“وين رايحين؟ “، دراما شعبية ذات بعد تاريخي، ابطالها شين، سين / حمزه الغرباوي

تنبثق الدراما ويتم انتاجها بالشكل الصحيح عندما تتوفر فيها كل العناصر المتاحه للإنتاج، إذ لا يمكن بناء اي عرض مسرحي دون توفر بعض الشروط التي من شأنها ان تبلور العرض وتقدمه للمتلقي بصورة تليق بحضوره الى المعمار المسرحي للعرض، ومن الممكن اختصار تلك العناصر بعدد من الارقام والأولويات، أولا:-إذ لا يمكن صناعة عرض مسرحي من دون متن حكائي مكتوب بطريقة جيدة تحرك الساكن وتثير المسكوت عنه ، وأنا اقصد هنا (النص) أي لابد من توفر نص جيد مكثف بطريقة ممكنه قابلة للاخراج والفهم وتحقيق عنصر الاتصال والتواصل مع المتلقي بطريقة سلسة من دون تعقيد، ثانياً:- لا بد من توفر وعي وفكر اخراجي له القدرة على إيجاد البدائل وبلورة الاحداث بطريقة ممكنه، وإن هذا الفعل الفني يأتي عن طريق مخرج متمرس قادر على اللعب بكل مفردات وعناصر العرض المسرحي المرئية منها والمسموعة، إذ يسخر كل ما يمكن تسخريه من عناصر فنية تشكل جوهر العرض المسرحي وتجعله واجهة مرئية ومسموعة للمتن الحكائي المكتوب في النص المسرحي، ثالثاً:- أن عملية توفر المعمار المسرحي المطلوب والفضاء الممكن الذي تتوفر فيه كل شروط اقامة عرض مسرحي ما هو الا أمر ضروري جداً من أجل تحقيق بناء اخراجي رصين محفوف بكل عناصر العرض الحديثة، المتمثلة في اجهزة صوت واضاءة وداتا شو (عرض) وخشبة ذات حيز ومساحة مناسبة، لا بل ويتعدى ذلك الأمر حتى الى اجهزة التكيف والكراسي الموجودة في القاعة التي يتواجد فيها المتلقين، لان المكان الغير مناسب للحضور يشكل حالة من عدم الرغبة في المشاهدة لوقت طويل، او عدم الرغبة في التواصل مع ما يعرض أمامه من أحداث مسرحية، إذ هو ينشغل في شكل المكان الغير ملائم لحضوره ويغفل عن ما يعرض امامه، وقد يغادر منصرفا قبل انتهاء أي عرض مسرحي يقدم له في مكان غير ملائم لوجوده الفعلي.

وبعد ذكر تلك الشروط الثلاث التي من شأنها أن تساهم في بناء أي عرض درامي مسرحي، انتقل هنا الى تجربة الدكتور (حيدر منعثر) المسرحية في العرض المسرحي (وين رايحين؟)

قراءة (تحليلية نقدية)

1-النص:

– إن طريقة البناء الدرامي للمتن الحكائي الموجود في النص هو بناء قائم على التكثيف والاختزال لمواضيع واحداث تاريخية شعبية حدثت لبلد يدعى (العراق)، إذ يقوم مفهوم النص على ثلاث شخصيات متعددة الطوائف والاتجاهات والرغبات والامزجة والمواقف، إذ تلعب الفنانة (زهرة بدن ) في هذا العرض دور المرأة الايزيدية التي تتعرض للعنف الجسدي والنفسي الدائم منذ طفولتها حتى وصول الحكم الجديد الذي حكم 21 سنة وهي لا زالت تعاني، اما الشخصية الثانية فقد جسدها الممثل (لؤي احمد) وهي شخصية لشاب عراقي عاش فترة مضطربة وضارة من جميع النواحي السياسية والنفسية والتاريخية، فهو عاش فترة عقود متتالية فيها ما لذ وطاب من (الحرب، والحب، والمرض، والجوع، والقتل، والتهجير، والاشعاعات السرطانية)، أما الشخصية الآخرى فهي شخصية امرأة كبيرة في السن فقدت زوجها وابنها بسبب الحرب، وقد جسدت هذه الشخصية الفنانة (لمياء بدن)، بالإضافة الى شخصية السائق القائد المقيود الحائر بين (القران، والاغاني،اسلامي، علماني) صاحب الثقب المثقوب في أسفل تانكي السيارة المستمرة في السير لمدة سبع الالف سنة، فقد جسدها الممثل (طلال هادي)، وتستمر الاحداث وتتنامى بين كل تلك الشخصيات، بالاضافة الى الشخصيات الأخرى التي كان لها حضور متفاوت بين كل مشهد وآخر حسب الضرورة الفعلية والفنية للبناء الدرامي للنص، وعن طريق ذلك أجد أن المتن الحكائي للنص المسرحي هذا بكل تلك المفارقات الدلالية والرموز والشفرات، هو نص جيد، تكمن ضرورته في معالجة حقيقة لحقبة تاريخية مستمرة تصل جذورها الى سؤال استفهامي (وين رايحين؟).

