال والافكار). ومن هنا يتضح بان بنية الحبكة يمكن ان تظهر في عموم الفنون ومنها فن النحت، فهي اشبه باداة التنسيق التي تضبط إنتاج الصورة، وهي في الوقت نفسه لا تنفصل عن اشباع هذا الفن او ذاك بمكون فكري هو الرسالة التي يمكن ان يرسلها الانتظام الصوري.
.. فالحبكة النحتية تجعل المتلقي إزاء موقف يستوعي التاويل عبر الواقع نهائي تكرسه حركة الشخصيات وتفاءلها ضمن حالة ثابتة، فالنحت يسعى في حبكته الى ابراز شكل ما ; بعد ان ان تتمكن هندسة الحبكة. من التخلص. من كل ماهو فائض او خارج عن التكوين، وبذلك فان ما تقوم به الحبكة النحتية (ليس تشكيل قطعة صخر صلبة، ولكن تحرير الشكل من سجن الصخرة بازالة الزوائد عن الصورة المتخيلة في الذهن للشكل الكامن في الصخرة .. والحبكة النحتية – ترتكز – كما الدراما – على الاشخاص والاحداث والاشياء. – بخاصة في النحت البارز – وهي تشترك مع الدراما في تحقيق مبدا التوازن الحبكي في صيغة التماثل او عدمه … علما ان التوازن يظهر في حالتي التماثل وعدمه طابعا ديناميكيا على الحبكة النحتية ويخلع على النحت درامية الحركة، او يمنح الحبكة النحتية ما يمنحه للحبكة الدرامية من ايقاد لجذوة الصراع وتبيان طاقته الحركية واستعراض مفاصله الفاعلة. اما بخصوص الشخصية في النحت فنقرا:
.. ان حضور الشخصية في النحت يعد حضورا حتميا في الفضاء النحتي، لان العلاقة بين الفضاء. والشخصية النحتية تعد علاقة بصرية مهمة بامتياز ، غير انها علاقة مقيدة لانها مرتهنة بانفعال ما مستحضر ضمن قالب محدد، على ان حركة الخطوط جسد الشخصية هي التي تمنح الشخصية النحتية دراما تيكيتها … ان اجتماع عنصرا (الحركة والانفعال) يستجيبان في تحقيق درامية الشخصية النحتية. اما عن الحوار في النحت ;ان المحت في تاسيسه لحوار باطن اشد ما يرتسم من خلاله ما يمكن قراءته في ملامح الشخصيات من انفعالات متنوعة وما يسفر عنه من حركة ونشاط ما فاذا ما كان الحوار مرحلة ممهدة ومنتجة للافعال، فبالامكان ان تعد الانفعالات المرتسمة على ملامح الشخصيات علامة دالة عليه اما بخصوص الفعل في النحت وفيه نقرا: .. وتدرك درامية الفعل النحتي عبر اشتماله على الاضداد والمتحركة ، وهذه التباينات تعطي ملمحا لاختلاف الشخصيات عن بعضها وامتلاكها لطرقها المنفصلة في تجسيد الفعل . وقد كان(استانسلافسكي)ينص ان علينا دائما ان نبحث في كل مانفعله عن القوى المضادة او الاضداد. وهنا نصل الى موضوع (نحتية الدراما) وفيه نقرا: من المفيد للذكر ان هناك نوعان رئيسيان من النحت – مهما اختلفت مادته خام – والنوعان هما: النحت المجسم والنحت البارز، والسؤال المهم هنا: هل يمكن تمييز مسرحيات يتمظهر فيها النوعان اعلاه؟ وللاجابة على ذلك:يرى البحث ان النوع الاول يمكن مقابلته مع المسرحيات الكلاسيكية والواقعية والطبيعية، اما النوع الثاني الذي يحتاج الى وجود خلفيات فيمكن مقابلته مع المسرحيات الرومانسية والملحمية التي تستعب وجود خلفيات شعبية واسعة. ويمكن التوكيد هنا ان حيوية صورة النحت تبرز من خلال حركية: خطوط صورة النحت نفسها. وعليه فاننا سنقوم هنا بفحص امكانية بعضا من عناصر النحت التي وجد البحث انها يمكن ان نجد لها اشتغالات في بنية الدراما وهي:(الكتلة /الزمن / الايقاع /اللون / النسيج). ففي موضوع الكتلة في الدراما مانقرا ):الاداة في العمل الابداعي تختلف من فن الى اخر فهي في الموسيقى اصوات، وفي التصوير الوان، وفي النحت كتل، وفي الادب عبارات، فالنحب يتعامل مع الكتلة بينما يتعامل الادب مع الكلمة .. ان نحتية الدراما تتخذ لها منعطفا لسانيا ينطلق في اساسه من الكلمات بوصفها تعيينا للكتلة، فالكتلة مادة خام تنتظر التاسيس وبث العلاقات وشحن التفاعلات كي تتضح هويتها وعلاقتها بمحطات الزمن(الماضي والحاضر والمستقبل) … ففي الدراما يجزي تكوين الصورة بمساعدة الالفاظ، وليس بمساعدة الخطوط والالوان او الاشكال الحجمية كما هو في النحت.
فالكلمات تتحكم بتحديد جرع التكوين الصوري، وهي لا تخضع للكيفية كنا هو الامر في حالة التامل للتمثال في النحت ;بل هي مشروطة وتحكمية خاضعة لسلطة الكتابة وتصميم العبارة والصور. اما عن الزمن في الدراما فنقرا:(فالفرق بين الكتلة والكلمة هو الفارق بين السكون والحركة، وان الكتلة تُحرّك من الخارج بينما الكلمة تحمل في داخلها الحركة … ان نحتية الدراما تشكل جانبا من الافادة من الزمنية الكلية ضمن طبيعتها على المستوى الدياكروني والسانكروني، مع فارق لابد من التطرق اليه، هو (المرونة الزمنية) فالدراما في طابعها النحتي تتبلور بشكل اكبر عندما تتقيد بشروط المسار الزمني الواحد، اي عندما تتخذ لها زمنا بعينه لتقديم احداثها وصولا الى النهاية، في حين لا يعد التحرر الزمني من صفات النحت، لذلك تتفوق الدراما على النحت في هذا الجانب ولا تتطابق معه. اما عن الايقاع في الدراما فنقرا فيه … :ان جسور التواصل مابين النحت والدراما يقيمها الايقاع بوصفه نقطة التقاء مهمة (فالايقاع في النحت يكتسب منه شيئين :الحركة والظل والنور، فاذا كانت الحركة عنيفة جامحة كالموضوع فالايقاع كذلك لا محالة، واذا كانت هامسة لطيفة فهو مثلها … ان الايقاع الدرامي في سرعته وبطئه رهين بعملية التنامي الدرامي، وعملية التنامي الدرامي تسهم فيها فاعلية الصراع والحوار والفعل والشخصيات، وتنامي الفاعلية هذا يؤسس لايقاع تصاعدي واضح .. ان الوتيرة الايقاعية فسي الدراما والنحت – على حد سواء – تكون ساعية للتنوع وصولا الى مراحل اشد تطور بعد الانتقال من الصراع بطابعه المنحصر بالتعارض الحواري،الى صراع يؤسس الى صدام فعلي بين الشخصيات من جهة الدراما، والاشكال من جهة النحت . وبخصوص اللون في الدراما ما نؤكد على: (ان اللون في الدراما مايمكن ان يتمظهر عبر عملية التمييز بين الشخصيات والافعال وحتى الافكار، فهناك شخصيات تتميز بسلوكيات بيضاء طاهرة، وهناك شخصيات نوايا سوداء ازاء غيرها، وعلى السياق ذاته يمكن تمثل الوان الافعال والافكار ، اما على مستوى النحت فان عملية التلوين تتميز بانها تُحس (من عمق المناطق المظللة، وتزيد من بريق المقاطع التي تتعرض للضوء). وما ينجزه اللون عبر هذه العملية هو ابراز مستوى الدقة والتركيز على مواقع الهيمنة والتمييز بين التفصيلات والاجزاء. وتتبدى هذه الالية في الدراما في الوان السلوك، وفي طبيعة الجوانب النفسية، فتمة شخصيات مركبة من الوان عدة تقترن بتحولات طباعها المتغيرة، وثمة شخصيات يقترن لونها بمزاجها وما ينتج عنه من سلوك ، فهناك مزاج دموي ، وهناك مزاج سوداوي، وهناك مزاج صفراوي، والخلاصة يسفر سلوك الشخصية وواقعها النفسي عن طبيعة لونها وعن بريقها او ظلالما ورماديتها .. فقد يكون اللون الاسود لونا لبشرة الشخصية او سمتها، او يكون لونا لسلوكها، ومثل ذلك ينطبق على اللون الابيض، ولعل هذا التمييز اللوني يكشف عن نوع من البريق والعتمة، التي يميز فيها الكاتب بين شخصياته، وبين سلوكياتها وافكارها مثلما يصنع هذا الامر لنحات مع شخصيته المنحوتة … والمعروف ان الدراما تقاس بالافعال، وان الافعال في حركيتها وتقاطعها وتصادمها تعطي مزيجا من الالوان التي من شانها ان تفضي الى خصوصية تميز كل فعل عن غيره من الافعال، وفي الوقت نفسه تسفر الالوان عن نفسها تبعا لهذه الافعال وتطوراتها، لانها في عملية تنامي تنشا ضمن ظرف ما لتتطور متفاعلة مع هذه الظروف، وعليه فهو في عملية انتقال لا نهائية، فقد يتحول ماهو اسود الى ماهو ابيض، والعكس صحيح.
اما في النحت فلكونه يختار ذروة تطورية ماليعمل على تقديمها فهو يعطي التصور الاخير عن اللون.
وهنا نصل الى موضوع (النسيج في الدراما) وهو الموضوع ما قبل الاخير في هذا الفصل ومن اهم ماجاء فيه:(يعد النسيج واحدا من العناصر التي يقوم عليها النحت، وتاتي المقابلة معه دراميا من باب تناقله للاليات التي يقوم عليها مصطلح (الحبكة) الدرامية، فالحبكة تمثل النسيج السببي للاحداث،ومن ثم يكون النسيج (كمصطلح) يرتبط بفن النحت حاضرا وفاعلا في البنية الدرامية. غير انه في الدراما يمتاز بالمطواعية لانه يخضع لمرونة الكلمات، على العكس من ذلك النسيج النحتي لانه محكوم بتنوعات المادة النحتية، وعليه فان المادة ونوعها وطابع حركة يد الفنان يتحكمان في تنوعات نسيج العمل النحتي. فالنسيج في الدراما نسيج متشابك اكثر تعقيدا منه في النحت، اذ ان الاخير يركز على تجسيد انفعال ما، او حدث ما، وهو يختار من تلك الاحداث اهمها للتركز عليه، او من تلك الانفعالات اكثرها إثارة لعرضه، والنسيج النحتي ينتج عن تاثير اداتي، انه ينتج عن الفنان ذاته دون الحاجة الى وسيط، في حين ان الدراما ترسخ نسيجها وتحبكه تماما من خلال صراع الارادات، وان تلك الارادات تعمل على التضاد والتعارض وبخصوصية كل منها عن غيرها، فهي في ضوء ذلك تمتلك استقلاليتها وموقفها الخاص وبذلك فهي تؤدي دور الوسيط في تماسك النسيج مع انها – في الوقت نفسه – نتاج الفنان، فلكل شخصية تطلعاتها ومشاريعها المغايرة للشخصية الاخرى مما يخلق دور في خلق تماسك اكبر وتشابك جديد لاطراف النسيج، في حين تفصح الاداتية في النحت عن طاقته خارجية تتحكم بشكل النسيج فهي نتاج تدخل الفنان بشكل قطعي لا يقبل النيابة او الاستعاضة، وبذلك يمكن الحصول على نوع النسيج في النحت باستعمال الادوات على المادة نفسها او بصقلها او بتلميعها. وفيما يخص نسيج الدراما فقد ياتي تركيز الكاتب المسرحي على يؤرة ما ويمنحها عوامل تضاعف من هيمنتها وهو ها هنا كانه يمارس عملية الصقل لهذا الموقع من نصه الدرامي، وفي مواضع ما قد يسعى الى الكشف عن تجليات موقف فكري او نفسي ما فيمنحه حدود التاثير والمطاولة والتفاعل وهو في هذا الامر وكانه يعمل على تلميعه ليظهر اكثر بريقا وسريانا. وهنا نصل الى اخر موضوع في هذا الكتاب وهو مثال تطبيقي على درامية النحت ونحتية الدراما (نصب الحرية) .
وفي الختام لا يسعنا الا ان نبارك الباحثين القديرين جهدهما الكبير هنا متمنين لهما دوام التالق والابداع خدمة لتاصيل ثقافة جمالية ومعرفية متفردة، تتخطى ماهو محلي الى ماهو عربي وعالمي على حد سواء.
محمد محسن السيد / مدير المركز العراقي للمونودراما