نص مسرحي: “صنّارة في ماء”/ تأليف: عباس منعثر

 (رجل على حافة نهر.. يصطاد)

أوّل : سمك. يا سمك. صوتي عالٍ، سيهرب. (بهمس) سمك، يا سمك. أين أنتَ الآن؟ تحت، وأنا فوق. لا أستطيعُ النّزولَ تحت، ولا تستطيعُ الصّعودَ فوق. ليس مهماً. الأفضل أن يبقى كلّ منّا حيثُ هو. أعلمُ انك لا تسمع، فالأسماكُ بلا آذان، ولا تفهم. ليسَ مهماً، المهمُ أن أتكلّم. البالونة تنتفخ وتنتفخ وتنتفخ، وحينما لا تستطيع الاحتمال أكثر، تنفجر. أيها السّمك: مع من أتكلّمُ غيرك؟ ليسَ لي سواك. هل تذهبُ أنتَ أيضا؟ إلى أين؟ قدرُك، كقدري: أنْ تُرغمَ على استنشاقِ الهواء.. أنا سمكةٌ أيضا يأكلُني الآخرون، تأكلُكَ الأسماكُ الأخرى، الأكبر. ها أنا أوفرُ لكَ طعامَك، تقتربُ من الصنّارة الآن، تراها، وبحذرٍ تأكلُ العجينةَ، تسخرُ منّي وتهرب. هم يسخرونَ منّي أيضاً. يصيحونَ خلفي بكلماتٍ لا أفهمُها.. هؤلاءِ الأوغادُ يسببونَ الجنونَ للعاقل، فكيفَ بي؟ أكيد أنّ السّمكةَ تُنادي السّمكةَ كي يسخروا جميعاً. أيها السّمك، اضحكْ، وأنا أضحكُ، لكنّ القلبَ لا يُسّر. إيه، كنتُ في السّابق لا أكادُ أرفعُ الصنّارةَ حتى أرمي بها ثانية. أصيدُ مئة، مئة ماذا، ألف، بل مليون سمكة! والآن لا ذيلَ يلبط، ولا عيوناً دهنيةً أرى، لا فمَ سمكةٍ يُفتح ُيغلقُ في صراعٍ مأساويٍّ مع الهواء.

(يدخل رجل ثان)

ثان : الرّجلُ نفسُه في المكانِ نفسِه…

أوّل : أهلاً بوجهي الثاني!

ثان : كالعادة، سلتُكَ خاوية.

أوّل : اصطدتُ عشرَ سمكات، خمساً بحجمِ رأسِكَ أعطيتُها لذاكَ الصّغير، والبقيةُ أعدتُها إلى الماء.

ثان : هيلا هُب، هيا  يا صنّارة!

(تلقفُ صنّارتُه السّمكةَ بسرعة)

أوّل : آه، ليستْ كبيرة.

ثان : العنبُ حامضٌ عند من لا ينالُه!

(يضعها في السّلة)

ثان: (يرمي الصنّارة من جديد) هيلا هُب!

(الأوّل يُخرج صنّارته ويعيدها)

ثان : (ممسكاً سمكة أخرى) أكبرُ من الأوّلى قليلاً.

أوّل : أراكَ مبتهجاً؟

ثان: كلُّ يومٍ جديدٍ هو ابتهاجٌ جديد.. كلُّ شمس هو دعوة للسعادة.. الأملُ يتخللُ اشعة الشّمس الذّهبيّة.. إنني ممتنٌ للحياةِ لأننّي اتنّفس..

أوّل : متفائل!

ثان : حياتُكَ تكونُ كيفما أردتَها أن تكون..

أوّل: حياتُنا جاهزةٌ قبل أن نوجد، وما نحن إلا برهانٌ على شيءٍ قد انتهى!

ثان: كيفَ لا أكونُ مبتهجاً وانا موجود على هذهِ البسيطة! افضلُ من أكونَ عدماً.. أنا الآن أرى أسمع أتكلّم.. أصنع حياتي.. وهذا يكفيني.

أوّل : ما هذا؟ أترى ما أرى؟

ثان : أرى الجوّ غائماً.

أوّل : لا. هناكَ، في العمق.

ثان : أين نظارتُك، هل كُسِرت من جديد!؟

أوّل: بدون نظارتي يتحولُ العالمُ إلى ضبابٍ وفوضى.

ثان: هي إما بقرة، أو قطعةُ جلدٍ مُرّقعة؟

أوّل : مسكينةٌ تطفو على سطحِ الماء.

ثان : ويلَ صاحبها!

أوّل : هذهِ هي خاتمةُ الأكلِ والتغوّط. تُرى أتُحِسّ بالبرد؟!

ثان : الميّتُ عديمُ الإحساس. لذا يُقالُ لعديمِ الإحسـاس: يا ميّت!

أوّل : من أينَ جاءت؟

ثان : من الجنوب. حسبَ الرّيح. هيلا هُب! (يصطاد سمكة جديدة)

أوّل : أحلمُ أن اصطاد سمكةً كبيرة كبيرة كبيرة جداً!

ثان : سمكي في سلّتي، وسمكاتُكَ في أحلامِك!

أوّل: ماذا كنتَ تقولُ عن الحُب؟

ثان: أنا عاشقٌ الآن يا صديقي!

أوّل: من جديد؟

ثان: من جديد.

أوّل: ألم تكنْ عاشقاً قبلَ يومين؟

ثان: كنتُ. الآن غير الأمس!

أوّل: كيف؟

ثان: الأولى قضيتُ معها أجملَ اللّحظات. كانَ حبّاً جسدياً شهوانياً عارماً. ثمّ.. دبّ الملل. تَعرِفُ أنّ الشيءَ اذا أكثرتَ منهُ تنقلبُ حلاوتُهُ إلى مرارة.

أوّل: وتركتَها؟

ثان: ذهبتْ هي من هنا.. وانا ذهبتُ من هناك.

أوّل: ببساطة؟!

ثان: وهل تريدني أن أحرقَ الروحَ بعد أن فارقتني كما يدّعي المغنيّ الدّجال!

أوّل: لن تفعل. أعرفُك!

ثان: أخذتُ احتياطي وجهّزتُ أغنيةً حزينةً تتناسبُ مع الموقفِ حينما تفارقني وتنسحب!

أوّل: (يضحك) تُجّهِزُ الحزنَ مقدماً؟

ثان: استيعابُ الصّدمةِ لا يتمّ إلا بالتحسّبِ لما بعدَ الصّدمة!

أوّل: وكيفَ تحسّبتَ لما بعدَها؟

ثان: سأحبسُ نفسي في غرفتي يومين كاملين. مع كرزات، وربما مشروبات غازية أو حتى روحية. وستكون أغنيةُ الحزنِ التي أُرددُها (يغني: بس تعالوا)

أوّل: وبعد ارتداءِ السّواد ليومينِ آخرين، تبحثُ عن حبٍّ جديد!

ثان: روحي الطريّة وَجَدتْ كائناً آخر، روحاً أخرى, المأوى، التوأم!

أوّل: قلتَ ذلكَ عشراتِ المرّات سابقاً!

ثان: ربكَ يأخذُ بيد ويُعطي بأخرى! كنتُ محظوظاً حينَ انتهتْ علاقتي السّابقة.. وَصَلتْ روحي فيها إلى الجفاف.. الحُبّ الجديدُ أنقذني من الضّياع.. وها أنا انسانٌ جديد، أحبُّ الحياةَ، سعيدٌ بها..

أوّل: هنيئاً لك!

ثان: أنا متوازن. أُعطي الأشياءَ حجمَها الطبيعي. أُرّتبُ الأمورَ حسبَ الأولوياتِ والضّرورات والأسبقيات. هنا متعةٌ استمتع بكلّ جوارحي، هناك حزنٌ أحزنُ على قدرِ حاجتي. لا آخذ الحياةَ على محملِ الجد. اطلاقا! الحياةُ كوميديا… في لحظةٍ ما، اثناءَ لُهاثِنا نصلُ إلى نتيجةٍ أنّ هناك سخرية في وجودِنا، سخرية في طريقةِ تعاطينا مع الحياة، وسخرية في مصيرِنا.

أوّل: تراودنُي هذه الأفكارُ أحياناً.

ثان: من الغباءِ أنْ نتعاملَ معها إلا بسخريةٍ مضادة. حاربْ سخريةَ الوجودِ بمرآةٍ تعيدُ إليهِ سخريتَه.

أوّل: داوني بالتي كانتْ هي الدّاءُ.

ثان: بالضبط!

أوّل: في طفولتي، ارتبطتُ بفتاةٍ تصغرُني بسنة. ما كانَ يُفرّقنا سوى النّوم. ثمّةَ شيء سرّي يجمعُنا، لا مرئي، وغامض. كبرنا وكَبُرَ معنا. في يوم، كنت عائداً إلى البيتِ من المدرسة. وجدتُ بابَهم مفتوحاً. جمعٌ غفير من النّاس في بيتِهم. شبابٌ تدخلُ وشبابٌ تخرج. ركضتُ إلى أمي… وأخبرتْنّي بالحقيقة.

ثان: ماتت؟

أوّل: بل انتقلوا إلى مكانٍ آخر. من لحظتِها وأنا أرى وجهها الطفوليّ البرئ على كلّ جسدِ أُنثى. لم يفارقْني ذلكَ الاحساسُ حتى الآن ومنعني أن أحبّ أيّ انسانٍ آخر.

ثان: بالنسبة لي اؤمن بمبدأ: طز! طز بكلّ شيء! أهمّ شيء أن أحصلَ من الحبّ على السّعادة، وما عدا ذلكَ إلى جهنم!

أوّل: سعادةُ الحبّ مؤقتة، حينما يغزوها الوعي الشّقي. كلّ السّعاداتِ مؤقتة مع الوعيّ الشقي!

ثان: دعِ الوعيَ لأهلِهِ واستمتعْ بالحياة. إني أُفضّلُ أن أكونَ جاهلاً معتوهاً على أن أكونَ فيلسوفاً شقياً. الحياةُ مؤقتةٌ وسريعة، يجب أن نعتصرَها حتى آخرِ قطرة!

أوّل: نعم هذهِ هيَ الحياة للأسف!

ثان: صنّارتي تصطادُ السّمكات الغبيّات!

أوّل: صَدَقْتَ. صنارتُكَ لا تصطادُ الا الغبيّات!

ثان: (يرمي الصنارة) هيلا هُب!

أوّل : أتساءلُ أحياناً ما الذي يحدثُ تحت.. مثلما يحدثُ فوق؟ سمكٌ محظوظٌ بغباءٍ يأكلُ العجينةَ دونَ أن تُغرَزَ الصنّارةُ في فمِهِ؟ سمكٌ ذكيّ يعرِفُ متى ينقضُّ على العجينة: بليونةٍ وخفة، اضربْ واهربْ؟ سمكٌ صغيرٌ تلتهِمُهُ الفكوكُ الكبيرة؟ سمكٌ مُنعزِلٌ يرضى بالفُتات؟ لا بدّ للمرءِ من ألفِ حياةٍ كي يفهمَ الحياة!

ثان : لا يكفي أنْ تفهم، بل أنْ تعيش. خُذْ أبي مثلاً. صارَ عمرُهُ تسعينَ سنةً الآن، وما زالَ حريصاً على الدّنيا. يعيشُ لحظةً بلحظة. بكى النّاسُ بكى، ضَحِكَ النّاسُ ضَحِك. صفقوا صفّق، مشوا مشى، توقفوا توّقفْ! لا يُفكّرُ كثيراً ولا يُتعِبُ مخّهُ أبداً. حكمتُه: حشرٌ مع النّاسِ عيد. إذا وجدَ الطعامَ افترسَهُ، إذا نعسَ شخرَ من كلّ فتحاتِهِ. أما إذا رأى جسداً طريّاً فتذكّرِ الخنزير. هُب! اصطدتُ واحدةً جديدة. ما الذي تتأملُهُ في السّماء؟

أوّل : في ما قبلَ الغروبِ سِحر. لقاءٌ بين وداعِ  النّورِ واستقبالِ الظلام. أعشقُهُ. أتمددُ هكذا على العشب، رجلاي تغطسانِ في الماء.. يخرجُ الاختناقُ من صدري.. تتراخى أطرافي.

ثان : سيهربُ السّمكُ، توّقفْ!

أوّل : وعينايَ مليئتانِ بالزّرقة. هل اصطدتَ شيئاً!

ثان : ما دامَ صوتُكَ يرعِدُ، ورجلاكَ تخبطانِ الماءَ بالطّين فلنْ تظلّ في النّهر سمكةٌ واحدة.

أوّل : لا تركضْ وراءَ سراب. دعِ السّمكَ يأتي ولا تذهبْ إليه.

ثان : بهذهِ الحكمة، وبقولِك: تُفْ على كلّ شيء، سيمرُّ عليكَ الزّمنُ وأنت كالشّجرةِ الوحيدةِ تلك. لا أغصانَ لا أوراقَ، عصافيرٌ تذرِقُ فقط. خذْ حكمةَ أبي: اشغلْ أيَّ كرسيّ فارغ، دقّ أيَّ بابٍ علّ واحدًا يُفتح، ارقصْ في أيّ عرسٍ، حينها يُرزقُ الغبيّ مِنَ الأحمق! أما أنْ تقعُدَ وتنتظرَ وتتأملَ وتتساءلَ، فهل أفادَ ذلك أهلَ القبور؟ هل منعوا الموتَ من دقّ الباب؟ لا، طبعاً.

أوّل : أحبُّ الماء. لذّتي الوحيدةُ أن اجلسَ على الجرف، وحيداً، وحيداً كما أنا الآن، أرى وجهي يتكسّرُ على الموجِ الهادئ: وجهٌ اسمر، شاربٌ كخيطِ نمل، عينانِ صغيرتانِ غاطستان، أنفٌ مفروش. وجهٌ ضبابيّ، مائيٌّ شفاف، أكادُ أرى ما بداخلِه. تشطرُهُ أحياناً سمكةٌ صغيرةٌ، حرّة. آهٍ لو ذُقتَ هذا الشّعور. يكفي أن تنتهي حياةُ إنسانٍ ما أنْ يصِلَ ذروةَ الّلذةِ هذه.

ثان : كم انتَ غريبٌ ومحيّر! انتقل حالُكَ من الدّراسةِ إلى الشّارع، من أرقى حياةٍ إلى التسكع، من الأملاكِ الكثيرةِ إلى كوخٍ في الخلاء، من دونْ جوانْ الفتيات، الى المتصوّف الزّاهد! لا تتكلّم. تصمتُ وتحدّق. لكنّكَ هنا كائنٌ مختلف.. أنت على الشّاطئِ شاعرٌ رقيق!

أوّل : الماءُ وحدهُ يفهمُني، يُصغي إليّ ويُكلمّني.

ثان : مجنون! أتدري أن المارّةَ يبحلقونَ فيك. يتساءلونَ: مَعَ من يتحدّث! يظنونَكَ مجنوناً، بل انتَ كذلك! تشطرُ نفسَكَ إلى شطرين. يتحدّثُ شطرُكَ الأبيض مع شطرِكَ الأسود. وكلاكما لستُما هنا. انّكما تحتَ الماء!

أوّل: الماءُ فردوسي، جنّتي الابدية!

ثان: ماء يعني ماء لا أكثر. سمك يعني لحم أبيض يُشوى أو يُفرقعُ في الدّهن.. بصل وطماطم وخبز. لا أرى في الأمرِ شيئاً غيرَ عادي.

أوّل : لأنكَ ترى بعينِك.

ثان : وهل ترى بأنفِك؟

أوّل : بل بقلبي.

ثان: وهو ما سيقودُكَ إلى الجنونِ الذي أنتَ فيه!

أوّل: عددَ الكلماتِ التي قلتُها للآخرين، منذ ماتَ أبي في الحربِ الأخيرة، لا تتجاوزْ مئةَ كلمة. مثل: نعم، لا، شكراً، تفضل… بينما حَفِظَ النّهرُ، حَفِظَ السّمكُ، حَفِظَتْ هذهِ التعريشةُ من الماءِ والدغلِ والقصب قصةَ حياتي. سمكٌ يرويها لسمكٍ، أجيالٌ تكتبُ صوتي بالماءِ على الماء. لذلكَ أُعيدُ السّمكَ الصّغيرَ حتى يحفظ صوتي، والبقية أُعطيها إلى الصّغيرِ الذي يلعبُ هناك.

ثان : أيّ صغير؟ نحنُ وحدَنا هنا!

أوّل : يبدو أنهُ عادَ إلى أهلِه.

ثان: يجبُ أن تُراجعَ طبيباً للأمراضِ العقليةِ يا ماجد!

أوّل: القائمة جاهزة: توّحد، اكتئاب، مرض نفسي!

ثان: بالفعل، الأطبّاءُ يُكررونَ مرضاهم.

أوّل: والأنسانُ هو طبيبُ نفسِه.

ثان: أجل. يجلبُ لعقلِهِ الجنونَ حين يستسلمُ للهموم، ويجلبُ لنفسِهِ السّعادةَ حين يتخلّصُ من القلق.

أوّل: كم كانَ حضنُ أمي دافئاً.. بدأتْ مأساتي عندما اقتلعوني من حضنِها وأصبحتُ كبيراً.

ثان : المسألةُ يا ماجد.. أنتَ ماجد أم جمال؟

أوّل: لا فرق!

ثان: المسألةُ، يا جمال، متعلقة بسؤال بسيط: إلى أيّ مكانٍ مِنَ الكأسِ تنظر: إلى الجزءِ الفارغِ أم الملآن! بالنسبة لي حتى الفارغ أراهُ مليئاً بالهواء!

أوّل : كم سمكة صارَ عندك؟

ثان : وصلتُ إلى تسع.

أوّل : أمسِ قال لي أخي : (أينَ كنتَ منذ شهر؟) قلتُ قربَ النّهر، هل مضى شهر؟ (جمال، حاذِرْ، الحياةُ غيرُ آمنة) بل أمنة. ( أنتَ مصابٌ بالفصام!) أنا مصاب بالوحدة، يكفي الماء. (إلى متى جنونك هذا؟) إلى أن اذهب.( نمْ عسى أن تبقى). لا يعرفون، لا يدركون أي لذّةٍ أي نشوةٍ أنْ يذهبَ جمال ولا يعود.

ثان : انظرْ بعينيكَ الصّغيرتينِ ما الذي يوجدُ بين الخشب، هناك؟

أوّل: لا شيء.

ثان: جذعُ نخلة؟

أوّل : أليسَ شيئاً آخر؟

ثان : بل هو قميص، على ما أظن.

أوّل : أسود.

ثان : جذعٌ عليهِ كيسٌ اسود، أو قطعة قماش.

أوّل : حسبتُهُ غريقاً.

ثان: هذا النّهرُ قد حملَ مئاتِ الجثث.

أوّل : ذكّرتني بماجد.

ثان: (يغني: غريب آنه)

أوّل: آه!

ثان : كان يتمشى قربَ الجرفِ وانزلقتْ قدمهُ. كانَ لا يعرِفُ السّباحةَ، مثلك.

أوّل: لم يكنْ يتكلّمُ كثيراً.

ثان : كانوا يربطونَهُ بسلسلةٍ إلى الباب. رأيتُهُ مرّةً مربوطاً وراءَ الباب، فمُهُ يتصببُ ماءً، والسّلسلةُ الحديديةُ حولَ رقبتِه.

أوّل: يا لهُ من شعور!

ثان: كانَ يخورُ كوحش. يكاد يقطعُ السّلاسلَ من قوّته!

أوّل : كانَ يحبُّ السّمكَ أيضاً.

ثان : ومثلكَ، كانَ يجلسُ هنا عند الغروب.

أوّل: كانَ يحبُّ الغروبَ أيضاً.

ثان: نهايةُ الإنسان أن يُصبحَ خبراً لكان!

أوّل : كنتُ أجلسُ هنا. في المكانِ نفسِه. في الّلحظة نفسِها، وفي الشّعورِ نفسه. كائنٌ غريبٌ يبحثُ عن غريبٍ يُسلّيه. وجاءتْ. المسكينة. عند الغروب. تعرفُ الغروبَ صديقي. وكانتْ تأتي.

ثان : (تتحرّك صنارته) هيلا هُب، وصلنا عشر.

أوّل : تقفُ على حافةِ النّهر، قُبالتي. كنتُ أتساءلُ: متى تقذفُ بنفسِها إلى الماء؟ لكنّها لم تقذفْ بنفسِها! كانتِ الصنّارةُ تصطادُ الكثيرَ من السّمك، أكثرَ مما تصطادُهُ أنتَ في شهر. ولم أكُنْ أدري، تمتلئُ السّلّةُ، ولم أكنْ أدري. كنتُ أُراقبُها فقط.

ثان : أمه؟!

أوّل : ترتدي السّواد.. هل السّواد يعنّي الحزن؟

ثان : أكيد. الأسود حزن، الأحمر جنس، الأصفر غيرة، الأبيض فرح، الأزرق غموض، والأخضر أمل. هل تنتظرُ من امرأةٍ فقدتْ عمرَها في العويلِ على مَنْ فقدَتْهُم أنْ تلبسَ البرتقالي!

أوّل : كانت تقفُ على حافّةِ النّهر. ما زالَ وقعُ دموعِها في الماءِ يرنُّ في أُذُنَيّ. تفتحُ أزرارَها، تُخرِجُ ثدييها للنهر. تنحبُ مناديةً ماجد، يا ماجد، يا جمال. كدتُ أقولُ أنا هنا، جمال هنا، تحتَ الماءِ مع السّمك، تعالي إلينا يا أم ماجد! كانَ النّاسُ يسبحونَ في أحلامِهم، وهي تُنادي ماجد. كانوا يغطسونَ في مسراتِهم، وهي تُنادي ماجد! أكانَ يسمع؟ أكانَ السّمكُ ينقلُ أنينَها إليه؟

ثان: لا!

أوّل: يُقالُ أن الأمَّ تُجبِرُ ابنَها الغريقَ على أن يطفو..

ثان(يغني: موال شمتانية)

أوّل: وكان الوقتُ غروباً أيضاً..

ثان : وصلتُ 12. غلبتُك.

أوّل : أتصوّرُ نفسي مكانَه. وأمي، التي ماتت، تقفُ هناك في المكانِ نفسِه في الزمانِ نفسِهِ مناديةً: جمال يا جمال، تفتح أزرارَها، تُخرِجُ ثدييها للنهر، يا ماجد..

ثان : ما زلتَ تعتقدُ أنه جذع؟

أوّل : ها؟

ثان: إنها جثة.

أوّل : تأَكّد.

ثان : جثةُ رجل. أرى كتفَهُ، أرى انحناءةَ جذعِه.

أوّل: رجلٌ ماتَ فطفا.

ثان : سأجلِبُها.

أوّل : الماءُ  بارد.. والهواء…

ثان : لا عليك.(يغطس ويُسمع صوته من الخارج)

أوّل : هل هو ماجد؟ حذار.. تشبّث بالخشب، بجذعِ الجسر… لو لم أكنْ معوّقاً لساعدتُك.. هل هي جثة؟

صوت من الخارج : نعم. أظنّهُ ماجد.

أوّل : ماجد! امسِكْ جيداً. إنها تُفلتُ منك..

صوت من الخارج : لديكَ حبل؟

أوّل : لا. اسحبهُ، اسحبهُ. عليَّ الكلام وعليكَ الفعل.

(يظهر ثان من النهر)

ثان : آه، ثقيل.

(يرفعان الجثة)

أوّل : بعضُ أجزائِهِ متآكلة، أنفهُ فمهُ يده!

ثان: هذا فعلُ السّمكِ الذي تحلمُ به.

أوّل : حتى انتَ أيّها السّمك؟!!

ثان : ما نفعل؟

أوّل : انهُ يبتسم.

ثان : ميّت! الميت لا يبتسم.

أوّل : لقد ارتاحَ اخيراً.

ثان : آخرُ كلمةٍ قالَها لأُمّه: قلبي يعتصر. كانَ سيُحضِرُ الجبنَ.. و لـم يَعُد.

أوّل : قلبي يعتصر.. أكلُّ مَنْ قلبُهُ يعتصرُ يفعلُ هذا؟!

ثان : من يدري قد تكونُ نهايتُنا جميعاً جثّةً في ماء.

(تهتز الصنّارة)

أوّل : صنّارتُك.

ثان : (يركض ويسحب الصنّارة) وصلتُ إلى 15 سمكة.

أوّل : بيننا جثةٌ وما زلنا نهتمُّ بصنّارة!

ثان : اعتدنا على الموت. في أيامِ الحرب، كنا نتناولُ الغداءَ بشراهة، بينما جثةُ أخي في الغُرفةِ الخلفية..

أوّل : أودُّ لو أبكي..

ثان : سأُخبِرُ أهلَهُ.(يخرج وهو يغني: تعبنه والعمر عدّه)

أوّل : اخبِرْهُم. قلْ لهم: عددكم نقصَ واحداً. هناك من يموتُ الآن في هذا العالم، دونَ أن يدري به أحدٌ، دونَ أنْ يهتم. لم يمتْ الجسدُ فحسب، بل ماتتِ الأحلام. (للجثة) ما سرُّكَ؟ كيفَ فعلتَها؟ كيفَ كانَ شعورُك؟ كلّ منا يعتقِدُ أنّهُ الكون، لا يدري إلا ما يدورُ في داخلِهِ، يعيشُ الحياةَ وكأنهُ هو الحياة، وما أن يتوّقفَ نبضُهُ حتّى تتوّقفَ الحياة. ذهبتَ بلا أثرٍ يا صديقي، بلا صوت. قلتَ في حياتِكَ جملةً واحدةً: قلبي يعتصر. ممَّ اعتصر؟ أكانَ ممكناً ألا يعتصِرَ قلبُكَ؟ النّاسُ تعيشُ حياتَها تعصرُها بالمتعةِ حتى آخر قطرة وأنتَ قلبُك يعتصر.. جئنا إلى هذا الحياةِ كي تُعتَصَرَ قلوبُنا ونُغادِر! هل ناداكَ السّمكُ، وظننتَ نفسَكَ بحراشفَ وزعانف؟ لابد أنّ أُمّك في فراشِها الباردِ تنكسرُ كورقةٍ يابسة..(يغني تغطيت وبعدني الليلة بردان)

(يقف ويتجه إلى الحافة)

أوّل: أي فكرةٍ حفزّتْكَ على القفزِ إلى النّهر وأنت الذي يغرقُ في شبرِ ماء! كيفَ كانت تلكَ اللحظة حينَ صارَ الهواءُ عزيزاً عليك؟ أيّها الصّندوقُ المُقفل، مفتاحُك مرميٌّ في محيط. قلتَ لي ذات مرّة: قلبي يعتصر. كان ذلك قبلَ عشر سنوات، وظلّ قلبُّكَ يعتصرُ ويعتصر. لم أفهمْ حينها كيفَ يُعتَصَرُ القلب، ولم أسأل. لكنّني حينَ رأيتُ أُمَّكَ على الشّاطئ تفتحُ الأزرار، وعينيها ورديتينِ غامقتين، وشهقتها بالكادِ تجِدُ الهواء، عرفتُ كيفَ يُعتصَرُ القلب..

(الصنارة تهتزّ)

أوّل: انظرْ: للمرّةِ الأوّلى في حياتي، صنّارتي تتحرّك. لم أصطدْ ولا حتى خرقة قديمة. أجلسُ كذباً هنا كصيّادِ سمك. أُوهِمُ نفسي أنني ماهر.. وأنا في الحقيقة لا أصطادُ الا الهواء. طيلةَ حياتي لمْ اصطدْ سوى الهواء. في كلّ شيء. هل أسحبُها؟ أم أتركُ ذلكَ الكائنَ الذي أجهلُهُ يلتهمُ ويذهب؟ أسحبُ أم لا؟ (للجثة) سمعتُ وشوشةً عن عشقِ السّمكِ لك. هل جاءتْ السّمكةُ للحاقِ بك؟ يبدو أنها كبيرة. تناضلُ كي تتحرّر. تتشّبثُ بآخرِ لحظةِ ماءٍ، كما تشّبثَ ماجد بآخرِ لحظةِ هواء، قبلَ أن يُلقي بنفسِهِ إلى النّهر. كفّتْ عن الحركة. هل عَلِقَتْ واستكانتْ؟ ماتت؟ هربت؟ (يرفع الصنّارة ويجدها خالية)

أوّل: هذهِ هي المرّةُ الأخيرة.. المرّة الأخيرة ..أتعلمُ لماذا؟ ماجد أتعلمُ لماذا؟ أتعلم؟ (يقف)

أوّل: لأنّ قلبي يعتصِرْ.

(ختـــــــــــــام)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت