نص مسرحية: “ليلة قتل الملك” / تأليف: جبار القريشي.
(من أسوأ ما تتوارث المجتمعات أن ترث أمراضها).
«قاعة العرض»
(المسرح بمحتوياته عبارة عن محل حلاقة مهجور بحيطان تعلوها الرطوبة والتشققات، خيوط عناكب تتدلى من السقف الخشبي المغطى بالقماش الأسمر الممزق، المحل يحتوي على كرسي حلاقة، مرآة كبيرة، كاونتر قديم موزعة عليه عدد من علب الكولونيا الفارغة، مسامير معلق عليها فوطة حلاقة مع منشفة، وأشياء أخرى يحتاجها الحلاق. وهناك على الحائط صور، وصحف ومجلات قديمة، حقيبة جلدية يدوية جامعة لبعض أدواة الحلاقة القديمة، كلٌ مغطى بالأتربة).
شخصيات المسرحية : مطرود، شخص، واسكافي.
الفعل المسرحي:
( ظلام يخيم على كامل المسرح، بقعة ضوء تُظهِر شخص جالس مغطى بالكامل بقماش أبيض لا تظهر ملامحه، يمسك بمرآة ظاهرة يطالعها ويردد بعض العبارات والتراتيل، وملامح شخص آخر ممدد تحت طقوس تنويم مغناطيسي أو ما يسمى «أبو مراية» وكتلة دخان متصاعد تزداد لتغطي المكان).
( يتعالى الإيقاع المصاحب لموسيقى صاخبة يصدرها مؤثر صوت، بينما المكان ما زال غارقا في الظلام، يستمر الوضع للحظات.. تعود بقعة الضوء لتكشف لنا في زاوية أخرى عن شيخ كبير بجسم نحيل متجلبب حزن عميق، واقف في باب دكان الحلاقة يتأمل أغراضه التي تغطيها الأتربة وخيوط العناكب.. يتفحص الأشياء، يتلمسها قطعة قطعة، ينفض عنها الغبار، يفتح الحقيبة الجلدية ويخرج ما بها من أغراض، يتأملها جيدا، يهز رأسه محاولا أن يتصفح أوراق ذاكرته المتعبة.).
(يقف متجمدا خلف الكرسي وهو يتأمل الصور المعلقة على الحائط، يركز طويلا على أحد الصور، يتأملها، تتوهج على محياه ابتسامة ماسكا بإحدى يديه ماكنة حلاقة يدوية قديمة، وبالاخرى مشط خشبي، كأنه بهيئته يعود لأزمنة بعيدة، يبدأ الفعل الحركي كأنه يحلق رأس أحدهم.)
مطرود: بماذا يأمرني جلالتكم؟، سأبذل قصارى جهدي لتكون الأكثر أناقة بين الملوك والرؤساء، ستبدو كطائر جنة جميل وأنت تدور بين المحتفين بعيد ميلادك الميمون. وهل في بغداد كلها، كرخها ورصافتها من هو أبرع مني؟.
(يدور حول كرسي الحلاقة برشاقة وحيوية، وكأنه يتأمل جانبي رأس الملك.).
مطرود: المجيدي.. يا سيدي هو الأكثر ملائمة لجلالتكم، وهو الرائج هذه الايام بين الشباب، وأنت سيد الشباب، ملكنا المفدى.
( يعود فيتأمل الصورة)
مطرود: أتمنى أن يصحبني جلالتكم في الرحلة المباركة الى مدينة الضباب لأحظى بشرف حضور مراسم عقد قرانكم المبارك، وسيرى جلالتكم حينئذ من خلال الضيوف والمدعويِّن، مَن الأبرع في فنون الحلاقة؟، أنا أم حلاقي أبو ناجي؟.
(تدور بقعة الضوء لتظهر لنا في الزاوية الاخرى من المسرح شخص ببدلة وقبعة ونظارات سود، يدخن سيجار وينفث دخانها بعيدا، يفزع مطرود خائفا.. ويفغر فاه حين يلمحه)
(الشخص، واقفا مباعدا بين ساقيه، يطلق ضحكة عالية.)
الشخص: ها أنتَ أخيراً.. وقد وقعت بأيدينا أيها المخادع الماكر.
(مطرود.. بتلعثم..)
مطرود: مَن؟.. أنا؟.. من.. هو؟..من أنت بحق السماء !؟، وماذا تريد مني!؟.
الشخص: سنين طويلة ونحن نبحث عنك أيها اللغز المحيّر، نقتفي آثارك أينما تكون، لم ندع مكانا فيه أثراً منك إلا وداهمناه، لكنك كنت تفلت كل مرة من كمائننا بمهارة ساحر محترف. أعترف بأنك بارع في المخادعة والتمويه.. أهنئك.
(مطرود مندهشاً)
مطرود: تبحثون عني!؟. أمتأكد أنت!؟، أم انك واهم، أظن أنكم تبحثون عن شخص آخر، وهل تعرفونني؟.
(الشخص، يطلق ضحكة فيها تهكم)
الشخص: ومن ذا الذي لا يعرف مطرود.. حلاق الملك؟. هه..هه.. ها.. المفدى.
(أكثر دهشة..)
مطرود: آ..ه.. وتعرف إسمي أيضا!؟.
الشخص: وكل شيء عنك.
مطرود: لكنني لا أعرفك، من أنت بالله عليك؟.
الشخص: ما نريد أن نعرفه عنك بالضبط هو، أين كنت متخفياً كل هذه السنين؟.
(مطرود يتحدث بمرارة وانفعال.)
مطرود: إذا كنتم تعرفون عني كل شيء، وتتعقبونني أينما ذهبت كما تقول، فلِم السؤال إذاً عن مكان تواجدي؟.
الشخص: لأنك بارع في التخفي مثل عضايات الرمل. ولهذا نريد أن تخبرنا عن مكان اختبائك كل تلك السنين؟.
مطرود: أنا يا سيدي شخص فقير ومسالم، أمضيت عمري متسكعا في الشوارع والطرقات، يداهمني الخوف من كل شيء، أحسب أن كل صيحة عليّ، يعرفني كل مشردي المدينة ومتسوليها، فلمَ التخَّفي؟.
الشخصّ: ألا تدري لماذا؟.
مطرود: أُقسم.. بانني لا أدري.
(الشخص بلهجة غليظة مغلفة بالتهديد. )
الشخص: إسمع يا هذا.. لن ينفعك الإنكار، سنهتدي الى أوكارك ومخابئك السرية، شئت أم أبيت، قسماً سننزع جلدك، ونقلع أظافرك إن حاولت المراوغة والإنكار، وستبان على لونك الحقيقي مهما تخفيت تحت ألوان الزيف والخداع، أيها الحرباء الماكر.
مطرود: علام تطاردونني؟، المُلك.. وقد صار بأيديكم، والأمور وقد استوت اليكم، ولم أكن أنا سوى حلاق بائس، أمضيت عمري أقتات على فضلات موائد الملك، وعندما رحل بتُ مشرداً مثل آلاف المشردين، وقد مات أهلي جميعاً، أعتاش على ما يتصدق به الناس عليّ، فعلام تطاردونني؟، ماذا تريدون منى بحق السماء؟.
الشخص: نريدك لأمرٕ في غاية الأهمية والخطورة، فلا تحاول أن تتصنع دور الحمل الوديع.
(مطرود مستغربا)
مطرود: أيعقل أن مطرود بات شخصاً مهماً الى هذا الحد!؟، لا شك أنكم تبحثون عن مطرود آخر غيري، أخشى أنكم تضيعون وقتكم وجهدكم في البحث عن لا شيء. يا سيدي.. ما أنا الا حطام ليس له أية قيمة.
الشخص: حطام؟، هه.. بالعكس، فأنت مهم جدا بالنسبة لنا، تماما مثلما كانت لك حظوة عند الملك.
مطرود: يا سيدي.. ما أنا والملك؟، لم أكن أكثر من مجرد حلاق مغمور.
(الشخص بلهجة حادة..)
الشخص: مغمور..؟. مغمور.. وترافقه كأي وزير في الكثير من جولاته الخارجية؟.هذا يعني أنك لست مجرد حلاق، وإنما شخص ذا أهمية بالغة عند الملك، قل مثلا.. مستشاراً له أو صندوق أسراره، وربما أكبر من ذلك، من يدري؟.وربما الحلاقة تتخذها صنعة مزيفة من باب التمويه.لسنا مغفلين يا هذا.. لنصدق سخافاتك وادعاءاتك السمجة.
(مطرود مستاءً يفتح مجرات الكاونتر ويخرج بعض الاغراض ويبعثرها.. يصرخ وهو يشعر بالمرارة والألم.)
مطرود: لماذا الإهانة والتجريح يا سيدي.. قلت لك أنا مجرد حلاق بائس.. والله العظيم حلاق، ما أنا والملك!.
(الشخص بلهجة أكثر شدة)
الشخص: إسمع يا هذا.. كفى تباكيا، واخبرني، أين خبأت الرجل؟، هيا، لا تضيِّع وقتنا.
(مطرود مستغرباً)
مطرود: أي رجلٕ ذاك الذي أخبؤه!؟.
الشخص: لا تُغشم نفسك، ولا تحاول اللف والدوران، فنحن ندرك كل ألاعيبك، حذاري أن تتمادى يا رجل.
مطرود: صدقني يا سيدي.. لا أعرف عمن تسألون، ومن هذا الذي أخبئه!؟.
(الشخص يخفف اللهجة)
الشخص: آ.. لا تعرفه!، كيف لا تعرفه!؟، صديقك الحميم، ذلك الرجل التركي، ذو الشوارب المعقوفة، واللسان اللتغ، أين خبأته، أخبرنا؟.
مطرود: صدقني يا سيدي، أنا اليوم أعيش معزولا.. ولم يعد لي صديق في هذه الدنيا التعيسة، لقد اخترت العزلة بمحض إرادتي.
الشخص: لا تحاول.. صديقك الإسكافي، صانع أحذية الملك.
( مطرود يصفع جبهته)
مطرود: أوووو..هو.. الإسكافي(يشار).. التركي، ذلك الرجل الدميم.. تذكرته، أعن هذا تسألون؟.
الشخص: أها.. بالضبط.. هو ذا من نسأل عنه. الاسكافي، صانع الأحذية، الرجل القزم الدميم، حسناً أنك تذكرته.والآن أخبرني أين خبأته؟.
(يضحك.. مستغرباً..)
مطرود: أحقاً عن هذا الرجل تسألون؟.
الشخص: نعم، هو من نبحث عنه، ونحن على ثقة من أنك تعرف وجهته، أو أنك من خبأه، فالمصالح تلعب دوراً في مثل هذه الأمور.
مطرود: وما مصلحتي أنا لإخبئه؟.
الشخص: حبذا لو تخبرنا أنت عن ذلك يا مطرود.
مطرود: يا سيدي.. ما الذي يجنيه حلاق بائس مثلي في علاقته مع اسكافي دميم أمضى حياته غاطساً في أحواض مدبغة جلود نتنة.
(الشخص، يُصعِّد اللهجة من جديد)
الشخص: إسمع يا هذا، أحذرك وللمرة الأخيرة، لا تحاول أن تتظاهر بأنك إنسان ساذج، فنحن نعلم مدى مهارتك في المراوغة.دلنا على مكان اختبائه دون أي لف أو دوران، هيا يا رجل، وإلا.
(فجأة ويتعرض مطرود الى نوبة من الغثيان، يمسك جبهته بكفيه للحظات.. بعدها يفتح عينيه وينظر صوب الشخص فلا يجده، وقد اختفى، يصاب بالذهول، يمشي صوب المكان، يتحسس الحائط بيديه، يتلفت يميناً وشمالاً، يتجمد كتمثال.. لحظات ويفيق، ويبدو عليه الدهشة).
مطرود: يا إلهي.. كان هنا.. أين اختفى!؟ لا أدري..ربما يخيّل لي؟ ولكن من هذا الذي كان يحقق معي في أمورٕ تافهة. أخشى أنني فقدت عقلي، أو هو الزهايمر الذي يتحدثون عنه، أم أنها مجرد تهيئات.
(مطرود يعود لمكانه السابق، ويجلس متهالكاً على كرسي الحلاقة، يدور برأسه في أرجاء المكان، يغمض عينيه مسترخيا، يعاود النظر الى الصور المعلقة على الجدار، يقع نظره على صورته وهو شاب.. متحسراً يقول..).
مطرود: إيه..!، سريعاً مضى قطار العمر مثقلاً بالأحزان، يجر عرباته المتداعية نحو آخر محطات الخيبة، ليقبر في مخازن الخردة بلا أي قيمة ولا أي اعتبار..كان يوماً مشؤوماً ذاك الذي تدفقت فيه جموع الغاضبين كالجراد المبثوث، وكيف تدافعوا متزاحمين عند بوابات القصر، بعضهم يحمل العصي ملوحاً بها، والبعض يحمل سكيناً، وحناجرهم تهدر بهتافات الوعيد والتهديد، الموت للملك.. فاليسقط العملاء.
(لحظات من الصمت والتأمل).
مطرود: حينها ملأ الرعب قلوبنا والجميع ممن كان في القصر، وبلغت القلوب الحناجر، وضاقت بنا الأرض بما رحبت.
(يتأمل صورة الملك.. وبعض صور الساسة آنذاك، متحسرا يقول:)
مطرود: أذكر حينها أن يشار الاسكافي اعترضني في أحد ممرات القصر وأنا أجري مذعوراً بكل قوتي، مهدءًا قال لي: لماذا الخوف والهلع يا مطرود؟، الناس تطلب الملك، ما علاقتنا نحن؟. رددتُ حينها عليه وأنا الهث، لنختبئ يا صاحبي، فالنار حين تتصاعد ألسنتها في عنان السماء ستلتهم كل شيء في طريقها، لا تفرق بين يابس واخضر، وليس أمامنا نحن من سبيل للنجاة سوى الاختباء، إختبئ يا صاحبي.
(مطرود.. يدقق في الصور كأنه يبحث عن أحدهم.)
مطرود: وقد صَدقَت رؤيتي، فألسنة النار المتصاعدة أكلت كل من صادفته في طريقها، ونجى من تخفى، مثلما أنا، وليتي ما نجوت.
(يعاود المسرح فيغرق في الظلام من جديد لبعض الوقت مع تصاعد إيقاعات يصدرها مؤثر صوت، تتوهج بقعة ضوء وتتجه نحو أحد الزوايا لتظهر لنا شخص قصير، أصلع، دميم بلسان لتغ..).
الإسكافي يشار: كنت محقا يا صاحبي، وقد عملتُ بنصيحتكَ، واختبأت.
(مطرود، يُصعق حين يفاجئ بالاسكافي، ذلك الرجل الدميم بشاربيه المعقوفين، وهو يقف أمامه،)
مطرود: يشار..!؟، أيعقل هذا..!؟، لا أكاد أصدق نفسي أن أراك بعد كل هذه السنين؟، أين كنت يا يشار؟.
(بدموع حرى ينفجر يشار الاسكافي باكياً)
الإسكافي يشار: أوووف.. أرجوك لا تنكأ جراحي يا صاحبي، دعني غاطس في وحل خيباتي، مكبل بأحزاني، فلقد اجتاحني خريف اليأس مبكرا، فتساقطت كل أوراقي، ويبست عروقي، وما أنا اليوم سوى جذع منخور أنتظر أي حاطب يلقي بي في مواقد ترف الأغنياء،لأتخلص من عذاباتي.
مطرود: وأين كنت كل هذه المدة يا يشار؟.
الاسكافي يشار: منذ ان أجهزوا على الملك وعائلته بتلك الطريقة البشعة، والكوابيس ما انفكت تلاحقني في صحوي ولحظات هجوعي وخلواتي، تُطبقُ على انفاسي كفكي تمساح شرس بلا رحمة، هجرت كل أصحابي، وانزويت مثل أي سلحفاة ضالة دفعتها أمواج الساحل نحو الأعماق، لا أدري ستأخذني الاقدارالى أين؟.
مطرود: وماذا عن عائلتك يا يشار؟.
الإسكافي يشار: ماتت زوجتي، ولحقتها ابنتي الوحيدة، واستحوذ صيادوا الفرص على بيتي ممن طغت كُناهم المعيبة على اسمائهم، جاسم نگري، هوبي أبو الحَب، شهاب بن چكليته، خضير دگسن، وغيرهم، وألقوا بي في غياهب المجهول، فتلقفتني عصابات التسول، أمضي نهاري ملازما الرصيف من ساعات الفجر الاولى حتى ساعة متأخرة من الليل، تحت أشعة الشمس اللآهبة صيفا، وصقيع البرد الذي ينزل على جسدي كالسكاكين شتاءً، أجمع المال بالجهد والعرق وماء الوجه، فأسلمه لهم مثل كلب الصيد، فيأخذونه مقابل أن يوفروا لي لقمة بائسة أسد بها رمقي، وفراشا عفنا أدس في أحشاءه جسدي المنهك، لأنهض مع أول خيوط الفجر في اليوم التالي على شتائمهم، ورفسات أحذيتهم، ووخزات كلماتهم النابية، ليلقوا بي على رصيف الذل والأهمال، مثل أي كيس قمامة، لأبدأ يوماً جديدا من المعاناة تحت ذل التسول.
(بحزن عميق وهو يجفف دموعه.. يقول:)
الإسكافي يشار: أرجوك يا صاحبي.. دعك مني الآن ولا تهيج جراحي، وحدثني عنكَ، فإن فتحت نافذة أحزاني، ربما لا أتمكن أنا ولا حتى الجن من إغلاقها.
مطرود: لكنني متشوق لأسمع أخبارك يا يشار.
الإسكافي يشار: أخباري لاتسر يا صاحبي.. عن أي منها أحدثك، خذ مثلا.. عندما داهتمني الأمراض فجأة، وأصبحت لا أقوى على العمل تخلوا عني، ورموني مع أول سيارة أنقاض خارج حدود مساحة نفوذهم.
مطرود: لكنهم.. كانوا هنا يا يشار، كانوا هنا يسألون عنك.
(يشار.. بمرارة وأسى)
يشار الإسكافي: من ذا الذي يسأل عني وأنا مقطوع من شجرة؟.
مطرود: يبدو أن أحداً قد وشاك عندهم.
يشار الأسكافي: وشاني.!؟ وشاني في ماذا؟ وعند من؟، وهل هناك في دنياك هذه ما أخشى عليه يا مطرود.
مطرود: لا أمان لهم يا صاحبي، غيّب وجهك، والزم وكرك، فإن وقعت بأيديهم فسوف لن يرحموك أبداً، إنهم يسألون عنك بإلحاح.
يشار الاسكافي: لا أرجو الرحمة من أحد إلا من خالقي، فلست بحاجة لها، ولم يعد هناك من شيء في الدنيا يستحق أن نحرص عليه يا مطرود.
مطرود: يؤسفني أن أراك بهذه الحال يا يشار.
الأسكافي يشار: دعك الآن مني يا مطرود، كنت قد رجوتك أن تحدثني عنك، وما آلت اليه أمورك بعد الذي حصل.
مطرود: الحال من بعضه يا يشار، يبدو ان الرصيف أرحم من كل من عولنا عليه، ورجونا فيه الرحمة.
الاسكافي يشار: قدرنا يا أخي.
مطرود: أتذكر يا يشار حين صادفتني آخر مرة في أحد ممرات القصر وأنا أجري خائفاً كقطٕ مفزوع، حينها قلت لي مهدءًا بينما الخوف ممسكٌ بتلابيبي، إنهم يطلبون الملك، مالكَ تجري مذعورا يا رجل. أتذكر ذلك يا يشار؟.
(يشار متحسراً)
الإسكافي يشار: آ..ه.. كيف لا أذكر وصور ذلك اليوم الرهيب لا تغيب عن مخيلتي لحظة، كنت حينها أتقطع ألماً وأنا أرى الملك يتلفت مذعوراً وقد تلبسه الخوف والقلق، لا يدري حينها ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟، وهو يسمع بأذنيه عويل النساء، وصراخ الاطفال من أسرته، ويرى بأم عينيه فزع الحاشية وارتباك الحراس وقد حُشِروا جميعاً في الباحة الخلفية للقصر كما تحشر الخراف في الزريبة حين تداهمها الذئاب، لا يمكن أن أنسى تدفق الآلاف ممن ركب الموجة الى باحة القصر كتدفق الماء من السد المكسور.
مطرود: أين كنت حينها يا يشار؟.
الاسكافي يشار: كنت في غرفة أرباب الحرف في الفترة التي سبقت الطوفان، أنا ومجموعة من الحرفيين، كان الملك حينها يُحَضِّرُ للسفر لعقد قرانه، وطلب مني أن أصنع له حذاءً فاخراً من جلد غزال كان قد اصطاده في أحد جولات الصيد التي كان يقوم بها في البراري. وبينما أنا منهمك في ضبط شكل الحذاء على ضوء القالب المعد على مقاس أقدامه، فوجئنا ببعض المداهمين وهم يتسورون حائط القصر من جميع اتجاهاته، ودوي هتافاتهم النارية يكاد يهز أركان القصر، كان يوما مَهُولاً يا مطرود.
مطرود: وحين تدفقوا كالجراد المنتشر، اختبأت أنا في أحد براميل القمامة، كنت أسمع حينها هتافاتهم الملغمة بالوعيد تضج في مسامعي.أتذكُرُ ذلك يا صاحبي؟.
(يشار بألم.. وحسرة)
الإسكافي يشار: كيف لا أذكر وصورة ذلك المشهد الدموي المروّع ما زالت ماثلة أمامي بدقائق تفاصيلها.. يا مطرود.
(يشار.. تخنقه العبرة ويتحدث بحرقة)
الاسكافي يشار: وكيف جثى الملك على ركبتيه ممسكاً بصدره الذي خرقته رصاصة أحدهم قبل أن يسقط مضرجا بدمه، تبعته والدته وباقي افراد الأسرة الملكية، لاقوا حتفهم جميعاً، قتلوهم بدم بارد، كانت مجزرة بحق.
(يشار.. يجهش بالبكاء).
الإسكافي يشار: يا الهي.. تلك الصورة المروعة لا يمكن أن تغيب عن مخبلتي. انها تعصف بكامل كياني.
مطرود: كنت أشاهد المجزرة بكل تفاصيلها وأنا مختبئ من خلال ثُقبٕ في البرميل، حقا كانت بشعة ومروعة بكل المقاييس.
الاسكافي يشار: ووسط تلك الفوضى العارمة التي عمّت القصر تسللتُ خلسة أحمل تحت ثوبي ما إئتمنني عليه جلالة الملك، وقد خرجت دون أن يشعر بي أحد.
(مطرود..مندهشاً..يهتف).
مطرود: أ.. ها.. ولهذا كانوا يسألون عنك!.
(يلف مطرود بجسده حول نفسه بعد ان هتف مندهشاً ليجد بعد ان عاد بوجهه الى ذات الوجهة أن الاسكافي قد اختفى فجأة، يتجمد مطرود، ثم يصرخ منذهلاً..).
مطرود: يا الهي..!!، هو الآخر قد اختفى، ماهذا..!؟. لا أكاد أصدق عيناي، أحقاً ما أراه..!؟، أم إنها مجرد تهيؤات،
(يمسك.رأسه بكلتي يديه..ويثرثر مرتبكا)
مطرود: يا للمأساة..، هل فقدتُ عقلي!؟، أم أنها أضغاث أحلام ليس الا..!؟. وهل يحلم المرء في صحوه؟.
(مطرود، يتلمس اعضاء جسده بارتباك.. يدور في المكان مستاءً)
مطرود: أيعقل أنني نائمٌ الآن؟، وما أراه مجرد أضغاث أحلام!؟، أم انتقلتُ بروحي الى العالم الآخر؟ وما هؤلاء الذين اقابلهم إلا أرواحاً لأناس حصدهم الموت قبلي، وربما منذ أمدٕ بعيد.
(مطرود.. يدور في المكان مرتبكا.. و مندهشا)
مطرود: لكن الغريب أنهم يعرفونني جيدا، ويعرفون كل شيء عني، وهذا ما يحيرني. والأمر المحيّر الآخر، إن كان حقا ما يدعوّن فإن هذا اليشار قد يكون داهية، ربما لم يكن مجرد صانع أحذية كما كان يتظاهر، وإلا كيف يأتمنه الملك على أسراره دوننا!؟، مستحيل، شيء لا يمكن أن يصدقه العقل.
(يعود يتأمل الصور..يقع نظره على صورة أحدهم..يمتعض وجهه.. ويحرك أصابع يده الملمومة معاتبا.).
مطرود: وأنت أيها الحوذي المتلون، كيف نزعت عنك جلدك، ولبست جلدا آخر بتلك السرعة؟ لتصبح واحداً منهم، وقد كنت المدلل من بيننا من قبل الملك وعائلة، وكنت الوحيد الذي يُسمح له بالدخول الى غرف ومخادع الإسرة، والوحيد المسموح له بمرافقتهم على ظهر العربة الملكية التي تتولى قيادتها أنت في جميع جولات التنزه التي كانوا يقومون بها ليلاً أو نهاراً.
(بأسى.. ومرارة)
مطرود: لا يمكن أن يستوعب عقلي كيف أنك تنكرت لأمانة القسم الذي تعهدت فيه أن تكون أمينا على أسرار القصر، والذود عن الملك ولو كلفك ذلك حياتك.
(مطرود.. بأسى وحسرة..)
مطرود: لكنك، ما أن تغيرت الرياح، واختلف المزاج العام للشارع حتى كشرت عن أنيابك، وكنت أول من ركب الموجة، وظهرت بوجه آخر كنت تخفيه تحت قناع أبيض جميل كما يبدو. والادهى.. أنك باركت.. وشاركت مع من تعامل بوحشية مفرطة في التمثيل بجثث الضحايا، والتشفي بهم.. ما أقبحك!.
(مطرود يمسك برأسه ويجلس متكورا، يصرخ بصوت موجوع)
مطرود: يا إلهي..لا أكاد أصدق.. أي انحطاط انحدر إليه هذا الحوذي النجس، إنه ناكرا للجميل.
(يعم الظلام في المكان مع تصاعد إيقاع قرع طبول مرافقا لموسيقى صاخبة، بقعة ضوء تظهر مطرود جالسا بطريقة تعكس مدى الإحباط الذي يعانيه، لحظات وينهض مأزوماً.. يدور في المكان.. يهم بالانصراف.. يسمع صوت ينطلق من ذات المكان الذي كان فيه ذلك الشخص الذي يبحث عن يشار الاسكافي..يلتفت اليه، يلحظه واقفاً يضحك بخبث.).
(مطرود.. مندهشاً)
مطرود: أنتَ أيضاً!؟.
الشخص: ههه.. ههه.. ها.. لن تفلت مني يا هذا.. لو وضعت نفسك في صندوق محكم الغلق، والقيته في أعماق البحر، فسأصل اليك.. ههه.. ههه.. ها.. جنود الجن والشياطين يعملون بأمرتي، ولن يخالفوا أوامري.هيا.. أفرغ ما بجعبتك يا مطرود.. وإلا ستندم.. ههه.. ههه.. ههها.
مطرود: وما المطلوب مني هذه المرة!؟.
الشخص: ذلك الصعلوك الدميم، لم تخبرنا عن مكان تواجده.
مطرود: تراه متسولا يدور في الشوارع، وليس له مكانا ثابتا يأوي اليه عندما يداهمه التعب.
(الشخص بلهجة فيها وعيد)
الشخص: اسمع ياهذا.. لا أريد تكهنات، ولا أحب اللف والدوران.
مطرود: كنت أتمنى لو تكرمَ جنابكم وأخبرني، لماذا تعطون رجلإ متسولا دميما كل هذه الأهمية.
(الشخص، ناهرا مطرود)
الشخص: هذا ليس شأنك، لا تتدخل في أمور لا تعنيك. وما عليك إلا أن تخبرني عن مكان تواجده، لا تجرنا الى أمور اخرى يارجل نحن في غنى عنها، أخبرنا عن مكان تواجده..وكفى.
مطرود: كيف لي أن أعلم بمكان وجوده والرجل ليس لديه بيت يأوي إليه، يمضي نهاراته متسكعا يفترش الأرصفة، يستجدي لقمة عيشه؟.
الشخص: وما يدريك أنت بكل هذه الامور إن لم تكن تلتقيه؟.
مطرود: صدقني لم ألتقيه منذ أن وقعت المأساة، لكنني كنت أسمع أخباره من بعض معارفي.
الشخص: حسنإ..حسناً.. إذن خذنا لمعارفك لنستبين منهم عن مكان وجوده.
مطرود: يوووه.. كان هذا قبل سنين طويلة، أما اليوم فلم تعد لي صلة بأحد، كنت قد قطعت صلتي بالجميع حتى مع أقرب الناس لي، وأخترت العيش وحيداً في دار المسنين، وأنا الآن في العد الأخير من سنوات عمري التي شارفت على النهاية.
(الشخص، يخفف اللهجة، محاولا استمالة مشاعر مطرود..)
الشخص: الحقيقة.. أنك أملنا الوحيد في العثور على هذا الرجل، ومهمتنا ليس مهمة عادية، وإنما مهمة وطنية تحتاج منا جميعا ومنك أيضا ان نتكاتف ونتعاون لاسترجاع ما فُقد من وثائق وأرشيف يوثق مرحلة مهمة من تأريخ دولتنا الحديثة يا رجل.
مطرود: لم أفهم ما تقول، اسكافي مغمور، لا يقرأ ولا يكتب ولايفهم من أمور السياسة شيء سوى أنه ماهر في صناعة الاحذية، يحتل كل هذه الأهمية؟، شيء لا يستوعبه العقل.!.
الشخص: الأهمية لا تكمن في شخصيته، إنما فيما لديه من وثائق سرية مهمة.
(مطرود متسائلا بدهشة)
مطرود: وثائق سرية!؟، يشار الإسكافي في حوزته وثائق سرية!؟، وهل كان مستشاراً للملك؟ أم ولياً لعهده!؟، إنه صانع أحذية ياناس، ماله ومال الوثائق؟ مالكم، ألا تحترمون عقولكم؟ كيف تفكرون!؟.
الشخص: هذه الأمور لا تفهمها أنت يا مطرود، مراسلات الملك السرية، مذكراته، جلسات حواراته السرية، وأمور أخرى كثيرة، كل تلك الأمور بحوزة هذا اليشار الذي تستخف به.
مطرود: كل هذه الامور وما لها من أهمية كما تقول، بحوزة هذا الاسكافي الدميم؟. لا أصدق، بل أكاد أجن.
الشخص: نعم بحوزته.
مطرود: ومافائدة أن يحتفظ بها؟.
الشخص: معلوماتنا تؤكد أن هناك جهات خارجية تتفاوض معه لشرائها بمبالغ تفوق الخيال، وقد رتبوا له أوراقاً لتهريبه خارج البلد بأسم مستعار، وجواز سفر مزور.
مطرود: وبماذا تنفعهم تلك الوثائق؟.
الشخص: هذه أمور سبق وإن قلت لك ٱنك لا تفهمها. المهم، هل لديك الاستعداد في معاونتنا للعثور عليه، وستكون لك عندنا حظوة، مع جائزة ثمينة وإمور أخرى ستغير مجرى حياتك.
(مطرود.. بعد أن يتلفت الى كل الاتجاهات غير مصدق بما تسمع أذناه..يرد:)
مطرود: بالتأكيد.. سأبذل قصارى جهدي في أن أدلكم عليه، ليس من أجل الجائزة ولا الإمور الأخرى التي ذكرت، فأنا لست بحاجة اليها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالوطن ومصلحته فالأمر مختلف، ولا مساومة على مصلحة الوطن، فالوطن أغلى من كل شيء.
(الشخص يمد يده مصافحاً مطرود).
الشخص: عظيم..اتفقنا.
(يعم الظلام في المسرح لبعض الوقت مع تصاعد الموسيقى والإيقاعات من مؤثر الصوت، بقعة ضوء تظهر لنا دخان خفيف يتصاعد من المكان، مطرود مسجى، وشخص آخر مغطى كامل جسده بالقماش الأبيض ممسكا بمرآة ويقرأ بعض العبارات والتراتيل، ينزع الشخص عنه القماش الأبيض الذي يغطيه، يتبين لنا أنه الشخص الذي كان يحاور مطرود، يعاود الظلام فيبتلع كامل الضياء.).
(ستــــــــــــار)
** جبار القريشي/العراق.