2- الإخراج :

للاخراج دور رئيسي في عملية الانتقال الديناميكي من ما هو مكتوب الى ما هو معروض بأساليب ورؤى مختلفة بين كل مخرج وآخر ورؤية وأخرى، وان الرؤى الاخرجية لمسرحية (وين رايحين) جاءت متفاوته في الفهم والوصف والقدرة على خلق نوع من التواصل الموضوعي مع المتلقين، فبعض المشاهد جاءت وفق أنساق كلاشية مكررة ومالوفة عند الجمهور، واخص بالذكر هنا ما تم عرضه على شاشة العرض (الداتا شو)، أن مثل تلك المشاهد أعتقد هنا جازماً أن المخرج الدكتور (حيدر منعثر) اراد إثارة عاطفة الجمهور بشكل قصدي ومباشر، وهذا ما لم تحبذه الدراما بشكل دائم، لان الدراما فعل قائم على المحاكاة والمحاكاة عند (ارسطو) لا تعني طرح الاحداث كما هي في الواقع، وانما إنتاج أفعال لها صلة بالواقع بطريقة مغايرة، او اعتماد جزء الشيء لا كله وطرحه بطريقة لها القدرة على جذب المتلقي وحثه على التفكير فيما هو معروض امامه، وفي جانب آخر أعتمد المخرج (منعثر) على خلق صور وفضاءات متعددة تسير وفق ما أسس له المخرج صاحب المسرح السياسي الشعبي (اروين بسكاتور) الذي اعتبر المسرح برلمان والجمهور هيئة تشريعية، وعن طريق هذا المنطلق اراد المخرج (منعثر) أن يثبت للجميع أنه يسير وفق خطى هذا المخرج الالماني، فهو استعمل كل ما يمكن استعماله على خشبة المسرح من صور متمثلة بأماكن متعددة وقصص متنوعة لثلاث ممثلين لا يمثلون الشخصيات فقط وانما يمثلون شعب بأكمله، فقد استعمل المخرج (حيدر) قطع الخشب الكبيرة للدلالة على قصف الدار في زمن الحرب والحصار، واستعمل السبورة القديمة واكدها بكلمتان (عاش القائد ) وجاء ذلك الترميز من أجل التأكيد على زمكانية خاصة كانت تعيشها تلك الايزيدية في فترة ما وبحكم سابق، لرجل كان يسمى (القائد)، كما استعمل المخرج العراقي سابق الذكر أيضاً الكراسي والدمى، والازياء الخاصة لكل ممثل للدلالة على واقعية الاحداث والمشاهد والاشخاص، وهذه نقطة جوهرية تحسب له في جذب الجمهور، ومن عوامل الجذب الآخر التي أصر عليها أيضاً هي عملية استعمال اللغة الشعبية الدارجة التي غالباً ما تكون قريبة من اذهان المتلقين واسماعهم، وتأتي عملية إشراك الجمهور وجعله جزء من أحداث العرض عن طريق مشهد محذوف وظرف مغلق عملية فيها مغايرة جديدة تمتد جذورها الى المخرج الالماني الاخر (بروتولد بريخت) الذي اراد أن يجعل المتلقي بعيداً عن مفهوم التطهير الارسطي، قريباً من التفكير و النقد لما يدور حوله ويعرض امامه، وبذلك المفهوم والرؤى الاخراجية المتعددة لكل مشهد استطيع القول ان منطق الاخراج تحقق لكن برؤى متفاوته في القوة والضعف والاستنتاج الموضوعي لكل حدث وشخصية تم تقديمها على خشبة المسرح.

3- الاداء التمثيلي :

يلعب الاداء التمثيلي دوراً مهماً في صناعة المشهد المرسوم من قبل المخرج والمؤلف فالاول يحاول أن يبلور ما كتبه المؤلف في النص على خشبة المسرح، أما الممثل فهو العنصر والاداة الحية وسط الجماد التي يشتغل عليها المخرج من أجل اظهار افكاره ووعيه الحقيقي لما هو مكتوب على الورق من قبل المؤلف، وعند التفكير طويلاً في شخصيات النص المسرحي (وين رايحين) أجد أن الممثلين حاولوا بكل إتقان اداء الشخصيات مرة وتقمصها مرة اخر، وهناك فرق كبير بين الاداء والتقمص، والسبب يعود في ذلك أن صيغة العمل المسرحي (وين رايحين ) صيغة مطاطية قابل للتغير والانتقال من الاداء الذي اراده (بريخت) للممثل، وبين ما اراده (ارسطو) ومن سار على نهجه في الوصل الى (التطهير) عن طريق التقمص، وبين هذا وذاك أجد أن الممثلين (لؤي احمد)، و(زهرة بدن)، و(لمياء بدن)، و(طلال هادي)، قد اجادوا الانتقال بين قطبي الاداء والتقمص، فقد تراهم في مرة يؤدون المشهد أمام المتلقين ويبعثون الاحساس لهم، ان ما تتم مشاهده ما هو الا مشهد تمثيلي يجب ادراكه بوعي والاستفادة من موضوعه المتناول، وفي مرة أخرى أجد أن ذات الممثلين يتقمصون الشخصيات وصولاً الى تحقيق عنصر (التطهير )، وجاء ذلك عن طريق الاعتماد على اداواتهم المتعارف عليها في الصوت والجسد، وطريقة القاء الحوارات والتلاعب بالجمل، والانتقال بين (الكوميديا والتراجيديا )، ولو فكرنا قليلاً في استبدال هؤلاء الممثلين بممثلين آخرين شباب، أقل خبرة وقدرة في تجسيد الشخصيات ماذا يكون شكل العمل ؟ سؤال بديهي مطروح للجميع من أجل الإجابة عليه .

4- السينوغرافيا :

السينوغرافيا ضرورة ملحة في عملية صناعة شكل العرض المسرحي، وصبغته الموضوعية التي تدهش المتلقي وتجعله يفكر كثيراً في دلالة الظل والضوء والصوت والموسيقى والمؤثر الصوتي ودوره في دعم المشهد والحدث المتناول في داخله، وهنا أجد أن المخرج العراقي (حيدر منعثر) أعطى حيز كبير لتلك الضرورات السينوغرافية سواء كانت حية او مسجلة، إذ نجده استعمل الموسيقى الحية على خشبة المسرح، واصوات مختلفة لتلك الموسيقى مع بعض المشاهد التي تستحق ايقاع معين يتناسب مع شكل الحدث، كما استعمل الموسيقى المسجلة، والمؤثرات الصوتية المتمثلة في صوت الراديو ودلالته في اختصار حقبة زمنية متعددة الأحداث والمعاني، اما الاضاءه الفيضية والمركزة فقد جاء استعمالها بشكل متنوع ومتختلف، ولكن أجد فيها استهلاك غير موضوعي في إضافة معنى او رمز كبير، إذ تم استعمال الاضاءة المركزة الصفراء في اكثر من مشهد بشكل عشوائي من دون النظر الى حيثيات استعمال مثل هكذا الوان ودلالتها، كما تم استعمال الكثير من الضوء بشكل فائض من دون الاختزال الموضوعي لذلك الضوء وجعله مناسب مع كل حدث، وعن طريق ذلك انا ابحث عن القصدية التي ارادها المخرج (منعثر) والتي حتمت عليه استعمال مثل هكذا اضاءة مركزة وفيضية والوان مختلفة، أما قطع الديكور المتمثلة في الكراسي والدمى المستعملة في العرض، جاءت من أجل اعطاء معاني متعددة تضيف الى الاحداث المتعاقبة التي يحتويها العرض ومن الممكن اعتبار ذلك تنظيم حقيقي لفكرة العرض عن طريق قطع الديكور.

وفي المجمل لقد كان العرض المسرحي (وين رايحين ) من ضمن العروض التي من الممكن تصنيفها على أنها عروض حداثة جاذبة غير طاردة للجمهور المتنوع الغير محكوم بمبدأ جمهور النخبة او النخب، وذلك الأمر ما هو الا عامل ايجابي وتحول استثنائي في شكل العلاقة الطبيعية بين المسرح والجمهور .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت