“أبو الفوارس..عنترة” ضمن مسرحة المناهج بثقافة أسيوط/ روفيدة خليفة

أعلم أن الحرية لا توهب.. إنما تنتزع انتزاعًا يا ابن شداد. على مسرح قصر ثقافة أسيوط قدم العرض المسرحي “أبو الفوارس عنترة”، والذي تدور أحداثه حول حياة الفارس العربي والشاعر عنترة بن شداد، فارس بني عبس، الذي استطاع أن يتخلص من قيد العبودية وأن يحظى بمراده من حبه لابنة عمه عبلة بنت مالك.

يأتي عرض أبو الفوارس عنترة متناولًا مجموعة من الأحداث والعلاقات المتشابكة في حياة عنترة، وما يتولَّد عنها من قيم، وما يتجرعه خلالها من معاناة، فهو العبد الذي انتسب لونه لأمه “زبيبة” الأمة في بيت سيدها شداد، والتي كانت حرة في بلادها وتدعى تانا بنت ميجو، وهذا اللون الذي فرض عليه الرفض والازدراء من سادة عبس رغم فروسيته ودفاعه عنهم، وانبنى عليه إنكار أبيه لنسبه، ثم مطاولته السادات من عبس وزياد في حبه لابنة عمه عبلة، وما دار بينهما من تجاذب وتقارب وبعد وجفاء، ومصارعته لبسطام بن قيس في بني شيبان، وذهابه لبلاد النعمان سعيا خلف مهر عبلة، ونجاته من بحر الرمال وجيوش النعمان، ولقائه بالملك، والحرب معه، والعودة ظافرا لديار عبس، ثم زواجه من عبلة.

ثمة قيم كبيرة يمكن استقاؤها من العمل، كالبذل من أجل الآخرين، والتضحية من أجل القبيلة، والسعي نحو الهدف، والطموح إلى الحرية، والتغلب على الصعاب، والتمسك بالأمل وقت اليأس، والفروسية، والشجاعة.

انبنت الرؤية الإخراجية للمخرج الكبير خالد أبو ضيف في عرض عنترة على مفردات عديدة، أولها كان النص المعالج لرواية أبو الفوارس عنترة للكاتب محمد فريد أبو حديد، والتي عالجها مسرحيا الكاتب سعيد حجاج، ثم ديكور المهندسة فاطمة أبو الحمد، والذي اعتمد على تصوير المعادل الموضوعي لعنترة منعكسا في السيف، ولعبلة والمنعكس في المهرة العربية الأصيلة، وللحب في القمر الدائري المكتمل، وفي تصوير الطبيعة الجبلية لديار عبس، والعين التي تم استخدامها مرات في تصوير الأحداث اليومية العادية للقبيلة من خروج الفتيات عندها والاسترخاء حولها، واستعمالها كذلك لتكون بحر الرمال الذي كاد يغرق فيه عنترة وهو في طريقه لبلاد النعمان، وأيضًا الشارات العربية التي ترمز للقبائل، والانتقال من ديار عبس إلى شيبان، ثم تصوير قصر النعمان بأبهته وجلاله وفخامته، ناهيك عن خلفيات حروب عنترة بن شداد، والسيوف والحراب والدروع، والتي تم استثمارها بشكل كبير في العرض.

الملابس والاكسسوارات أيضا كانت من إبداع فاطمة أبو الحمد، وهي ملابس موافقة للبيئة العربية آنذاك، تشع بالحياة في أزياء الفتيات عند العين، وعند الاحتفال بالنصر وفي مشهد زواج عبلة، كما توحي تصميماتها وألوانها بالجلالة والبهاء في أزياء الملوك والسادة، كما تبرز الجانب الاجتماعي لحياة العبيد في ملابس عنترة وشيبوب وزبيبة، لتصور الفارق الكبير بين الحياتين، درجة أن تم استثمار الملابس في خلق نقلة نوعية في حياة عنترة بن شداد على المسرح بعد لقائه بالملك النعمان؛ إذ يقوم جنود النعمان في منظر مهيب بإلباسه زي الحرب على الخشبة، معتدا على إبهار الزي المخصص لعنترة للمتلقي.

جاءت الإضاءة أيضًا والتي صممها الفنان المبدع مايكل يعقوب لتلائم الحالات النفسية المتقلبة طوال العرض، فلم تعتمد فقط على تصوير النهار والليل والطبيعة؛ بل صممت من أجل أن تكون مسهما رئيسا في إيصال حالة العرض للجمهور، فما بين إضاءة القمر، ومشاهد التقاء عبلة وعنترة، والاحتفال، والقتال، والغضب، والثورة، والانفراد والعزلة، والغيبة والعودة، والاستعراض، كانت الإضاءة عاملا كبيرا في وصول كل حالة على حدة، وفق الإطار العام للنص المتصل اتصالا وثيقا بتلك الحالات.

أما عن الاستعراضات، فقد صمم الفنان مارك صفوت عددا من الاستعراضات التي تتوافق والبيئة آنذاك، ويستطيع الجمهور المستهدف من العائلة المصرية عامة وطلاب الثانوية خاصة أن يتفاعل معها، وأن تترجم إحساس الموسيقى والكلمات، وأن تتلائم والجو النفسي الذي أعدت من أجله، ففي استعراض الأوفرتير يبرز مارك صفوت قيمة القلادة التي ستظل رابطًا بين عنترة وعبلة طوال العرض، ويستعيدها عنترة من جنود النعمان قبل عودته لعبس، وفي استعراض السفر لبني شيبان يبين حالة التمزق النفسي والعاطفي التي تعانيها عبلة، وفي استعراض احتفال القبيلة بالنصر على قبيلة طيء أو غيرها من الاستعراضات يستمر مارك صفوت فتيات القبيلة وجنودها بأزيائهم اللامعة والإضاءة واللحن لإحداث حالة من الجمال يتلقاها المشاهد بتفاعل كبير، كما أسهم المكياج الذي قام به الفنان أبو بكر مظهر بدور بالغ في إظهار الممثلين بشكل يتكامل مع أزيائهم وينقل صورتهم للوعي الجمعي للجمهور.

الموسيقى والألحان لعرض عنترة كانت للفنان الكبير عبد الباري عبد العزيز “بيبو”، والذي مال في تنفيذها إلى استقائها من حالة البداوة العربية في العصر الجاهلي، فاستخدم الآلات الشرقية والإيقاعات الشرقية، وكان للناي دوره الكبير في العرض، حي كان انعكاسا مهما لحالة أبطال العرض، وموظفا بشكل كبير في كل تفاصيله، وكان يستعاض به أو يستمر في الحالات التي لا يتاح تنفيذها بشكل كبير على خشبة المسرح دون الاستعانة بالأدوات الحديثة كالسينما وغيرها، في تصوير الحروب والمعارك، والانتقال والسفر، وما إلى ذلك من أمور، وكان لصوت الفنانة نجلاء فتحي والفنان أحمد زاهر دوره في ترجمة عنترة وعبلة على المسرح بشكل كبير؛ نظرًا للحوارية التي تمتعت بها أشعار العرض.

هذه الأشعار بجانب التدقيق اللغوي للعرض كانت للشاعر الدكتور سيد عبد الرازق، والذي تمتعت أشعاره بترجمتها الدقيقة لأحداث العرض، واستكمال البناء الدرامي له، وأسهمت بدورها في تصوير الانتقالات النوعية لكل شخصية، وقد اعتمدت الأشعار على إنشاء حالة من الحوار على طول النص بين عنترة وعبلة، ففي أغنية الأوفرتير يبرز الشاعر موقف الحيرة في نفس عنترة بين مكانته في القبيلة ومكانته في قلب عبلة فيقول “ما بين لا ونعم .. أرهقتني جدلا”، لترد عبلة مبينة عادة العرب القديمة في حرمان الشاعر من محبوبته إذا تشبب بها في شعره، فتقول “لو شئت صنت دمي.. أو شئت لانهملا” في إشارة إلى أن بوح عنترة بهذا الحب قد يسهم في امتناع التقائهما، بل قد يصل بهما إلى الحد الذي قد تراق فيه الدماء، وفي أغنية الحلم، يتلاقى طيف عبلة بعنتر ويتبادلان الغزل والأمنيات، ثم في أغنية السفر إلى بني شيبان يبين سيد عبد الرازق حالة عاصفة تقع فيها عبلة فهي بين قوى أربعة: طاعتها لوالدها عند إرغامها على السفر، وعجزها عن البوح بما في صدرها من رفض للسفر أو الزواج، ورغبتها في لقاء عنترة والبقاء في عبس، وغضبها منه في آن لما بدر منه في حقها ولما شاع على ألسنة الناس من عشقها له، فالكلمات تعبر عن هذه الحالة التي تختلط فيها الكبرياء بالعجر والغضب بالحب، وأغنية انتظار عنترة، والتي تتخلص فيها من بعض القيود التي فرضها أبوها ومجتمعها عليها بعد موافقته على زواجها من عنترة ولكن بعد أن يحصل على النوق العصافير من أرض النعمان، وهو سفر محفوف بالمخاطرن وقد يكون ذهابا بلا رجعة، فتصور أشعار الأغنية حالات تعتمل في نفس كل أنثى يغيب عنها حبيبها، فما بين الخوف والقلق عليه، والانتظار والشوق، والغيرة من أن يقع في حب أخرى، تتشكل تلك الزاوية في النفس البشرية والتي ترجمتها كلمات الأغنية، وعلى وقع السيوف تأتي أغنية الأمجاد والتي تعبر عن الشموخ العربي، والفروسية، والنبل، والإقدام، في إيقاع سريع متواتر يخدم الحالة الدرامية المشحونة بالمعارك والحروبن ليس هذا فقط بل أسهمت الأشعار في تصوير بعض الحالات النفسية التي أنشدت شعرا لا غناء على خشبة المسرح، وتم تضفيرها مع أبيات من ديوان عنترة ذاته.

أما عن التمثيل، فقد اختار المخرج الكبير خالد أبو ضيف عددا من الممثلين المشهود لهم في مسارح الجمهورية كلها، فقام الفنانون أشرف محمد بدور عنترة، وآية محمد بدور عبلة، ومصطفى عاطف بدور مالك، ومصطفى إبراهيم بدور شداد، والمخرج الكبير مصطفى إبراهيم بدور الملك النعمان، والمخرج الكبير محمود عيد بدور الملك زهير، والمخرج أحمد عبد العظيم بدور قيس، ودميانة سمير بدور زبيبة، وبسام حسن بدور شيبوب، ومحمود بحر بدور عمارة بن زياد، وأنس وليد بدور عمرو بن مالك، وسيف حسام بدور بسطام بن قيس، وأبو بكر مظهر بدور أبو الحارث وزير النعمان، وحسناء محمد بدور مروة بنت شداد، وعبد الهادي نايل بدور الراعي.

وقد أشاد الجمهور بالممثلين وحرص حرصا بليغا على التقاط الصور التذكارية معهم والتفاعل مع أدائهم على الخشبة، والذي اتضح جليا في تحية العرض، وهذه هي ميزة المسرح عن سائر الأعمال الفنية الأخرى، فالفنان فيه يتلقى رد فعل الجمهور بشكل مباشر، وتتفاوت في ذلك مفاضلة الجمهور بين الفنانين.

عناصر كثيرة أسهمت في نجاح هذا العرض منها إدارة خشبة المسرح للفنان حمدي قطب، والصوت للفنان عصام عبد النبي، ومساعدة الإضاءة للفنان مينا يعقوب، والفنان مصطفى محمد.

قدم خالد أبو ضيف هذه الباقة الفنية وقاد أوركستراها المكونة من عدد من المخرجين والمؤلفين المسرحيين والفنانين الكبار والصغار، وهو أمر ولا شك بالغ الصعوبة، بشكل ماتع على المستوى الفني والإداري على حد سواء، فشكل الفرقة من أجيال مختلفة تمتد من الفنانين الكبار وصولا لطلاب المرحلتين الجامعية بل والثانوية أيضا، وذلل الكثير من العثرات المتعلقة بظروف تجمع الفرقة، وتهيئة المناخ الملائم للعرض، وحتى الأعمال الإدارية المتعلقة بالأوراق، إلى جانب إشرافه على كل تفصيلة صغيرة للعرض بدءا من متابعة المعالجة المسرحية للنص مرورا برسم ميزانسين حركة الممثلين، والإضاءة، والألحان، والأشعار، وصولا للتسجيل في الاستوديو، في أناة وصبر يحسد عليهما، وكان تواصله مع الجمهورين العادي والمدرسي تواصلا راقيا كان له دوره في تنظيم العرض والتقاء الممثلين بالجمهور، وتلقي ذلك الجمهور لكل تفاصيل العرض، وعاونه في ذلك المخرج المنفذ للعرض الفنان نعيم الأسيوطي.

قدمت العرض الفرقة النوعية بقصر ثقافة أسيوط مدة عشرة أيام، تحت رعاية وإشراف الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف، والإدارة المركزية للشؤون الفنية برئاسة الفنان أحمد الشافعي، والإدارة العامة للمسرح بقيادة الفنانة سمر الوزير، وإقليم وسط الصعيد الثقافي بقيادة الأستاذ ضياء مكاوي، وقصر ثقافة أسيوط بإدارة الفنانة صفاء حمدان، ويأتي هذا العرض في إطار مشروع مسرحة المناهج بالتعاون بين وزارتي الثقافة والتربية والتعليم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت