نص مسرحي: “حافَّة الاقتراب” / تأليف: محمود أبو العباس

(بيت من حجر..يحتل مساحة وسط يمين المسرح..يبدو متهالكًا.. شبابيكه صدئة وستائره بألوان مختلفة.. الجدران فيه مثلَّمة من جهات.. وأخرى عولجت بالإسمنت.. للبيت سُلَّم بدرجتين ترفعه عن الأرض.. أمَّا المساحة المتبقِّية من المسرح.. فهي فراغ ممتد.. كأنَّها الصَّحراء.. تظهر خلال الأحداث المسائيَّة..مجموعة من الإضاءات البعيدة الخافتة في العمق.. أرضيَّة المسرح يمكن فرشها بالرَّمل أو بقع منه.. مؤثِّرات لمرور سيَّارات وشاحنات تمر بين الحين والآخر أثناء الحدث).

(يدخل “صاحب العربة” يقود عربة حديديَّة كتلك الَّتي تستعمل في البناء.. في العربة حقيبة ملابس كبيرة.. وهذا متوسِّط العمر..يبدو عليه التَّعب ولطالما يلهث عند الكلام.. مرح.. كثير الكلام.. يتدخَّل فيما لا يعنيه.. يتبعه “الشَّاب” الَّذي يبدو عليه التَّرف.. وعلامات التَّرف يوضِّحها سلوكه.. مصاب بالهلع والخوف.. يجعله يُخرج كلماته من بين أسنانه أحيانًا.. عندما يسمع صوتًا عاليًا يصاب بالارتجاف.. وهو دائمًا ما يضع قطنًا في أذنيه تلافيًا للأصوات القويَّة..بل يبدِّل القطنة بين حين وآخر).

صاحب العربة: (يدفع عربته بالحقيبة) هل ضاقت بك الأرض.. لتأتي وتدفن نفسك في هذه الأرض الفراغ؟

الشَّاب: وهذا البيت؟

صاحب العربة: وتسمِّي هذه الخربة بيتًا؟ هو الآخر فراغًا.

الشَّاب: هذا ما أبتغيه.. فأنا أبحث…(يجد صاحب العربة يفتِّش حقيبته.. فيصرخ ليوقف بحثه) عن الهدوء.

صاحب العربة: (يضحك) ستسأم من الهدوء هنا.. بل ستشبع من الهدوء.. (يصفِّق) اشبع.. اشبع.

الشَّاب: أفضل من المكان الَّذي كنت فيه.. فهناك (يشير بيده لمكان ما) كل شيء مضطرب.. دمار في كلِّ مكان.. يا رجل خرَّبوا الأرض.. وأزيز القذائف حطَّم كل روحي.. إحساسي يقول.. هذه الخلوة الَّتي أريد.

صاحب العربة: ستكون قرب رجل لا يرحم.

الشَّاب: مَنْ؟

صاحب العربة: الرَّجل الَّذي يسكن هنا.. تقيَّأته الدُّنيا فوقع في هذا المكان.. إنَّه هنا منذ زمن بعيييييد.

الشَّاب: كفى.. كفى..

صاحب العربة: ها؟

الشَّاب: أنت تهذي.

صاحب العربة: نعم؟

الشَّاب: أنت.. أنت ترغي.

صاحب العربة: لم أفهم.

الشَّاب: أنت تثرثر كثيرًا.

صاحب العربة: (يضحك) ها.. تقصد أتكلَّم كثيرًا.. الكل يقول لي ذلك.. أنا تكلَّمت؟

الشَّاب: أنت صدَّعت رأسي بلغوك الفارغ.. طول الطَّريق وأنت لم تتوقَّف عن الكلام.. هيَّا أكمل جلب الحقيبة الثَّانية.

صاحب العربة: يلزمني شيء من الرَّاحة.. فأنت لا تعلم ما يفعله الرَّمل بعضلات السَّاقين.. أنسجة العضلات والمفاصل…

الشَّاب: (يقاطعه) صوتك بدأ يقرفني.. (يستمر صاحب العربة بالكلام) هل ستسكت؟ أم لا؟

صاحب العربة: طبعًا (يدندن بأغنية) ولكن لم تقل لي لماذا أنت هنا؟

الشَّاب: ما شأنك أنت؟

صاحب العربة: طيِّب ومن دلَّك على هذا المكان؟

الشَّاب: جاءت بي الصُّدفة إلى هنا..فأنا لم آتِ إلى هنا برغبتي.. السَّائق ضجر منِّي.. حكيت له عن الدَّمار الَّذي أحاط مدينتي وتسبَّب في هربي.. ما إن قلت له خفافيش سوداء..هجمت علينا.. حتَّى أنزلني من السَّيَّارة.. الجبان ابن الجبان.

صاحب العربة: هذا فقط؟ وماذا بعد؟

الشَّاب: لا شيء.. وكذلك.. لأنِّي لم أسمح له بسماع أغانٍ تافهة.. أغانٍ كانت بصوت عالٍ يخرق أذني وينشِّف الدَّم في عقلي.. شعرت بغراب ينعق.. بل ينقر عيني.. شعور أشبه بجثَّة تُركَتْ نهبًا للضَّواري.

صاحب العربة: أنت تشاهد أفلام رعب؟ (يحاول الهرب بعربته).

الشَّاب: لا.. بل الرُّعب عندنا لا يحتاج إلى أفلام.. نحن جعلونا أفلام رعب يتفرَّجون علينا بالمجَّان.

صاحب العربة: لم أفهم.

الشَّاب: المهم نزولي هنا..ضارَّةٌ نفعتني.. فهنا حتَّى مرور الرِّيح يغري بالبقاء.. والهدوء لا تجده في كلِّ مكان.

صاحب العربة: إذا لم تقل لي من أين جئت.. سأذهب ولن ترى وجهي مرَّة أخرى.. قل من أين جئت؟

الشَّاب: سألتني مائة مرَّة.. وأنا أكره الأسئلة.. مللت من الأسئلة.. ماذا سيفيدك لو أنِّي قلت لك من أين جئت.. ها؟ لقد أفرغت ما بجعبتي من معلومات وسلَّمتها لنقاط التَّفتيش الَّتي تمتد من بيتي إلى هنا.. تفتيش.. تفتيش.. تفتيش.. (يكرِّرها ويمثِّل له ما فعلوا به من أفعال فاضحة).

صاحب العربة: ماذا تقول؟ هذا هَم ما بعده هَم.. نقاط تفتيش على طول الطَّريق؟ الله يساعدك على هذا الهَم!

الشَّاب: لو أنَّ جبلًا لتصدَّع.. لو أنَّ جملًا لمات من الغم.

صاحب العربة: سأذهب.

الشَّاب:إلى أين؟ هل ستجلب لي الحقيبة الثَّانية؟

صاحب العربة: لا.. بل.. اجلبها أنت.. أنا أخاف من هذا الرَّجل الَّذي في البيت (يخرج هاربًا).

الشَّاب: تعال.. تعال.. (يتبعه).

(يُفتَحْ باب البيت.. فيطل منه وجه “الرَّجل”.. وجه غريب الشَّكل.. ذقن أشعث.. شعر متجمِّد كأنَّه لم يُغسَل منذ زمن..ثيابه توحي بأنَّه خرج لتوِّه من الكهف.. يدخل يتثاءب وهو يمطُّ يديه للجانب).

الرَّجل: الواحد يستيقظ من نومه مُتعَب.. (يتثاءب) كأنِّي سمعت أصواتًا؟ أيقظتني الأصوات وكأنَّها تناديني من عمق نومي.. لكن لم أستطع أن أميِّز لغتها.. كأنَّها أحلام تطرد البركة من هذا البيت.. (يضحك) لا أحد.. أين اختفوا! (يخرج من البيت..يركض باتِّجاه اليسار واليمين ويصرخ).. تعال..تعال.. (ثُمَّ يعود من العمق راكضًا فيصل عند سُلَّم البيت ويجلس).

الرَّجل: أو ربَّما صاحب العربة.. (يغضب) لم يأتني هذا الأبله بطلباتي.. كأنِّي أدفع له حصى.. صاحب العربة هذا بدأ يتمرَّد عليَّ.. (يلتقط حجارة من الأرض) حين يصل سأفجُّ رأسه بهذه الحجارة..(يتردَّد) لا لا.. فمن يداري كسلي وقلَّة حيلتي.. لو تسبَّبت له بالأذى.. (ينتبه لوجود الحقيبة..يقترب منها بهدوء) ما هذا؟ بل ما هذه؟ حقيبة.. (يدخل هاربًا للبيت).

(يطل برأسه من شبَّاك البيت المقابل للجمهور.. يمكن للبيت أن يصنع من قماش مرسوم يسمح بوجود ظلال داخله إذا وجَّهنا عليه إضاءة.. أو يمكن أن نفتح ضلعًا منه لنشاهد ما يجري بالدَّاخل).

الرَّجل: هل إنَّ دعائي المضاعف وضع هذه الهديَّة في طريقي؟ كل يوم أدعو أن تُستر عورتي بسروال.. أو بقميص طويل وإذا بها حقيبة.. هكذا تفتح السَّماء أبوابها لضعفي.. وتعوِّض حرماني.. سأقيم وليمة.. أذبح هذه الدَّجاجة.. (نسمع صوت الدَّجاجة) لا تخافي لن أذبحك.. فهو محض خيال.. (يفتح الباب مسرعًا ويتَّجه للحقيبة.. يحاول فتحها دون جدوى.. يذهب للبيت فيجلب عمودًا حديديًّا..يضرب به قفل الحقيبة حتَّى يفتحها).. ما عادت الأقفال أمينة على ما بداخل المقفولات.. (يفتح الحقيبة ويقلب ما فيها من ملابس وهي تيشيرتات وبنطلونات جينز.. وملابس حديثة أخرى).. يبدو أنَّ دعائي لم يرحم شيخوختي.. فجاءت الملابس لتداعب أيَّام الصّبا والشَّباب.. فلا الحجم حجمي.. ولا هي ما أرغب.. ولكنِّي سأحتفظ بها.. وأبيع ما بداخلها.

(يدخل الشَّاب مسرعًا).

الشَّاب: هَي هَي..أنت.. ماذا تفعل؟

الرَّجل: أنت ماذا تفعل هنا؟ ومن أوصلك إلى هذا المكان؟ (يحمل الحقيبة ليدخل).

الشَّاب: إنَّها حقيبتي.

الرَّجل: ها ها.. حقيبة مَنْ؟

الشَّاب:أنا جلبتها.. أأأ.. حتَّى اسأل صاحب العربة.

الرَّجل:اذهب أنت وصاحب العربة إلى الجحيم.

الشَّاب: (يوقفه عند الباب) لولا شيخوختك.. لفعلت بك ما فعلت.

الرَّجل: ما تفعل؟

الشَّاب: رد لي حقيبتي.. (يشتبكان وبينهما الحقيبة).

الرَّجل: وما يثبت أنَّها حقيبتك؟

الشَّاب: فتِّشها.. ستجد فيها ملابسي وأوراقي.

الرَّجل: لم أجد أوراقًا فيها.

الشَّاب: معناها.. فتَّشتَ الحقيبة!

الرَّجل: أنت شكلك محتال وتريد سرقة بركات دعائي.

الشَّاب: بل أنت تريد أن تأخذ ما ليس لك!

الرَّجل: وكيف تجرؤ أن تطأ قدماك..مكاني.. وبيتي.

الشَّاب: لم أدخل بيتك.. مثلما أنت فتَّشت حقيبتي.

الرَّجل: بل تحوم حوله.. وهو شروع للسَّرقة.. آخ.. ما عادت الأشياء في مأمن.. والمحظورات أصبحت مباحة.. وعليَّ أن أتسلَّح بجلد وحش..لأحمي نفسي.

الشَّاب: كفَّ عن لغوك.. وأعطني حقيبتي.

الرَّجل: قلت لك.. جِئني بما يُثبت.

الشَّاب:اسأل صاحب العربة.

(يدخل صاحب العربة مقاطعًا).

صاحب العربة: أنا شاهد.. إنَّها حقيبته.

الرَّجل: وأنت تترك حاجاتي لتهتم بغيري؟

صاحب العربة: الشَّاب كان تائهًا..وطلب منِّي المساعدة.

الرَّجل: (يصرخ) ولكنِّي طلبت منك أشياءً…

الشَّاب: (يقاطعه) لِمَ تصرخ؟

الرَّجل: (بصوت عالٍ) بَرّيَّتي هذه.. مكاني.. صحرائي.. وأصرخ فيها كما أشاء.

الشَّاب: لا تصرخ!

الرَّجل: لا أحد يستطيع أن يكمِّم فمي.. أنا اخترت هذا المكان لأصرخ.. فزمن التَّكميم قد ولَّى دون رجعة.. (يصرخ)..آآآآآآآآآآآآآآآآآه.

الشَّاب: (تنتابه رجفة)اخـ… ررر… سسس.(يرتجف حتَّى يتطوَّح ليسقط على الأرض.. يدبُّ الخوف في صاحب العربة والرَّجل).

الرَّجل: (يهمس) انتظر.. من أين جئت لي بهذه البضاعة؟ (يشير للشَّاب).

صاحب العربة: مسكين.. هو.. قال لي.. يكره الأصوات المرتفعة.

الرَّجل: (يصرخ) سأجلب له الماء.

صاحب العربة: لا تصرررخ!! (يتشنَّج لإسكاته).

الرَّجل: أنت الآخر مثله؟

صاحب العربة: لا.. ولكنِّي أردتُ أن أُقلِّده.

الرَّجل: طيِّب.

صاحب العربة: الذَّنب ليس ذنبك ولا ذنبه.. بل ذنب أولئك الَّذين أحالونا إلى حطام.. صرنا نعيش في مدن كأنَّ هزَّات أرضيَّة خسفتها.. في كلِّ مرَّة أؤجِّل اندفاعي خشية أن يقع المحظور.. وها هم يوغلون.. يتحرَّشون بنا.. إلى متى نضع الرُّؤوس بالرِّمال؟ إلى متى؟ سأذهب.

الرَّجل: إلى أين؟

صاحب العربة:إليهم..إلى الَّذين كانوا ومازالوا السَّبب بكلِّ هذا الخراب الَّذي نحن فيه.. انتظروني.. فأنا عائد لكم بالنَّصر المؤزر.. سأبطش بهم بطشة رجال في رجل.. ها أنا قادم.. سأشدُّكم على نطاقي ساخرًا منكم.. هل خلت المدن من الرِّجال؟ قادم إليكم ابن أمّه وأبيه.. (يخرج).

(ينهض الشَّاب قليلًا).

الرَّجل: انتظرني.. سأجلب لك الماء.

الشَّاب: لا حاجة لي به.. فهو يزيد من أزمتي.

الرَّجل:أأأأأأ.. (ينظر إلى الشَّاب ويتفحَّصه).

الشَّاب: لِمَ تنظر إليَّ بهذه الطَّريقة؟

الرَّجل: أنت وضعك يثير الرّيبة.

الشَّاب: لماذا؟

الرَّجل: حالتك جدًّا معقَّدة.. ففي مثل هذه الحالة يكون ترك المريض جريمة.. فربَّما.. يـ…

الشَّاب: يموت؟

الرَّجل: يموت.. كيف تركوك لوحدك هكذا.. أنت لوحدك؟

الشَّاب: لم أكن لوحدي.. كنَّا…

الرَّجل: كنتم؟

الشَّاب: كنَّا.. وكنَّا هذه أصبحت مفردة العصر.. فبعد هذا التَّمزُّق.. تفرَّقنا.. وأصبحت الأرض أوسع.. تباعدت المسافات بيننا أكثر من قبل.. ذقنا مُرَّ الشَّتات والتَّوزُّع.. فالمسافات أغرقتنا في قعر التَّخلِّي.. صرنا نلوذ بأنفسنا.. وأصبحت أحلى الكلمات.. يا روح ما بعدك روح..(يا روح ما بعدك روح يقولونها سويَّة).

الرَّجل: كأنَّك أنا.

الشَّاب: أنا أنت؟

الرَّجل: ولكن من سنين خلت.. كلامك إرث قديم.. أنا تحدَّثت بنفس ما قلت.. بنفس النَّبرة.. ونفس الكلمات.. منذ حرمتنا الأرض حتَّى من ظلِّها.

الشَّاب: ظل.. الأرض؟

الرَّجل: العراء لا يرحم.. وعسير عليك أن تُرمى فيه دون ملجأ.. حين تجد ما لا يسرّك.. يجب أن تعتزل نفسك.

الشَّاب: أعتزل نفسي؟ هذا ما سأفعل.

(إظــــــــــــلام)

(في السِّتارة الخلفيَّة نجد صاحب العربة واقفًا وأمامه “مايك قديم” يخطب بمجموعة من أشكال جامدة من البشر.. لا نسمع منهم سوى ضوضاء الكلام.. يخطب ونجده يرمى من الخلف بحجر).

صاحب العربة: أعرف من كان السَّبب.. السَّبب بكلِّ هذا الخراب الَّذي نحن فيه.

المجموعة: (يرفعون أحجار من الأرض ويرمونه).

صاحب العربة: (يُضرب ويصرخ)آآآآآآآخ..(يكمل).. انتظروني.. فأنا عائدلكم بالنَّصر المؤزر.

المجموعة: (يرفعون أحجار من الأرض ويرمونه).

صاحب العربة: (يُضرب ويصرخ)آآآآآآخ..(يكمل).. سأبطش بهم بطشة رجال في رجل.

المجموعة: (يضحكون) هاهاها..(يرفعون أحجار من الأرض ويرمونه).

صاحب العربة: (يُضرب ويصرخ)آآآآآآخ..(يكمل)..ها أنا قادم إليكم.. سأشدّكم على نطاقي ساخرًا منكم.

المجموعة:تعاااااال..(يهجمون عليه ويحيطون به).

صاحب العربة:آآآآآآخ يدي.. هل خلت المدن من الرِّجال؟

المجموعة: (يهجمون عليه.. ويصرخون).. لا لا لا لا.

صاحب العربة: (يُضرب ويصرخ)آآآآآآخ..(يكمل).. قادم إليكم ابن أمّه وأبيه.

(يهجمون عليه.. يرفعونه للأعلى بأيديهم..ثمَّ على الأرض.. ويدوسونه بأقدامهم).

(نقلة ضوئيَّة)

الرَّجل: (يدخل وهو يضحك) في كلِّ مرَّة يحشر نفسه بين فكَّي العنف.. ويلقى جزاءه.. صاحب العربة هذا يمتلك من الغباء ما يغطِّي بلدًا.. الدَّليل أنِّي طلبت منه ألَّا يدلّ أحدًا على بيتي.. فجاء بك إلى هنا.

الشَّاب: ولكن كيف يمكنه أن يخفي البيت وهو ظاهر للعيان؟ بيتك هذا؟

الرَّجل: بيتي.

الشَّاب: لوحدك؟

الرَّجل: طبعًا لوحدي.

الشَّاب: أهلك.. العائلة؟

الرَّجل: أهلي؟ ضيَّعوني.. كل واحد تحت نجمة.. حين كانت تضجر أمّي منَّا.. ترفع يديها بالدُّعاء لنا.. “روحوا.. أتمنَّى كل واحد منكم تحت نجمة”.. ولم ينزل دعاؤها للأرض.. حلَّق.. فصرنا كل واحد تحت نجمة.. تفرَّقنا.

الشَّاب: ولِمَ تتركه مهدَّمًا؟

الرَّجل: أطرد الحسد.. عيون النَّاس حارقة (يضحك ويغنِّي)..عيون النَّاس حرَّاقة.

الشَّاب: عجيب!

الرَّجل: ولِمَ العجب؟ يبدو أنَّك لم تجرِّب ضيق ذات اليد.. عندما تلتصق أصابعك على راحة يدك.. وتتمنَّى أن تلكم بطنك كل دقيقة من الجوع..أو رأسك من التَّفكير.. هذا البيت هو الآخر شمله التَّغيير.

الشَّاب: قلت لي ستجلب الماء.. فأنا عطشان.

الرَّجل: آه.. عفوًا.. لم أضيِّفك.

(يتحرَّك الرَّجل ويتبعه الشَّاب).

الرَّجل: قف مكانك.

الشَّاب: أحسُّأنَّ الشَّمس بدأت تشقُّ هامتي.

الرَّجل: لم ترَ منها شيئًا.. صادقها حتَّى لا تشعر بخيانتها لك.

الشَّاب: الشَّمس؟

الرَّجل: الشَّمس.. لو تدري كيف كنت أتحايل عليها عندما جئت هنا أوَّل مرَّة مثلك.. بحقيبة.. آه كأنِّي في حلم.. رجَّعتني لأيَّام الشَّباب عندما رأيتك.. ما كان بوسعي لتلافي حر الشَّمس غير.. ملابسي الَّتي في الحقيبة.. صارت خيمتي.. أفضل خيمة هي ملابسك.. (يذهب الرَّجل للدَّاخل).

الشَّاب: (يذهب لحقيبته) ملابسي خيمتي.. فكرة.. يبدو أنَّه لا يريد السَّماح لي بدخول بيته.. لابُدَّ من وجود سر.. أو هو هكذا.. هذه الأرض الخراب نسجت روحه بالعفن.. العزلة كفيلة بالأنانية.

(يدخل صاحب العربة.. وقد لُفَّت يده بلفَّاف كبير..وعُلِّقت برقبته.. ورأسه ملفوف بضمادات لا تخلو من لون أحمر.. وهناك كدمات على وجهه).

الشَّاب: (يراه ويذهب باتِّجاهه) ما الَّذي حصل لك؟

صاحب العربة: قَول الحقيقة يكلِّف غاليًا (يسقط على الأرض).

(يخرج الرَّجل وهو يحمل وعاء فيه ماء.. وحين يشاهد صاحب العربة ساقطًا..يهرع له مسرعًا..ويبدأ بغسل وجهه).

الرَّجل: ما هذا.. ما بك؟ مأفون أنت وأخرق.. كم مرَّة منعتك من دسِّ أنفك فيما لا يعنيك؟

صاحب العربة: لا تستقيم الأمور دون تضحيات.. ونحن خُلقنا لنكون درعًا واقيًا للآخرين.

الرَّجل: تحارب بسيف من خشب.

صاحب العربة: أنت دائمًا ما تحبطني.. تسبِّب لي الإحباط.. والإحباط شيمة الجبناء.. وأنا لست جبانًا.

الرَّجل: اخرس.. واشرب الماء (يعطيه ماءً).

صاحب العربة: لا ماء يرويني.. ما يرويني هو الوقوف بوجه هؤلاء السَّفلة.. الَّذين يوزِّعون الموت ويدمِّرون المُدن.. فلا تكن لهم عونًا في إحباطي.

الشَّاب: (يذهب لصاحب العربة).. وأنا أحبّك معافى.. أوقف لغة الخطابة هذه.. فما عادت الخطابات هي الحل.

صاحب العربة: أنت محبط أيضًا؟ سأذهب.

الشَّاب: إلى أين؟

صاحب العربة: (يتثاءب) اسمحوا لي أن أنام.. (ينام على الأرض) استراحة المقاتل.

(يذهب الشَّاب لحقيبته ويفتحها.. ويبدأ بشدِّ ملابسه قطعة بقطعة.. ليكون له بيتًا..خلال الحوار القادم).

الشَّاب: لِمَ لا تدعه ينام قليلًا في بيتك؟

الرَّجل: خبيث.. أنت تدعو نفسك لدخول بيتي من خلال هذا السُّؤال..(يضحك).

الشَّاب: أقصده هو.

الرَّجل: هو.. يعرف أنِّي لا أستقبل أحدًا.

الشَّاب: لماذا؟ والبيت يحتل مساحة لا بأس بها.. يمكنها أن تضم عائلة.

الرَّجل: مهما اتَّسع.. فهو لا يحتمل وجودنا نحن الاثنين.

الشَّاب: ربَّما يكون مُلغَّمًا بأسرار لا تريد الكشف عنها.

الرَّجل: أنت بدأت تتجاوز خطوطك.

(الرَّجل يمسك عصا متروكة على الأرض.. ويبدأ من عمق المسرح.. ويخط خطًّا فاصلًا بينه وبين الشَّاب.. أثناء الحوار).

الرَّجل: هذا هو الخط الفاصل بيني وبينك إن أردت البقاء هنا.. وإيَّاك أن تتلصَّص للظَّفر بما يُشبع فضولك بمعرفتي.. أنا مثل هذا الحائط.. مغلق.. وليس من السَّهل عليك أن تنفَذ إليَّ.

الشَّاب: لو لم تَخَفْ من ذنبٍ اقترفته.. لما سوَّرت نفسك بهذا الوجه الجامد.

الرَّجل: الوجوه القاسية تحمي أصحابها.. ثُمَّ أنا لا أخاف من أحد.

الشَّاب: طبعًا.. لا تخاف لأنَّك تسكن في هذه الخربة الَّتي تشاركك فيها الحشرات والدِّيدان.. من ماذا تخاف!

الرَّجل: هذا المكان الَّذي لا يعجبك.. بدأته من ربط ملابسي كما تفعل أنت.. فصار خيمتي.. ثمَّ رأفوا بحالي.

الشَّاب: مَنْ؟

الرَّجل: إخوتي.. فاستبدلته بالصَّفائح المعدنيَّة.. وأنت لا تعلم ما معنى أن يعيش إنسان في صفيحة معدنيَّة.. في هذا الهجير.. أو في الزَّمهرير.

الشَّاب: أنت اخترت هذا المصير.. لوحدك.

الرَّجل: وأنت تريد أن تقتسمه.. أو أنَّك تريد أن تجرِّب بهذا الفأر.. (يشير لصاحب العربة) ليكون الطَّريقُ سالكًا لك.. أرى أنَّ لعابك يسيل على هذه الَّتي تسمّيها خربة.

الشَّاب: كلماتك توحي لي بشعورٍ..أنَّك تعاني من عقدة اضطهاد.

الرَّجل: عقدة اضطهاد؟ اضطهادات.. كان يومها هذا البيت صفيحة.. أُسلَق فيها حتَّى تقشَّر جلدي.. وحين حنَّ عليَّ إخوتي وجعلوه خشبًا..التهمته النِّيران والتهم معه أحلى مخلوقاته في الحياة.. فأحالها رمادًا.. ما زلت أحتفظ بذاك الرَّماد لحدِّ الآن.

الشَّاب: من هي؟

الرَّجل: حبيبتي زوجتي.. احترقت..فجمعت رمادها ووضعته في رجاجة وهو داخل البيت.

(ضربة موسيقيَّة مناسبة.. يختل فيها وزن الشَّاب).

الشَّاب: تضعها في زجاجة؟ وذاك ما يخالف يا رجل.. إكرام الميِّت دفنه.. ألم تسمع؟

الرَّجل: ألا يكفي أنِّي مدفون في هذه الصَّحراء.. كيف أدفن رمادها؟ وهي.. هنا معي.. روحها تحوم.. حولي.. كل ليلة.. وطلبت منِّي ألَّا تطأ قدمٌ هذا البيت.. حتَّى لو أنَّ أمِّي عادت من القبور.

الشَّاب: اخرج من دنياك هذه.. فأنت تبدو واحدًا من سكَّان القبور.

الرَّجل: وأين أذهب؟ وكلُّنا أصبحنا نعوشًا تتجوَّل بساقين.

الشَّاب: لا تظن أنِّي طامع ببيتك.. (يُكمل عمل الملابس خيمة).

الرَّجل: بماذا إذن؟

الشَّاب: طامع بهذا الغصن الَّذي بيدك.. أرفع به وجه خيمتي عن الأرض.

الرَّجل: أنت تريد إجباري على قبولك جارًا لي؟

الشَّاب: اعتبرني أخاك.

الرَّجل: أنا لستُ أخًا لأحد.. كلّكم والفراغ سواء.. أخي هذا (يشير لكفِّه) كفّي.. أخي رأسي.. عيناي أختيَّ..ساقي أكثر إخوتي عناءً في حملي.. ما عادت الأخوَّة تنفع في زمن وجفت فيه القلوب.. وجفَّت فيه منابع الحنان.. حلمك بالأخوَّة تفسيره خاطئ.

الشَّاب: (يصفِّر) يا الله.. كل هذا الغل في داخلك.. يا الله.. أنت تحمل حطام السِّنين.. وتستلّه خنجرًا للدِّفاع عن غضبك.

الرَّجل:أنا أخو نفسي.

الشَّاب: أخو نفسك؟ واضح.. قل لي..بِمَ تنصح؟

الرَّجل: (يقاطعه) أنصحك بالرَّحيل.. فهنا ذئاب تحوم.. ذئاب تلتهم الحياة بشراهة.. لغتهم السِّكِّين.. وأعلى مراتب صفاء النَّفس عندهم هو الذَّبح.

الشَّباب: هنا المكان بعيد عن مرماهم.

الرَّجل: ما عاد شبرٌ واحدٌ آمنًا على هذه الأرض.. وتلك الضَّواري.. تلتهم كل ما حولها.

الشَّاب: قل لي.. من أين آتي بالماء؟

الرَّجل: لا ماء هنا.

الشَّاب: لكنَّ عطشي يفتك بي.. وربَّما يغريني للفتك بغيري.

(ينهض صاحب العربة.. وهو محطَّم).

الشَّاب: ماء.. أريد ماء.

صاحب العربة: لا ماء هنا إلَّا في بئرٍ داخل هذا البيت.

الرَّجل: (يهجم عليه) تفشي أسراري؟!

(يهرب صاحب العربة وهو يردِّد).

صاحب العربة: الذَّنب ليس ذنبكما.

(يذهب خلف السِّتارة حيث المجموعة..يخطب بهم).

صاحب العربة: بل أولئك السَّفلة الَّذين يوزِّعون الموت.. ويدمِّرون المدن.

المجموعة:طاط…

صاحب العربة: فانتظروا أحباب القلب.

المجموعة:طاط.. طاط.

صاحب العربة: انتظروا منِّي ما يشفي صدوركم.

المجموعة:طاط.. طاط.. طاط.

صاحب العربة: فأنتم خير هذه الأرض.. وقد كُرِّمتم.. بأغلى امتيازات.. لا إحباط.. لا إحباط.. فما زالت حرارة النَّفس تتأجَّج بي.

(المجموعة.. يتقدَّمون نحوه ويرفعون عصي من الأرض ويضربونه في ساقه).

صاحب العربة:آآآآآخ.. ساقي.

(إظـــــــــــــــــــــلام)

(نقلــة ضوئيَّــة)

 

(هنا يقف في بقعتين منفصلتين.. الرَّجل في أحد شبابيك البيت.. والشَّاب قرب خيمة الملابس).

الشَّاب: تركتُ كل بقاع الأرض..لألصق وجهي بوجه هذا المجنون!

الرَّجل: تُرى ماذا يخطِّط لي عقله المريض؟

الشَّاب: إذا كان يحتفظ برماد جثَّة حبيبته كما يدَّعي…

الرَّجل: ارتجافه ينمُّ عن خطر محدق بي.

الشَّاب: أكيد لديه وسائل مبتكرة أخرى في الموت..وأكثر من الحرق.

الرَّجل: إذا دعته ضرورة العطش.. فقد يقطِّعني إلى قطع صغيرة.

الشَّاب: يحرقني أنا وخيمتي.

الرَّجل: ربَّما يشرب من دمي.. بل ربَّما يخنقني.

الاثنان معًا: ويبكي.. ويصلِّي عليَّ.. ويواري جثماني الثَّرى.. أموت؟

الشَّاب: أموت؟! ربَّما يخطِّط لذلك.

الرَّجل: إذا مُتُّ..فسيأتي من هو بعدي ليجهز عليه.

الشَّاب: صاحب العربة.

الرَّجل: صاحب العربة.

الشَّاب: مثلما جاء بي يُرجعني.

الرَّجل: مثلما جاء به يُرجعه.

(يقولانها سويَّة).

(يدخل صاحب العربة وهو يتعكَّز على عكَّاز وقد شُدَّتْ إحدى ساقيه بالجبس.. وهذه المرَّة يدخل معه رجل ضخم الجثَّة..يدفع عربته.. الضَّخم يتلوَّى ويتحرَّك.. لا تثبت ساقاه على الأرض.. ويمكن أن يكون فاعلًا أثناء هذا المشهد).

الشَّاب: ماذا جرى لك مرَّة أخرى؟

الرَّجل: مَن هذا الَّذي معك أيضًا؟

صاحب العربة: لا أعرفه.. وجدته يرافقني لهذا المكان.

الضَّخم: (يتلوَّى)..آآآآييييييي.

الرَّجل: ستجمع معك كل المارَّة ليستقرّوا هنا وينغِّصون عيشتي.

الضَّخم: (يتلوَّى)..آآآآييييييي.

الشَّاب: وهل هو من الَّذين ضربوك؟

صاحب العربة: لا أعتقد.. ولكنِّي سأبحث عن السَّبب.

الشَّاب: لا تخطب.

صاحب العربة: السَّبب الَّذي يدعوهم لضربي.. أنا الَّذي أريد لهم الخير.. للوقوف بوجه الظَّالمين.

الضَّخم: (يتلوَّى)..آآآآييييييي..

الرَّجل: (يتقدَّم غاضبًا) إن لم تغادر المكان سأضطر.. لـ…

صاحب العربة: أنت الآخر تريد ضربي؟

الرَّجل: حظِّي البائس جاء بكما لقلق سكينتي.. لم أرضَ بصاحب العربة.. أصبحتم ثلاثة.. لم تقل لنا مَن هذا؟ (يشير لضخم الجثَّة).

صاحب العربة: لا أعرفه.. ربَّما نبع من الأرض.

الضَّخم: (يتلوَّى)..آآآآييييييي.

الرَّجل: وهل سيبقى؟

صاحب العربة: لحظة.

(يذهب ليهمس في أذن الضَّخم.. الضَّخم يهزُّ رأسه.. ويذهب).

الضَّخم: (يتلوَّى) ok.

(الشَّاب يذهب صوب الرَّجل).

الشَّاب: معقول؟

الرَّجل: (يذهب مسرعًا للشَّاب) أرأيت.. إذن هذا صديقه.

الشَّاب: ليس هيِّنًا.. هذا.

الرَّجل: ربَّما يسلِّمنا له.

الشَّاب: يأخذنا؟

الرَّجل: رهائن.. ليس بعيدًا أن يقول لهم سُيّاح.. جاءوا لاكتشاف هذه الأرض البكر.

الشَّاب: أو يضعنا على نصاب إحدى الجهات.

الرَّجل: ربَّما نكون طعمًا للغزو.. لضخام الجثَّة.

الشَّاب: ولا نجد من يدفع عنَّا الفدية.

صاحب العربة: عقولكم الوسخة ربَّما أبحرت أبعد ممَّا أنا فيه من ورطة.

الرَّجل: أنت تورِّطني في كلِّ مرَّة.

صاحب العربة: أمَّا أنا فلا أخون.. أنا أضحِّي بهذا الجسد.. وتتَّهمونني بالمكر والخداع.

الشَّاب: كيف لا.. وأنت بإشارة منك.. بل بهمسة.. غادر.

صاحب العربة: أنتما لا تصدِّقان.. الضَّخم هذا كان يعاني.

الاثنان: من ماذا؟

صاحب العربة: يريد قضاء حاجته.. قلت له هناك مكان قريب.. وحين وصلنا همست له أنهيها وراء تلك التَّلَّة.. فلم يسمع كلامي.

الرَّجل: لا أصدِّق.. (يسحب الشَّاب) أنت معهما؟ فقد تداخلت الأوراق.

الشَّاب: (للرَّجل) أنت لا تصدِّق وغير مقتنع بأنِّي جئت هاربًا من موتٍ مُحقَّق.. جئت ألوذ حتَّى ولو بظل..وسط هذا الرَّمل السَّاخن.

الرَّجل: كيف يمكن أن أأتمنك.. بعد أن عرَفتَ أنَّ الماء في بئر داخل بيتي!

الشَّاب: سأكون لك سندًا.. لوحدك ماذا يمكن أن تفعل؟

الرَّجل: كن سندًا لنفسك.. أو اسند هذا الكيان المحطَّم الَّذي بقربك (يشير لصاحب العربة).

صاحب العربة: تسخر منِّي هاااا؟ أنا..أنا؟ أنا الَّذي أضعت ساقي ويدي.. وتهشَّم رأسي.. من أجلكم!

الرَّجل:لم يطلب أحد منك ذلك.. أنت تبرَّعت بنفسك.. وذهبت.

صاحب العربة: أدافع عن حقِّك وحقِّي وتقول تبرَّعت!

الشَّاب: كفى.

الرَّجل: أنت لا تقدر أن تتحرَّك نصف متر.. أعطبوك.. فاعرف حجمك.

صاحب العربة: ولكن سأزيل من خارطة عقلي كلامك المُر.. وسأنطلق.. وأهشِّم أفكارك السَّوداء.. وأفكار أولئك الَّذين…

الرَّجل: (يكمل ساخرًا) الَّذين عاثوا في الأرض فسادًا.. وحرقوا المدن.. ومزَّقوا لحمة البلاد والعباد.

الشَّاب: لا تصرخ.

الرَّجل: (يرجع لوضعه) حفظناها.

صاحب العربة: سأغادر..(يصرخ) أنت لا تعيش معك ذبابة.

الشَّاب: لماذا تصرخ! (يرتجف).

صاحب العربة: (للشَّاب) هل تأتي معي.. إلى مكان أنقى من هذا المكان؟

(يذهب صاحب العربة يمشي ببطء.. ويتبعه الشَّاب راكضًا).

الشَّاب: انتظر انتظر..(يجمع حقائبه..ولكنَّه يتركها ليركض خلفه).. دعنا نبحث عن مكان آخر.

(يدخل ضخم الجثَّة ليسحب العربة إلى الخارج).

(يخرج الرَّجل من بيته يجد الضَّخم يعود أدراجه.. وبعد خروج الضَّخم..يخرج من البيت.. ويرمي خلفهم حجرات).

الرَّجل:اذهبوا من هنا.. اذهبوا.. وهذه سبع حجرات خلفكم أرميها.. حتَّى لا تعودون مرَّة أخرى.

(موسيقى وإظلام)

 

(يظهر لنا صاحب العربة خلف السِّتارة الخلفيَّة ظلًّا..يخاطب نفس الوجوه الجامدة.. الصُّورة تتكرَّر عن قصد).

صاحب العربة: هنا تُكشَف حقيقة أنَّ هذا الجسد فانٍ.

المجموعة: أوووه.

صاحب العربة: وأنَّ قيمة الإنسان مرهونة بعمله.

المجموعة: أوووه.

صاحب العربة: اتركوا هذه الأرض فهي المتاع والغرور.

المجموعة: أوووه.

صاحب العربة: لن أتنازل.. ولن أُحبط.. ولن أحبط.

المجموعة: أوووه.

صاحب العربة: وسأعضُّ بأسناني على قضيَّتكم.

المجموعة: عض.. عض.. عض..عض..عض.

صاحب العربة: أعضُّ بأسناني لأنَّها هي السِّلاح الوحيد الباقي.. وهي أقوى حتَّى من دعس خيولكم.

المجموعة: (يقفون صفًّا كأنَّهم يكرّون خيولًا).

صاحب العربة: فأهلًا أهلًا.

المجموعة: أهلًا بك.

صاحب العربة: أهلًا بما مقدَّر لي.. إنَّها خطوة للعضِّ بأسناني على قضيَّتكم.

(يسحبه ضخم الجثَّة ويخرجه مع المجموعة لأوَّل مرَّة من الظِّلال إلى الحقيقة).

المجموعة: أعد.. أعد.. أعد.

صاحب العربة: إنَّها خطوة للعضِّ بأسناني على قضيَّتكم.

(المجموعة يضربونه لكمات متتالية.. ثمَّ يضربونه في كلِّ مكان).

صاحب العربة:آآآآآآآخ.. (يبصق أسنانه) أثناني.. أثناني.

(يسقط على الأرض..تسحبه المجموعة).

(انتقالة بالضَّوء).

 

(يدخل الشَّاب وهو يزحف على أربع.. لخيمته.. ويتبعه صوت كلب).

الشَّاب: لم أكن أتوقَّع أن يقطع طريقي كلبٌ بهذا الحجم.. كلبٌ ذئب.. آه..العطش فتك بي.. أحسُّأنَّه أخذ من قواي الكثير.. وصاحب العربة.. مازال ينفخ في قربة مثقوبة بخطابات لا طعم لها.. ولم تأتِ بنتيجة.

الشَّاب: (يقترب من البيت) ما السِّر في عدم موافقة هذا الرَّجل على دخولي البيت.. ربَّما يخبِّئ أشياء وأشياء.. وما دخلي؟ لو أنَّه خبَّأ أسلحة كيمياويَّة.. أو حتَّى قنبلة ذرِّيَّة.. ما دخلي أنا؟ أنا أبحث عن مأمن..مكان يأويني.. وحسوة ماء ترويني.

(يقترب من باب البيت الَّذي يدفعه لكنَّه مغلق..يبحث عن سلك.. يدور حتَّى يجده.. يحاول فتح الباب.. ويفتحه.. فيدخل الشَّاب..ينفتح ضلع من البيت.. فنجد الرَّجل نائم وقربه زجاجة فيها رماد.. وهناك بندقيَّة معلَّقة على الحائط.. الشَّاب يتعثَّر بالزُّجاجة الَّتي تتدحرج.. يفزُّ الرَّجل من نومه ويهرب الشَّاب.. بينما الرَّجل يهرع للحائط ويتناول البندقيَّة.. ويبدأ بالبحث عن اللِّص.. الرَّجل يسحب أقسام البندقيَّة الَّتي لا تستجيب).

الرَّجل: مَنْ؟ من أنت؟ تقدَّم.

الشَّاب: (مختبئ.. فقط نسمع صوته) أخرج ما عندك وإلَّا ستلقى حتفك.

الرَّجل: (يضحك) إذا كنت لصًّا فقد جئت للمكان الخطأ.. فلا شيء هنا.

الشَّاب: أموال.. أسلحة.. هيَّا.

الرَّجل: (يضحك ويمسك بطنه) بطني.. بطني.

الشَّاب: ماذا تخبِّئ بالبئر؟

الرَّجل: الماء.

الشَّاب: أنا لا أمزح.. تكلَّم.

الرَّجل: طائرة.. (يضحك).

الشَّاب: يبدو أنَّك لا تريد أن تعترف.. حياتك على كفِّ عفريت.

الرَّجل: وأنت علاء الدِّين.. (يضحك).

الشَّاب: تكلَّم.

الرَّجل: أنت اخرج وسترى هذه البندقيَّة كيف تطرِّزك بالرَّصاص.

(الشَّاب يهجم عليه من الخلف.. وتنشب بينهما معركة مصمَّمة حركيًا لنجد البندقيَّة بيد الشَّاب).

الرَّجل: هذا أنت!

الشَّاب: أعطني ماء.

الرَّجل: اذهب واشرب..قطعت نَفَسي.

الشَّاب: ما هذه البندقيَّة؟ من أي متحف سرقتها؟

الرَّجل: لم أسرقها.

الشَّاب: فكيف حصلت عليها؟

الرَّجل: إخوتي أرسلوها لي.. قالوا ما دمت تحارب وحوشًا ضارية.. فخذ هذه البندقيَّة.. دافع بها عن نفسك.

الشَّاب: (يسحب أقسام البندقيَّة ولا تستجيب) لكنَّها لا تعمل.

الرَّجل: هم هكذا أعطوها لي.. ولكن دون عتاد.

الشَّاب: دون عتاد؟ معقول؟

الرَّجل: وحين أرسلوا لي عتادها.. وجدته فاسدًا.. وبهذا خسرت الحرب في الحصول على إخوة..(يستغرقان بالضَّحك).. ففضَّلت أن أعلِّقها على الحائط.. ذكرى لخيبتنا في ضياع أخوَّتنا.

الشَّاب: (يذهب لشرب الماء).

الرَّجل: ماذا توقَّعت أن تحصِّل داخل هذه الخربة؟

الشَّاب: قلت.. لشدَّة حرصك عليه.. ربَّما يكون فيها ما يغري.. من أسرار ومقتنيات.

الرَّجل: فماذا وجدت؟

الشَّاب: لا أسرار ولا مقتنيات.

الرَّجل: بل أنا أكثر ربحًا منك في الحصول على عزلة.. عزلة أبعدتني عن النَّاس وحفظتني من المكاره.. لكنَّها جعلتني أكره نفسي.. شعور بسجنها.

(نسمع صراخًا ولغطًا قادمين من الكواليس).

الرَّجل: لابُدَّ أنَّه صاحب العربة.. وقد عاد إلينا بصيد ثمين.

الشَّاب: أتعب حنجرته.. فهو مازال يعيش في سراب التَّاريخ.

الرَّجل: لا..بل هو يبحث في المزابل عن موقف نبيل.

(يخرجان فنجد صاحب العربة المحطَّم وكما شاهدناه في أخر مرَّة.. لكنَّه هذه المرَّة فقد أسنانه.. وأنقلب الكلام لديه.. نجده جالسًا في عربته.. وضخم الجثَّة يدفعه ومعه المجموعة تحيط به).

صاحب العربة: (يخطب) اثمعوني جيِّدًا…

المجموعة: أممم.

صاحب العربة: إنَّ اثترداد القيم الحقيقيَّة لا يمكن الحثول عليها إلَّا من خلال الثِّباق في التَّضحية.

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: وهم وإن كثروا أثناني..الَّتي قلت لكم ثأعضُّ على القضيَّة بها…

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: إلَّا أنِّي.. ومن ثياق فعلي…

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: وقوَّة ثولتي عليهم…

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: فإنَّ لثاني…

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: ماذال..يثتنطق من ثمات الرُّجولة ما يثتطيع.

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: فهذا اللِّثان…

المجموعة:أممم.

صاحب العربة:ثيفضحهم.

المجموعة:أممم.

صاحب العربة: ونثتمر جميعًا لنكون على ثولة الحق.. قادرون.. (يخنقه أحد المجموعة من خلفه).. حقوقكم.. حقوقكم.. حقوقكم…

(صاحب العربةيتدلَّى لسانه.. ويخرج الضَّخم مقصًّا.. يضعه على لسانه.. ونسمع صرخة وسط الظَّلام.. مع الموسيقى المتصاعدة..نجد صاحب العربة مدمى الحلق.. لانسمع من صوته سوى الأنين).

(الرَّجل والشَّاب ينظران بخوف لما يجري وهما يذهبان الأوَّل باتِّجاه بيته والثَّاني لحقائبه).

الشَّاب: هل رأيت؟

الرَّجل: لم أرَ شيئًا.

الشَّاب: هل سمعت؟

الرَّجل: لم أسمع شيئًا.

الشَّاب: قل شيئًا.

الرَّجل: لا أقول شيئًا.

(الرَّجل والشَّاب يلتقيان).

الرَّجل: هل رأيت؟

الشَّاب: لم أرَ شيئًا.

الرَّجل: هل سمعت؟

الشَّاب: لم أسمع شيئًا.

الرَّجل: قل شيئًا.

الشَّاب: لا أقول شيئًا.

(نجد الشَّاب يحمل حقيبتيه..والرَّجل زجاجة الرُّفات وصرَّة ملابس والبندقيَّة).

الشَّاب: لا مكان لنا في مكان تُسمل فيه العيون.. وتُقطع فيه الألسن.

الرَّجل:خذني معك.

الشَّاب: والبيت؟

الرَّجل: وتُسمّي هذه الخربة بيتًا؟ اللَّعنة على هكذا بيت.

(يتوقَّف الرَّجل.. ويرمي السِّلاح عند مقدّمة المسرح.. ويخرجان من المسرح).

(يعود صاحب العربة للخطاب بصوت مبهم.. ويختم كأنَّه يقول).

صاحب العربة: والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

* محمود أبو العباس (الشَّارقة – يناير 2015)

 

ملاحظة جد هامة: 

كل من يتصدى لإخراج هذا النص يجب ان يحصل على موافقة الموقع في شخص مديرته (بشرى عمور) تحديدا

فالرجاء الاتصال على:

الهاتف/ الواتساب: 00212665069189

الأيميل: alfurja.com@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت