كتاب الخميس (الحلقة الثانية والخمسون) / عرض و قراءة: محمد محسن السيد
**************
البنيوية التكوينية واشتغالاتها المسرحي
قراءة في كتاب (البنيوية التكوينية في النص المسرحي العراقي
تنفرد بعض البحوث بتفردها على مستوى الموضوع حيث نجد ان الباحث يشير الى موضوع لم يشر اليه الا نادرا . مما يفرض استحقاقا علميا بالتعريف به وتسليط الضوء عليه ويقف – وبجدارة – البحث الموسوم (البنيوية التكوينية في النص المسرحي العراقي) للباحث عبد الجبار حسن عيسى ليكون مثالا تطبيقيا لما ذكرنا في اعلاه والصادر عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع 2023 بغداد .
وكما هو متعارف جاء الكتاب بمقدمة وفصلين توزعت على صفحات الكتاب الـ(274) صفحة من حجم المتوسط . حيث جاءت المقدمة التي كتبها الدكتور ثائر بهاء كاظم قصيرة نسبيا . وفيها سلط الضوء على التعريف بالبنيوية التكوينية وجهود المفكر الفرنسي (لوسيان غولدمان) في التاسيس لها ، ومما جاء فيها:
(والدراسة الحالية -التي بين ايدينا – تسعى لاستقراء البنيوية التكوينية بوصفها افقا يساعد على مواصلة تعميق اسس الادب والنقد بارتباطها مع الاسئلة الضرورية الملحة ، بعيدا عن الاختزال وعن تكرارية الخطاب الايدلوجي المبدئي) .
وحول التعريف بها .(اعني البنيوية التكوينية) يقول كاتب المقدمة: (البنيوية التكوينية: هي منهجية تحاول البحث عن العلاقات الرابطة بين الاثر الادبي وسياقه الاجتماعي . الاقتصادي الذي سبق تكوينه ولا ينظر الى هذه العلاقات على انها مجرد تساوق او تواز بسيط بين بنية الاثر الادبي وبين شروط انتاجة الاجتماعية ، والاقتصادية ، وانما يعتبرها اندماجا تدريجيا من سلسلة من الجمل أو الكليان النسبية) . مؤكدا على القول:
(إن الفكر او اي اثر ابداعي لا يكتسي دلالته الحقيقية الا عند اندماجه بنسق الحياة او السلوك . بل سلوك الفئة الاجتماعية التي ينتمي اليها الكاتب بالضرورة). ومشددا على القول:
(ولا يتضح تكوين الاثر الادبي من العلاقة بين مضمونه ومضمون الوعي الجماعي ، ولكن باقامة العلاقة بين البنيات الدلالية المنتزعة بواسطة القراءة التفسيرية وبين البنيات الذهنية المكونة للوعي الجماعي لفئة او طبقة اجتماعية) .وخلاصة القول في كل ما تقدم انها فلسفة متكاملة ذات منظور نقدي يتجاوز سلبية النقد الى استشراق ايجابية تنسجها الجدلية القائمة بين الذات والموضوع …فداخل كل بنية توجد بذزة نافية لها ، بذرة تؤشر على ما ستكونه ، اي بديلة تبني على يؤسس بنيات جديدة ويلغي البنيات القائمة . فالبنيوية التكوينية بوصفها كلية الظواهر وترابطها ، تنطلق من نقد الواقع القائم الناقص من زاوية استحضار ما يتكون عبر الجدلية المحايثة . اما بخصوص الاجراءات التكوينية فذكر:
(تحدد الاجراءات التكوينية في مجموعة من الادوات والمبادئ التي تطبق على جميع النصوص الادبية ومنها النصوص المسرحية).
اما الفصل الاول من هذا الكتاب القيم فقد حمل عنوان ( مبادئ البنيوية التكوينية وانساقها المرجعية وفيها يعرف الباحث وبشكل مسهب بالتعريف بالبنيوية التكوينية ومسارها التاريخي واهم رجالاتها وجهودهم الكبيرة في تطورها ودفع عجلتها الى الامام خاصه فيها يخص البنيويه واشتغالات المفكرين ( كلود ليفي شترواس ورولان بارت وميشيل فوكو وجال لاكان) بوصفهم قوة حديدة ذات شان كبير في مجلات البحث والتقصي عن كل ماهو حديد ومستحدث والذين مهدو البروزيا يسمى بـ(البنيويه) . وفيها يخصها يؤكد الباحث على القول: ( البنيوية هي المشروع الاساسي الذي افرزته الحداثه) دون ان ننسى المقدمات لها، والتي تمثلت في الشكلانيه الروسيه والنقد الجديد واساليبه في الولايات المتحدة الامريكيه بشكل عام) . والمعروف ان هذه المناهج هي التي منحت القارئ النص فرصه التقاء ثقافتيهما واولن القارئ جل عنايتها في تلقي النص، على وقف ثقافته عبر نزوعه المعرفي والثقافي، كما بنيت البنيوية على الفلسفة وخاصيه الضاهرايتة ، التي منحت الذان دورا في تلقي المعنى، اذا لم يعد المعنى يشكل نقطة مركزية ،وانما اصبح يتشكل من خلال التقاء ثقافة النص بثقافة القارئ . اما بخصوص التعريف بالبنيوية فقد جاء مانصه: (البنيوية هي نسبة الى كلمة بنية التي الماخوذة من الكلمة اللاتينية. (strucre) والتي تعني بناء، وقد ارتبطت المدرسة البنيوية باللساني السويسري(فردينا نددوسوير) بعد عودته المشهورة الى التمييز بين الدراسات التعاقبية والدرسات التزامنية وتشديده على مفهوم البنية والنظام في اللغة)، مستمرا في توضيحه معالم البنيوية والتعريف بها قائلا:
(البنيوية حركة فكرية واسعة النطاق تحلل الظواهر الثقافية وفقا لميادين مستمدة من علم اللغة، وهي كاختصاص اكاديمي او مدرسة فلسفية بدات حوالي ستينات وسبعينات القرن الماضي وتقوم على دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الاساسية المكونة لبنى يمكن ان تكون عقلية مجردة، ام لغوية ، ام اجتماعية ثقافية). ويستمر الباحث في تبيان المسار التاريخي. للبنيوية بالقول:(برزت البنيوية في بداياتها في مطلع القرن التاسع عشر لكن سطع نجمها في منتصف القرن العشرين، حتى لاقت تساوقا منقطع النظير مخترقة جميع انواع العلوم والاختصاصات) مستمرا بالقول:( … تعود البنيوية كنهج ومذهب فكري على انها ردة فعل على الوضع (الذري)من ذرة اصغر اجزاء المادة الذي ساد العالم في بداية القرن العشرين) وحول علاقتها بالعلوم الاخرى يذكر الباحث: (ظهرت البنيوية -ولعلها و ازالت – كمنهجية لها ايجاءاتها الايدلوجية مع انها تسعى لان تكون منهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام ايماني جديد من شانه ان يفسر علميا الظواهر الانسانية علمية كانت او غير علمية . مشددا على القول: (من هنا كانت البنيوية ان ترتكز مرتكزا معرفيا (ايستمولوجيا)استحوذ علاقة الذات الانسانية بلغتها وبالمكون من حولها على اهتمام الطرح البنيوي في عموم مجالات المعرفة ،الفيزياء ،الرياضيات ، والانثربولوجيا ، وعلم الاجتماع ،والفلسفة والادب)اما بخصوص البنيوية كمعرفة فنراه يقول:(… وبوصفها معرفة فانها اكدت على كون (العالم)حقيقة واقعة يمكن للانسان إدراكها ، ولذلك توجهت البنيوية توجها شموليا اندماجيا يعالج العالم باكمله، بما فيه الانسان ، بوصفها نموذجا لغويا ومعنى فلسفيا كونها تهتم بتعقيد الظواهر وتحليل مستوياتها المتعددة في محاولة للقبض على العلائق التي تتحكم بها ، وهذا ما يجعل من البنيوية منهجا لا فلسفة ، وطريقة وليس ايدلوجيا ، اي بختصار، ما يجعل منها علوما كثيرة تهتم باستخراج المستويات وبخصوص فشل الموضوع البنيوي في اثارة النص وتفسيره ، وتحقيق معناه الى سببين:
الاول: هو تلك المحاولة الصوفية لرؤية العالم من خلال حبة فاصولياء واحدة كما يقول مفكرو البنيوية . لقد طور البنيويون نموذجا للتحليل على غرار النموذج الاصغر وبعده النظام العام او النسق الاكبر . وهم في ذلك يتحركون من النماذج والنصوص الفردية في اتجاه النسق الاكبر او النظام ، … ان البديل البنيوي وهو النموذج اللغوي ، فشل في تحقيق الدلالة او المعنى لقد انشغلوا في حقيقة الامر ، بآلية الدلالة ونسوا ماهية الدلالة ، انهمكوا في تحديد الانساق والانظمة وكيف تعمل وتجاهلوا (ماذا يعني النص.(
الثاني: اكتشافهم بعد فوات الا وان ، ان النموذج اللغوي لا ينطبق بالضرورة على الانساق او الانظمة غير اللغوية ، وتحول البنيويون في نهاية الامر الى سجناء اللغة .
وفيما يخص البنية و الدلالة يؤكد الباحث قول(غولدمان):(ان لكل بنية دلالة ، وان هذه الدلالة نتاج ذات فاعلة ومحققة لوظيفة ،إذا حذفنا الذات واستبعدنا الوظيفة ، دمرنا البنية وحولناها الى حجر ونسق جبري مغلق).
وفيما يخص السيميائية والبنيوية ، يذكر الباحث مايلي: (…اذا كانت البنيوية قدرات الشمولية في الادب والثقافة ، فان السيميائية لم ترفيها سوى شفرة او مجموعة ستن متفق عليها ضمن مستوى ما ، دون ان يكون ثمة اتفاق على ابعادها العميقة ، ان القراءة السيميائية على عكس القراءة البنيوية التي ترى ان النظام مؤطر لمعنى ما ، ترى ان النظام يظل محدد بسبب من اتساعه وتعذر احتوائه الى الابد ، ان القراءة السيميائية لا تلغي القراءات السابقة عليها ، وان كانت تفيد منها وتحتويها ،فهي بتركيزها على قراءة اعماق الدال ، بحثا عنه الانظمة الدلالية للشفرات والعلامات وطرق إنتاج المعنى لتفتح المجال واسعا لفعاليات القراءة ، وحفز الطاقة التخيلية لدى القارئ ، ليشارك بفكره وثقافته في ابداع النص من خلال كشف مخبوءه ، وتفتيق دلالته).
وحول التمييز بين النظام اللغوي والحدث الكلامي نقرا: (فالتمييز بين النظام اللغوي والحدث الكلامي تمييز النظام اللغوي. المجرد الذي نسميه – اللغة – والتفوهات الفردية التي يطلقها الناطقون باللغة في مواقف حياتهم العملية التي نسميها -الكلام – ، ويجري(سوسير) تمييزه بالقياس على التمييز بين مجموعة القوانين والاعراف المجردة التي نسميها -الشطرنج – والممارسة العملية للعبة في العالم الواقعي . اللغة اذن انتاج اجتماعي لملكة الكلام ومجموعة اعراف ضرورية تبنتها مجموعة اجتماعية لتمكين الافراد من ممارسة هذه الملكة. ينتج من هذا ان الحدث الكلامي جزء صغير من الجبل الجليدي العائم فوق الماء . فالنظام اللغوي هو الكتلة الاكبر التي تستند الحدث الكلامي ويتضمنها الحدث نفسه ، عند كل من المتلكم والسامع ، والتي لا تظهر نفسها ابدا . اللغة غير ملموسة ولا تظهر مطلقا بكليتها ،انما تظهر فقط بالاداء غير الكامل لجزء من ذخيرة المتلكم الفرد ، وقد عرضت هذه الحقيقة منذ(سويسر) اتجاها مثمرا تحركت به اللسانيات الحديثة).
وهنا نصل الى موضوع(التزامن والتعاقب) من المعرف ان اسوسين كان يحذ دراسة اللغة باعتبارها ظاهرة متزامنة في مقابل الدراسات التي كان يقوم بها سابقوه من لغويي القرن التاسع عشر ،وهي الدراسات التي تناولت اللغة بوصفها ظاهرة متتابعة .
.. فالتزامن هو من الثنائيات التي طرحها (دي سويسر) وطورها البنيويون ثنائية(التزامن) و(التعاقب) ، فالتزامن هو زمن حركة العناصر فيما بينها في زمن واحد هو زمن نظامها داخل البنية … وكما يظهر في دخول وحركة الممثلين في زمن النص المسرحي . اما التعاقبي: فيمثل زمن تخلخل البنية او زمن تهدم العنصر الذي يعبر عنه احيانا بانفتاح البنية على الزمن ،وفق التعاقب باعتبارها متغيرات متحققة في اللغة ومتابعتها خلال الزمن وهنا نصل الى موضوع (اللغة والكلام) . والثابت ان اية لغة هي نظام نسق من الاختلافات ويؤكد (سوسير…)(ان ما يجعل كل عنصر لاية لغة ما يكونه، وما يمنحه كيانه ، هو التباينات بينه وبين العناصر اخرى داخل النظام في اللغة ومثال ذلك حركة القطارات من والى و موضعه في نظام القطار ولاشيء غيره). وحول اللغة والكلام يؤكد الباحث مانصه: (.. اللغة نظام ومؤسسة ومجموعة من القواعد والمعايير التواصلية، بينما يشتمل الكلام على التجليات الفعلية للنظام في فعلي النظام والكتابة او من اليسير الخلط بيت النظام وتجلياته . وان الفصل بين اللغة والكلام ليس الافضل لغايات الدراسة العملية ، ولكن العلاقة بينهما تمثل علاقة الكل بالجزء ، فاللغة هي الكل ، والكلام هو الجزء) . وهنا يعرج بنا الباحث الى انواع البنيوية ويلنها بما يلي:
البنيوية اللسانية: مع (دوسويسر) و(مارتنيه) و(جاكو بسنى) و(تروتسكي) و(رولان بارت) و(هوكيت) و(بلو مفليد) و(هلمسيف).
البنيوية السردية):رولان بارت) و(كلود بريمون) و(جيرارجينيت).
بنيوية الشعر: مع(جان كوهن) و(مولينو) و(جولياكريستيفيا) و(لوتمان).
التكوينية النصة (التي تدرس المخطوطات صورة مادية وتحل رموزها وهي وثائق الكتابة التي انتجها الكاتب وجمعها واحتفظ بها .
بنيوية السيموطيقية: مع(غريماس) و(فيليب هامون) و(جوزيف كورتيس).
البنيوية النفسية: مع (حاك لاكان) و(شارل مورن).
البنيوية الفلسفية: مع(جاك بياجيه) و(ميشيل فوكو) و(جاك دريدا) و(لوي التوسير).
وهناك البنيوية التكوينية والتوليدية وهي فرع من فروع البنيوية .
وهنا يمر الباحث بشيء من الايجاز على بعض ممن اعتنوا بالبنيوية وتبنوها في كتابتهم النقدية في منتصف السبعينات ، حيث اتضح الاهتمام بها من خلال بعض الترجمات ، وعدد من الدراسات لكل من: (خالدة سعيد ، ويمنى الحيد ، وكمال ابي ديب ، محمد برادا ، محمد بنيس ، وسعيد علوش ، وجابر عصفور ، وسيزا قاسم ، وحميد الحميداني ، وسعيد يقطين ، وغيرهم).
والذي يهمنا من هذه الانواع من البنيوية هي البنيوية التكوينية . عنوان ومحور بحثنا . وفيه نقرا:(… ان البنيوية تستند الى مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الاجرائية في عملية الوصف والملاحظة والتحليل وهي اساسية في تفكيك النص وتركيبه كالنسق والنظام والبنية والعناصر والشبكة والعلاقات والثنائيات وفكرة المستويات وبنية التعارض والاختلاف والمحايثة والسانكروتية والدياكرونية والدال والمدلول والمحور التركيبي والمحور الدلائي والمجاور والاستبدال والفونيم والمروفيم والمونيم والتفاعل ، والايحاء ، والتمفصل المزدوج .. الخ).
وقد اشتغلت هذه المفاهيم فيما بعد على كثير من المناهج النقدية ، ولاسيما السيموطيقيا الادبية والانثربولوجيا والتفكيك والتداوليات وجمالية القراءة والاسلوبية والموضوعية). ومن المعروف ان البنيوية قد استندت الى علم اللغة وانموذج(دي سوسير) اللغوي والسيميائية اعتمدت اللغة بوصفها نظاما اثاريا ، فالادب لديها شفرة او عرف او مجموعة من السنن ، وجميعها تعاملت مع النص المسرحي كمنتج ادبي) . والبنيوية في النقد الادبي ثمرة من اثمار التفكير الالسني واثاره في العلوم الانسانية المختلفة .
ويرى(ليفي شتراوس) ان البنيوية مجرد طريقة او منهج يمكن تطبيقه في اي نوع من الدراسات .
وتحت عنوان(البنيوية التكوينية وانساقها المرجعية) نقرا:( واجهت البنيوية وبعد عقود على نضوجها وظهورها في الساحة الادبية والنقدية . بعض الانتقادات والاعتراضات من قبل النقاد والمشتعلين بالادب ، اذ عابوا على المنهج البنيوي خلعه للاعمال الادبية من جذورها والاهتمام بتحليل العمل الفني تحليلا داخليا فحسب ، ومن هنا كان لابد من ظهور اتجاه جديد يجمع في تفسيره للعمل الادبي بين التحليل الداخلي للنص الادبي(المنهج البنيوي( وبين دراسة العوامل المادية والتاريخية والاجتماعية وتاثيرهما على النتاج الادبي ، وعُرف هذا المنهج الجديد بـ(البنيوية التكوينية) … فالبنيوية التكوينية تسعى لاعادة الاعتبار للعمل الادبي والفكري في خصوصيته بدون ان تفصله عن علائقه بلمجتمع والتاريخ). ويستمر الباحث في توكيده على مانصه: (.. ان البنيوية التكوينية فلسفة متكاملة ذات منظور نقدي يتجاوز (سلبية النقد) الى:
اولا: استشراق ايجابية تنسجها الجدلية القائمة بين الذات والموضوع ، تلك الجدلية الممثلة لجوهر كل علم تكويني .
ثانيا: داخل كل بنية توجد بذرة نافية لها ، بذرة تؤشر على ما ستكونه ، اي بداية تبنين يؤسس بنيات جديدة ويلغي البنيات القائمة .
ثالثا: البنيوية التكوينية في اعتبارها لكلية الظواهر وترابطها ، تنطلق من نقد الواقع القائم الناقص ، من زاوية استحضارها ما يتكون عبر الجدلية المحاثية .
وحول ثنائية خارج النص وداخله نقرا: (تسعى البنيوية التكوينية لتحاوز مفهوم البنية المغلقة للنص ، ومحاولة ربطه بسياقه الاجتماعي ، من خلال تاكيد العلاقة الجدلية بين خارج النص وداخله ، وهي هنا تنطلق من فرضية تقول: إن كل سلوك بشري هو محاولة لتقديم جواب دلالي على موقف معين ، وغايتها خلق توازن بين الذات الفاعلة وبين موضوع الفعل اي العالم المكتنف بها . هذا الاتجاه نحو التوازن يحافظ دائما على طابعه المتبدل والمؤقت ، بحيث ان كل توازن مقبول نوعا ما بين البنيات الذهنية للذات والعالم الخارجي ، بهدف الى موقف يُفيد اثناءه سلوك البشر العالم ، وان هذا التغير يجعل التوازن كلا كافيا ، ويولد نزوعا نحو التوازن جديد ، سوف يتم تجاوزه ايضا .
والثابت ان منهج البنيوية التكوينية يجمع في تفسيره للعمل الادبي بين المناهج السوسولوجية التقليدية ، التي تهتم بدراسة مضمون العمل الادبي ، وتربطه بواقع اجتماعي ساهم في افرازه وبين المنهج البنيوي الذي يهتم بدراسة الشكل من خلال تحليل بنية العمل الادبي ، والكشف عن مدى التجانس بين عناصره الداخلية ، بعيدا عن المؤثرات الاجتماعية والتاريخية الخارجية ، اما كيف تناول (جولدمان) النص الادبي بوصفه(بنية ابداعية) فنقرا: (تناول -غولدمان – النص الادبي بوصفه – بنية ابداعية- متولدة عن بنية اجتماعية، وذلك من منطلق التسليم بان كل انواع الابداع الثقافي تجسيد لرؤى العالم متولدة عن وضع اجتماعي محدد لطبقة او مجموعة بعينها ، والواقع ان مبدا التولد مبدأ اساسي في منهج (غولدمان . ويؤكد غولدمان انه يجب قبل بحث العلاقة القائمة بين اي عمل ادبي والطبقات الاجتماعية القائمة اثناء كتابة العمل ، يجب فهم العمل الادبي باعتباره عالما ملموسا ابدعه الكاتب ، ويتحدث الينا من خلاله). ثم يستعرض الباحث لجهود المفكرين(التوسير) و(لوكاش) و(باختين) و(ليري انغلتن) و(لاكان) و(فرويد) و(بياجيه) و(باسكال) و(ماركس) و(جاك دوبوا) و(جون هال) و(بيير بورديو) واراءهم فيما يخص البنيوية .
وهنا نصل الى الفصل الثاني من هذا الكتاب والذي حمل عنوان(البنيوية التكوينية واشتغالاتها في النص المسرحي) من المعلوم ان (لوسيان غولدمان) حدّد مجموعة من الاجراءات التكوينية من الادوات والمبادئ والاجراءات التي تطبق على النصوص الادبية بكل إجنانها ، وقد حاول العديد من النقاد ان يطبقوا هذه الاليات(الاجراءات)على النصوص الادبية بشكل عام ، والنصوص المسرحية بشكل خاص ، كون البنيوية التكوينية تعتمد على ادوات اجرائية تصب اهتمامها على دراسة البنية الفكرية والمجتمعية للنص المسرحي ، لغرض الكشف عن درجة تمثل النصوص المسرحية لفكرة المجموعة الاجتماعية التي ينتمي لها كاتب النص المسرحي ، وحول ما يسمى بالنقد التكويني يؤكد الباحث مانصه: (ينطلق النقد التكويني من مقولة تعبر عن امر واقع مفاده ان النص النهائي لعمل ادبي ما ، هو مع بعض الاستثناءات النادرة جدا ، محصلة أي استثناء تدريجي وتحول يظهر في فترة زمنية منتجة ، كرسها المؤلف لكي يبحث مثلا عن الوثائق والمعلومات وتحضير نصه ، ومن ثم كتابته والتصويبات التي يدخلها عليه مرة تلو مرة) . مشددا على القول: (… يتخذيتخذ النقد التكويني موضوعه من هذا البعد الزمني للنص في حالة تولده ، وهو ينطلق من فرضية مؤداها: ان العمل الادبي عند اكتماله المفترض ، يظل حصيلة تكونه ، ولكن من البديهي ان تكّون العمل الادبي ، كما يصبح موضوع دراسة ، لابد ان يكون قد ترك في هذا العمل اثارا ، فهذه الاثار المادية هي التي يكرس النقد التكويني نفسه لاعادة كشفها وايضاحها).
وفيما يتعلق بالاجراءات التكوينية التي تعد المقاومات الاساسية التي تعطي للعمل الادبي والفني وحدته او بنيته الدلالية ، صلة بين تلك الوحدات (العناصر)، وفق منظور الطبقات الاجتماعية والبنية الذهنية وإطارها الاجتماعي والاقتصادي في مرحلة تاريخية ، تاريخ المجتمع الذي نشا فيه النص المسرحي ، بوصفه عمل فردي ، وكذلك هو اسهام لفهم التاريخ العام والشامل ، وهو ليس وقائع شخصية، بل وقائع اجتماعية يبسطها الكاتب عبر نصه، وتستجيب بصورة واضحة لبنية إحدى الايدلوجيات او الطبقات الاجتماعية الموجودة في الواقع بالضرورة . وهذه الادوات والاجراءات التكوينية كما ياتي:
اولاً: رؤية العالم: ولدى(غولدمان) ان رؤية العالم ليست احداثا فردية ، بل احداثا اجتماعية ، وهو هنا لايردد مقولة رؤية العالم في معناها التقليدي ، الذي يشبهها بتصور واع العالم ، تصور ارادي مقصود ، بل هي عنده الكيفية التي يحس فيها وينظر فيها الى واضع معين ، او النسق الفكري الذي يسبق عملية تحقق النتاج ، ان ماهو حاسم ، ليس هو نوايا المؤلف بل الدلالة الموضوعية التي يكتسبها النتاج بمعزل عن رغبة مبدعه واحيانا ضد رغبته . يرى (غولدمان) في منظور مادي جدلي ان الادب والفلسفة من حيث انهما تعبيران عن رؤية العالم في مستويين مختلفين . فان هذه الرؤية ليست واقعة فردية بل واقعة اجتماعية تنتمي الى مجموعة او الى طبقة ، وتبعا لبرهتنه هذه ، فأن رؤية العالم هي وجهة نظر متناسقة و وحدوية حول مجموع واقع وفكر الافراد والذي يندر ان يكون متناسقا ووحدويا باستثناء بعض الحالات .
وباختصار فان رؤية العالم هي تلك الفلسفة التي ينظر بها طبقة اجتماعية الى العالم والوجود والانسان والقيم ،وتكون مخالفة بالطبع لفلسفة او رؤية طبقة اجتماعية اخرى، فمثلا رؤية الطبقة البرجوازية للعالم يختلف عن رؤية الطبقة البروليتارية ، رؤية شعراء التيار الاسلامي مختلفة جذريا عن رؤية شعراء التيار الاشتراكي في ادبنا العربي المعاصر .
وهذا الطرح يقترب جدا مما يسمى في الفكر الاسلامي بـ(الرؤية الكونية) وهي تعني النظم الفكرية والعقائدية التي يحملها الانسان ليفسد الحياة في مختلف مجالاتها . وهنا يستعرض غولدمان بعض مما تناوله من نماذج تطبيقية مسرحية عالمية كالكاتب الاسباني(اليخاندرواكاسونا) التي تنظم دائرة مقاومات مسرحه على الترابط بين الابطال الثلاثة: الله والموت والحب ، والكاتب النرويجي(إبسن) حيث قام (غولدمان) من ايجاد العلاقة البنيوية بين نصوص هذا الكاتب ورؤية العالم من خلال المجال الاجتماعي طبقة النبالة الشرعية) والمجال الديني(مذهب الجنسينية) حيث ان كل منهم يتجاوب بنيويا مع الاخر ، على اساس المقولات المتكررة:(الله – الانسان – العالم).
والخلاصة ان(غولدمان) يرى بان الطبقات الاجتماعية هي التي تكون البنية التحتية(الرؤية للعالم). ويرى الباحث ان مصطلح رؤية العالم هو اكثر المصطلحات للتعبير عن العلاقة بين الادب والمجتمع ، حيث رفض(غولدمان) الفكرة التي ترى في النصوص الادبية إبداعات لعبقرية فردية الكاتب . وذهب الى ان هذه النصوص تقوم على ابنية عقلية تتجاوز الفرد وتنتمي الى جماعات او طبقات اجتماعية محددة ، ينتمي اليها الكاتب فكريا . واخيرا فقد عرفها (غولدمان) :(رؤية العالم هي بالتحديد هنا مجموعة من التطلعات والاحاسيس والافكار التي توحد اعضاء مجموعة معينة وفي الاغلب طبقة اجتماعية وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الاخرى) .
ثانياً: البنية الدلالية:
والمعروف ان البنية نظام تحويلي، يشتمل على قوانين ، عبر لعبة تحولاته نفسها ، دون ان تتجاوز هذه التحولات حدوده ، او تلجأ الى عناصر خارجية . وتشتمل البنية على ثلاثة طوابع هي: الكلية ، التحول ، التعديل الذاتي .
وتعني الكلية التماسك الداخلي ، اذ يكون انتظام الكيانات كاملا بنفسه وليس تجميع لما يمكن ان تكون عناصر مستقلة بدونه . ويرى الباحث ان البنية الدلالية هي بالدرجة الاولى مجموع التيارات الفكرية والعاطفية (ماندعوه بوعي الجماعة) (وعي الطبقة الاجتماعية التي تمثل منظومتها الفلسفية ، او اعمالها الادبية اقصى حد في الانسجام . لا يمكن لوعي المجموعة الاجتماعية ان يفهم او يشرح كليا الا بقدر ما ندخله ضمن اكبر مكون من مجموع الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والايدلوجية . ان مقولة )البنية الدلالية)ناتجة عن معطيات سابقة لـ(غولدمان)تقف وراء اهتمامه لها فقد افاد من ماركس الذي شدد عليها من قبل ولا جدال في القول بان فلسفته هي القاعدة الذهبية التي يساند عليها (غولدمان) ، وقد افاد من لوكاش في معطياته المتمثلة بـ(الروح والاشكال) و(التاريخ والوعي الطبقي) التي امدته بمفهوم (البنية الدلالية) التي جاءت على هيئة اقانيم مشتركة ثلاثة في كتاباته الاولى ، وهذه الاقانيم هي:(الشكل والبنية الشمولية) وهي نفسها(البنية الدلالية) بتأكيد(غولدمان) نفسه ، فهي وان اختلفت بالتسمية تدل على المضمون ذاته .
والخلاصة: ان اي فرد لا يمكن يكوّن بنية دلالية ما لم تكن هذه البنية مندرجة ضمن البنية الشمولية للطبقة الاجتماعية التي هو منها . ويختار(غولدمان) )راسني) هذه المرة ومسرحيته (بايزيد) لما تتمتع به من دلالة خاصة ووحدة خاصة . اذ نجد فيها (اكومات) و(اوسنين) وهما شخصيتان من المسرحية وقد خرقا الحدود المحددة لعالم يعيش تحت التهديد والارهاب . فهما يلتقيان في مكان الوجوه فيه وحده يجرهما مسبقا الى الهلاك .
ثالثاً: الفهم والشرح:
ان كشف عمليتي التحليل والتفسير في البنيوية التكوينية تتعلق بعمليتي(الفهم والشرح) او التفسير ، فالاولى تتعلق بالتماسك الباطني للنص والثانية تدرج في البنية (ثابتة وشاملة)مباشرة . ويرى (غولدمان): ان عملية الفهم مشكلة تتصل بالتلاحم الداخلي للنص ، وهي مشكلة لن تحل الا بافتراض ان النص -كل النص وليس اي شيء سواه – هو ما يجب ان يؤخذ حرفيا ، وإن على المرء ان يبحث في داخله عن بنية دالة شاملة ، ومن هنا يتضح ان الفهم عملية خاصبة بالنص الادبي بعيدا عن اية مؤثرات خارجية(المجتمع – شخصية المبدع) ويتم فيها دراسة العمل الادبي بوصفها نسقا موجودا خارج ذات الكاتب وخارج ذات الناقد . وتحليل العناصر المكونة له واوجه الارتباط الداخلي بينها ، للوقوف على مدى تناغمها ، وقياس الكفاءة اللغوية والتخيلية لها . ومن هذه الزواية تعالج البنيوية التكوينية مشكلتين مهمتين:
اولهما: مشكلة العلاقة بيت تأويل الناقد والدلالية الموضوعية للنص الادبي ، بوصفها الغاية الاساسية التي يسعى اليها الناقد ، وفي هذا العدد يؤكد(غولدمان) على ضرورة عدم تجاوز النص الى خارجه باقتحام تاويل خارجي لا يقع في دائرة فهم النص .
ثانيهما: مشكلة العلاقة بين المقاصد الواعية للكاتب والدلالة الموضوعية للنص الادبي ، ويقصد بالمقاصد الواعية للكاتب افكاره الفلسفية او السياسية او الادبية .
ويرى (غولدمان) انه على الناقد اثناء فهمه للنص الا يتطرق فيلغي المقاصد الواعية ، فلا يتطرق فيبالغ في تاكيد هذه العناصر ، وانما يعالجها من منظور البنيوية التكوينية التي تلح على الدلالة الموضوعية للعمل الادبي من حيث كونها بنية معبرة عن رؤية العالم وليس رؤية فردية لمبدعه) . وعليه يمكننا القول – كما يؤكد الباحث- ان الشرح مميت الى بنية واسعة ، تشتغل في الدرس الاجتماعي على مستوى البنية الخارجية الاشمل، في حين تختص عملية(الفهم) بالبنية الداخلية للعمل الادبي ، لذلك فهي تشتغل على الدرس الادبي .
يقول(غولدمان)ان الشرح يتصل تحديدا بما يتجاوز نص العمل الادبي ، اما التفسير(الشرح) فانه ملازم لنص العمل الادبي ، ذلك لان فهم الظاهرة هو وصف بنيتها وعزل معناها ، اما شرح الظاهرة الا بانة عن تولدها على اساس من وظيفة تنطلق من ذات ، وعليه فليس الفهم والشرح عمليتين ذهنيتين مختلفتين ، بل هما عملية واحدة ، ولكل منهما اطاره المرجعي الخاص به ، وع ذلك يمكن التفريق بينهما من حيث ان الفهم يقصد به وصف العلاقات المكونة الاساسية لبنية دلالية .
وان الشرح يقوم على ادخال بنية دلالية في بنية اخرى اوسع تكون فيها الاولى جزءاً من مقوماتها . ان الحركة ما بين الفهم والتفسير (الشرح) لا تسير في اتجاه واحد وانما هي(حركة متعاكسة)مكوكبة ،مثلما هي دائرية ، فنحن ننطلق من الفهم الى التفسير ، ثم نعدل التفسير في ضوء الفهم ، الى ان نصل الى ادق ادراك لبنية العمل الادبي .
رابعا: الوعي الفعلي والوعي الممكن:
هما من المفهومات الاثيرة لدى (غولدمان) التي تشترك مع رؤية العالم، لتحديد حقل التبدلات المتوقعة في بنية اجتماعية ، وتحقيق شرط التوازن بين الفاعل في وصف احد مقومات الوعي الجمعي ، والعالم الخارجي المحيط به . يعرّف (غولدمان) الوعي على انه:
(مظهر مؤقت لكل سلوك بشري يتتبع تقسيم العلم ، وهو يدقق التعريف ذاهبا الى كلمة مظهر تتضمن دائما عنصر معرفيا مما يجعلنا نفترض في كل واقعة وعي، اي وجود ذات عارفة وموضوعا للمعرفة . وينص (غولدمان) على ان وقائع الوعي تاخذ شكلين متميزين رغم ما بينهما من تداخل وتجاوب وهما:
1-الوعي الفعلي: وينحصر في انه مجرد وعي سلبي بالحاضر ، وهو محصلة لتجارب سبق ظهورها في الماضي .
2-الوعي الممكن: وينشا من الوعي الفعلي ، ولكنه يتجاوزه الى الوعي المستقبل ، فالوعي الفعلي من وجهة نظر (غولدمان) وهي آني لحظي من الممكن ان يعي مشاكله التي يعيشها، لكنه لا يملك لنفسه حلولا لمواجهتا والعمل على تجاوزها بينما الوعي الممكن هو ما تطمح اليه طبقة اجتماعية بعد تعرضها لضغوطات مختلفة ، وهو مجرد امكانية ترتبط بالمستقبل ، فهو وعي ايدلوجي مستقبلي يتجاوز الوعي الفعلي المتكيف مع الواقع ، واضعا تصور التغير والتطوير ان المرادف الا مثل المصطلحي(الوعي الفعلي) و(الوعي الممكن) هو(الوعي الكامن)و الوعي المنطلق او المتفجر . ويعني الاول الوعي الكامن داخل الشخصية او المجموعة الاجتماعية بسلبيات الواقع ، وعدم القدرة على المواجهة والتقييد لوجود مقومات اجتماعية او سياسية ، واستناد الى مقولة: (ان الضغط يولد الانفجار) ، فان الضغوط السياسية والاجتماعية على الفرد والجماعة قد تؤدي الى خروج الوعي من مكونه وانطلاقه الى افاق التمرد على الواقع وتغيير الحاضر ليتحول الى وعي متفجر . ويصبح الوعي الممكن في كلية العمل الادبي من وجهة نظر (غولدمان) رؤية جديدة للعالم . واخيرا وعند الوقوف عند الوعي نجد انه:
الوعي: إدراك يخضع لمقاييس متداخلة الاختصاصات .
و(الوعي): تجاوز للاحباطات والحواجز في الواقع .
وكل (وعي) الا وهو نسبي ومشروط باللحظة التاريخية التي يجتازها .
والخلاصة: ان كل واقعة اجتماعية، هي من بعض جوانبها الاساسية ، واقعة وعي ، وكذلك كل وعي هو ، قبل كل شيء ، تمثيل فلائم لقطاع معين من الواقع .
وهنا يختار غولدمان(ماكبث) الشكيير مثالا للتراجيديا التي لا بد ان يصل يطلها في النهاية الى مرحلة الوعي الكامل بطبيعة ما سابة ، كما في المشهد الاتي:
ماكبث: قدري من هذه الانباء ليهزم رجالي جميعا، فما انا بخائف خيرا ، ما دامت غابة (برنم) لا تدنو من دنستيان ، او اخشى الفتي الناعم الا ظفار مالكو لم؟ الم تلده امرأة ، الم تقل لي الارواح العليمة بالغيب الا تخف يا ماكبث شيئا ما من رجل ولدته امراة يستطيع ايذاءك . اهربوا اذاً يا اتباعي الخائنين وانضموا الى اعدائي الانكليز لن ينحرف فكري ولن يضعف قلبي بعامل من الريب او باعث من الخوف .
بقي ان نذكر ان ظهور مفهوم (الوعي الممكن) الاقصى ،والوعي الفعلي يرجع تاريخيا الى كارل ماركس في عبارته التي ذكرها في كتابه(العائلة المقدسة) ، والتي شدد فيها على التفريق الضروري بين الوعي الفردي للعامل ، والوعي الطبقي للبروليتاريا (طبقة العمال).
خامساً: التماسك والانسجام:
تبلورت مقولة(التماسك) لدى (غولدمان) من خلال اطلاعه الوافي على مقولات متعددة منها ما وجد عند(لوكاتش) الذي وضع مقولة(الشمولية) التي تمثل عنده اشكالية العصر الحديث، ذلك الان العالم اصبح عالما واسعا جدا ، بحيث صار في كل اطرافه أغنى عن عالم الاخر يعيين القدامى بعطاءاته ومخاطره ، ان تماسك (لوكاتش) بمقولة التماسك هذه له غاية عظمى ، فهي ضرورية وملحة للانسان تساعده على تحديد مكانه في العالم المحيط به كي يعطي معنى محدد لحياته وما الشكل ، وهو من هذا المنظور ، الا وسيلة لتجاوز العشوائية والسير على غير هدى، اللذين يعاني منهما تجاه العالم .
وعليه لا تتحقق النظرة الشمولية ولا وجود لهذه النظرة الى الوجود ، الا اذا كان كل شيء متناسقا قبل اقبال الاشكال على استثماره ، وتبحث هذه الشمولية على تجمع اشتات العالم ، لذلك فهو بنيوي ، من حيث ان النظرة الشمولية تعني الكل داخل بنية منتظمة . ولهذا اكد(غولدمان) على ان البنيوية التكوينية تبحث عن(النسق) ولكنه مختلف عن(نسق) الشكلية ، وعليه فاي فكر لا يكتسي دلالته الحقيقية الا عند اندماجه في نسق الحياة او السلوك ، اي ضمن النسق المتماسك الذي ولد فيه ذلك الاثر او السلوك . ومن هنا فهو نسق يتمتع بصفات عدة اهمها الشمولية والانفتاح . والمعروف ان (غولدمان) جعل من مقوله(التماسك والانسجام) هذه الفكرة المهيمنة على اعماله جميعها وعلى منهجه البنيوي كي يثبت إمكانية قيام علاقة تربط الادب بالمجتمع ، وعليه لا يمكن تناول المبدع إلا يوصفه كلية متماسكة غير قابلة للتجزء . على ان هذه الكلية يجب ان تكون متماسكة ، والتماسك هنا يغدو معيارا جماليا اساسيا .
اي ان يعمل اجزاء المبدع بطريقة تتمكن بها ان تعطي المجموع دلالة ، فالحقيقة الجزئية لا تكتسب دلالتها الحقيقية الا بعلاقتها في المجموع ، وكذلك فانه لا يمكن معرفة المجموع الا عبر التقدم في معرفة الحقائق الفرعية . وخلاصة القول هنا ان مقولة التماسك تمثل ميزة من مميزات المنهج البنيوي التكويني فهي لا تعنى بوصف البنية الكلية للعلم الادبي ، والبنى الفرعية المكونة لها ، بل تسعى الى ربطها بالبنية الذهنية للجماعة، والتي يعبر بها هذا العمل عن رؤيتها للعالم ، وهي التي تحقق (التماسك) بمعناه الوظيفي ، وهنا يختار(غولدمان) الكاتب النرويجي (هنريك إبسن) كي يطبق رؤيته عليه فنصوص تسددها فكرتان اساسيتان الاولى هي الاهمية البالغة التي يوليها الفرد والشخصية ، فقد كان يرى في نمو الفرد ووعيه واغناءه ، الامل الوحيد في ايجاد مجتمع مستنير مثقف حقا ، والثانية هي ان الماساة (التراجيديا) الوحيدة التي يمكن حملها، والخطأ الوحيد والنهائي الذي يمكن ارتكابه هو إنكار الحب . وإبسن يعني بالعلاقات الاجتماعية التي تربط الفرد بالمجموعة كجزء لا يتجزء من انتماءه لها ، وهذا ما اوضحه (إبسن) في مسرحيته(ايولن الصغير).
وهنا نصل الى الفصل الاخير من من هذا الكتاب وعنوانه(نماذج تحليلية من مسرحيات عراقية): وقد اختار الباحث النماذج التطبيقية التالية:
1- مسرحية (ثمة من يلوح في الافق )لمثال غازي، وشخصياتها الشاب والدليل .
وتتحدث المسرحية عن موضوعة الناس والحرية والخوف والياس، جاعلا من المقولات الخمسة والتي هي: (رؤية العالم)، (البنية الدلالية) ،(الفهم والشرح) ،(الوعي الفعلي والوعي الممكن) ،(التكامل والانسجام) مادة للتحليل مطبقا هذه المقولات على كل نموذج تطبيقي من نماذجه المسرحية .
2-مسرحية ماكان وما دار بين ملك وما طار للكاتب عمار نغمة جابر وشخصياتها كثيرة وهي: خادم 1-خادم 2-وزير الامن – وزير راحة الملك شاب 1-شاب 2-المرأة رجل 1-رجل2-نائب1- نائب2- نائب3- نائب4- نائب5- نائب6- نائب7- الحاجب . وهنا لابد من التوكيد على ان النص المسرحي بصورة عامة يمثل بنية ابداعية متولدة من بنية اجتماعية .
وذلك من منطلق التسليم بان كل انواع الابداع الثقافي هي تجسيد لرؤى عالم متوالدة عن وضع اجتماعي محدد لطبقة او مجموعة بعينها ، فبنية اي نص ادبي ليست جامدة او تراوح في مكانها، بل هناك قوانين تتحكم بها لا تقوم بنياتها فقط ، بل تجعلها بنائية ايضا ، والثابت ان البنية وفق تصور التكويني ، خاصية لها سماتها المميزة لنشاط الفاعلية الخلاقة التي تصنع النسق وتخلق الانظمة في ممارستها الدالة .
لذا فان مصدر المرونة الاساس لكل بنية يرجع الى مرونة حركة عناصرها المتولدة داخل حركة النص المسرحي عموما والمتغلغلة في الفكرة والشخصية والزمن وتكوره والواقع . كما لا يخفى ان من اهم الخطوات التي تحكم النص المسرحي هو تحليله ، وانتاج معرفة بنيته ، اي كشف الدلالات واضاءة المنطق الذي يحكم البنية عمل مهم ، اضافة الى وضع الدلالات في موقعها. من سيرورة البنية الثقافية للمجتمع ، من حيث هي سيرورة البنية الاجتماعية نفسها ، عمل نقدي ايضا ، ومطروح على المنهج البنيوي النقدي التكويني ، وان الاختلافات بين شخصيات النص المسرحي عي المفتاح لاهميتها الدرامية . والمعلوم ان في كل نص مسرحي هناك حقائق فرعية (جزئية) لا تكتسب دلالتها الحقيقية إلا بعلاقتها في المجموع ، ولا يمكن الوصول الى مستوى معرفي للمجموع الا عبر التقدم في معرفة الحقائق الفرعية الفاعلة داخل النص المسرحي .
3-مسرحية افواه للكاتب عبد الحسين ماهود وشخصياتها: برعم – طحلب – نبتة – النذير ، وهي النموذج التطبيقي الاخير الذي اختاره الباحث .
وهنا نصل الى الموضوع الاخير في هذا الكتاب وهو الخاتمة ، وان خلاصة ما توصل اليه الباحث هو ماياتي:
• ان كل حقيقة جزئية في البنيوية التكوينية لا تاخد مدلولها الحقيقي الا من خلال مكانها في الكل (النص المسرحي) ، وكذلك الكل لا يمكن ان يعرف الا عبر التطور في معرفة الحقائق الجزئية .
• ان رؤية العالم في معناها التقليدي تتقارب مع تصور عام للعالم ، وهو تصور ارادي تقليدي مقصود ، بوصفها كيفية ينظر منها الى واقع معين او نسق فكري يسبق عملية تحقيق النتاج المسرحي .
• تسعى البنيوية التكوينية الى اعادة الاعتبار للنص المسرحي في خصوصيته ، دون ان تفصل عن علائقه بالمجتمع والتاريخ .
• يمكن عدّ مقولة (الداخل والخارج) في بنية النص المسرحي مرتكزا مهما من مرتكزات البنيوية التكوينية .
• النقد الاجتماعي جزء مكمل للبنيوية التكوينية ، بوصفها قراءة وتفسير داخلي للنص المسرحي .
واخيرا نقول: شكرا للباحث الفذ وهو ياخذنا في سياحة معرفية وجمالية منفردة وبدراسة تكاد تكون نادرة عن موضوع في غاية الاهمية خاصة في النقد الحديث .