الراجح والمتعذر، أو مغامرة الوجود بالنقيضين/ من إنجاز: رشيد بلفقيه

مقدمــة

يجد المتلقي اليقظ نفسه مسحوبا نحو أكمة كثيفة من الأسئلة المحفزة على الاستكشاف أمام النص المسرحي “الراجح والمتعذّر” لمؤلفه فهد الكغاط، أسئلة تشكّل دافعا قويا لولوج عوالم هذا النص التجريبي بامتياز، وتنوس إجاباتها المُفترضة بين القطعي المُغلق، والنّسبي المفتوح، انسجاما مع طبيعته المحرّضة على قلق التأمل، وتوتر الأسئلة أكثر من ركونه إلى طمأنينة الإجابة الوحيدة القاطعة والمريحة.

 

عتبـة العنــوان

تتشكل عتبة العنوان من جملة من المعاني المضمنّة في الجملة الاسمية (الراجح والمتعذر) التي يبرز الحذف بروزا بلاغيا في بنائها وفقا لتقديرين، حذف المبتدأ وفقا لتقدير أول كما يلي: “(هذا نص) الراجح والمتعذر”، أو حذف الخبر وفقا لتقدير ثان، يكون العنوان فيه كما يلي:”الراجح والمتعذر (في هذا النص)”، وفي التقديرين معا، وإن اختلف بناؤهما، واختلفت الدلالات المستخلصة من كل واحد منهما على حدة، يمكن القول إنهما يؤسّسان معنى واحدا مشتركا، من بين المعاني الأخرى التي يؤسسانها، مفاده أنّ هذا العنوان مجرد مقتطف من كلام اكتُفيَ ببعضه عن كله، حتى لا يكون مدلوله مغلّقا، وتقريريا كامل التجلي أقرب إلى الاقتضاب والانغلاق، إذ الغاية منه أن يؤسّس مدخلا مفتوحا لتلقي النص، من خلال أسئلة منها مثلا ما الرّاجح والمحتمل في هذا النص؟ وما دلالتهما في هذا السياق المسرحي؟

بالإضافة إلى الإيحاء بالانفتاح، واتساع التأويل التي يستحضرها أسلوب الحذف في العنوان، يضاف الالتباس الذي يثيره استعمال حرف العطف للربط بين معنيين متناقضين هما الرّاجح والمتعذر، فالرّاجح من الأشياء، حسب ابن منظور، معنى يعبّر عن الغلبة والقوة والأفضلية في السياق الذي يوظف فيه، أما المتعذّر فمن معانيه الإشارة إلى الشيء الذي لا يمكن تحقيقه بسبب صعوبته أو استحالته أو عدم توفره، وهو ما يبرز تنافر المعنيين ووجودهما على طرفي نقيض، وهو ما يمكن تبريره بأن توظيف العطف في هذا السياق المتناقض يحيل على اتساع الرؤية لتشمل الشيء ونقيضه، كما يوحي بالتناول الواسع للموضوع المطروح في النّص المسرحي من زوايا متعددة لا تركن إلى أحادية الرؤية، كما قد يوحي في الوقت نفسه بوضع المتلقي على المسافة نفسها من حالات متعددة ومتناقضة وترك قرار الانحياز لأحد طرفيها له وحده، دون أن نهمل الإشارة إلى أنه يخلق مفارقة بلاغية تحفز القارئ على استكشاف موجبات هذا العطف داخل النص المسرحي.

تتأكد منذ عتبة العنوان الرغبة في جعل المتلقي يدخل في حالة تأمل وتساؤل تعززها عتبة الإهداء التي طرح فيها الكاتب تساؤلا متأملا حين تساءل: “أتحسب الحياة كلها غير كثير من المصادفة والرجحان؟ ألسنا فيها نتقلب أبدا بين الشيء ونقيضه، فلا نعرف لحالاتنا مستهلا، ولا نسكن أنفسنا مستقرا؟”، بالإضافة إلى أن السؤال موجه لقارئ النص المسرحي، يمكن القول إن الكاتب يخاطب متلقيا عاما غير مخصص بتحديدات معينة، محاولا خلخلة يقينياته المطمئنة -تقديرا- إلى أن الحياة قدر نهائي محتم ومقرّر، وتقترح عليه إعادة قراءتها بوصفها سلسلة من المصادفات التي لا يمكن توقعها أو توقع نهاياتها، بوصفها حالات مفترضة تتراوح بين الإمكان والتعذر.

مكون الزمن

بولوج عوالم النص، يبرز توظيف عناصره توظيفا تجريبيا، باعتبار التجريب سمة ملازمة لكتابات فهد الكغاط، وبوصفها، كذلك، من سمات المسرح الكوانتي التجريبي بطبعه، ومن هذه العناصر نجد عنصر الزمان، الذي قسم إلى فترتين أساسيتين وفارقتين، تم خلالهما التركيز على فترة ما قبل اكتمال التشكل، أي تشكل الشخصية التي سيلعبها الممثل، وفترة ما بعد ذلك التشكل.

قبيل اكتمال التشكل تناسلت الأسئلة على لسان الشخصيات، معبرة من خلال السؤال عن حالة اللايقين التي يعيشونها، بوصف السؤال فضاء يقدم فيه الكلام نفسه ناقصا غير مكتمل، حسب تعبير موريس بلانشو، وبوصفه، كذلك، بحثا عن عناصر (إجابات) تحقق اكتمالا ما، في هذه الزمن ترتفع نسبة مخاوف الممثل، الذي يتهيب الخروج من شخصيته الحقيقة والدخول في شخصيته الممثلة، فيتساءل كاشفا خوفه الطافح:

-“كيف لي أن ألعب دورا لست فيه الإنس، ولست فيه من الجان؟ كيف لي أن أجعل جزءا مني إنسيا وجزءا آخر جنيا؟ لا بل كيف لي أن أكون إنسيا وجنيا في نفس الآن؟ والأدهى من كل هذا أن الجمهور وحده هو من سيقيس … هو وحده من سيحدد جنسي في العرض؟ أ إنسي أنا أم من الجان؟ ألا يريعك أن تفقد جنسك في لحظة ثم أن تبحث عنه لكن بعد فوات الأوان؟”.

تكشف هذه المتتالية من الأسئلة حيرة الممثل أمام شخصيته المتخيلة، وعدم يقينه بأنه جاهز لتقمصها، كما تكشف تهيبه من نتائج الدخول فيها، مادامت شخصية غير دقيقة الحدود، وبعد اكتمال تشكل الممثل أي اكتمال تقمصه للدور تزداد حدة الأسئلة، بل تصير أعمق، وتتجاوز الشك في جنسه لتشككه في وجوده وفي العالم الموجود فيه، فينفجر متسائلا مرة أخرى:

-“يا إلهي ما الخطب؟ أهي القيامة الآن؟ أم هو الرحيل حان أوانه؟ المنية لا تُعلم ولا تنذر! وما هذا المكان؟ وفي أي زمان أحيا أنا كل هذا الآن؟”، يصير الزمان مكونا مفقودا، بحكم وجود الممثل في حالة بينية، ويقول أيضا مؤكدا ضياعه:

-” أكائن أنا أم غير كائن؟ أحي أم مائت؟ إن كنت متُّ قبل اليوم، وكنت نسيا منسيا، فكيف أستفيق الآن؟ ولم الآن وليس يوم يبعثون؟ كأني به البعث حل قبل أوانه؟ أم تراه بعث يضرب مثلما الموت أنّى شاء، وينتقي موتاه متى شاء؟ أم أني رحلت يوما عن دنياي وإنما فقط شبّه إلي”.

تعبر احتمالات الأجوبة إنسي و/أو جني، حي و/ أو ميت، مكتمل و/أو غير مكتمل عن حالة وجودية يمتزج فيها الراجح والممكن بالمتعذر والمستحيل، فيغلب عليها الاحتمال أكثر مما يستأثر بها اليقين، وهي حالة توحي بالتوق إلى الانعتاق من الوجود كما هو موجود على صورته المألوفة، وتعطي صورة عن إمكانية تحقق هذا الانعتاق والخروج إلى وجود “رجحاني التشكل” يتسم بوجود أنظمة متعددة في حالة تراكب (كمي كوانتي) في الآن نفسه.

مكـــون الفضــــاء

وظف عنصر الفضاء بدوره توظيفا تجريبيا، بجعله فضاءات متعددة، متناقضة، لكنها متكاملة في الآن عينه، بإجراء فني جمالي استخدم الكواليس والخشبة معا لعرض الأحداث، فاتّخذا بهذا الإجراء طابعا ثُنائيا ضاعف حضورهما، فغدا فضاء المسرح الذي يجمعهما بدوره ثنائي التركيب، فهو حسب مخرج ذلك العرض، الذي هو شخصية من شخصيات المسرحية أيضا، والذي يعد مقررا في مجريات الأحداث، ومؤثرا في مصير الشّخصيات، هو مكان: “حقيقي وافتراضي في آن واحد، فهو هذا المسرح الذي نقدم فيه الآن عرضنا الحي أمامكم، وهو أيضا ذاك المسرح المتخيل الذي من المفترض أن يقدم فيه ممثلا اللوحة السابقة لعرضهما المسرحي”.

وهكذا يُلعب جزء من أحداث المسرحية في الكواليس، بوصفها المكان الذي يتم فيه الاستعداد لتقمّص الشّخصيات، والتخلص منها واستعادة الحقيقية بعد انتهاء العرض فيكون بهذا أقرب الأماكن إلى الواقعية، وبوصفه أيضا فضاء للعب الممثلين في هذا النص، فيكون بذلك حاملا للوسم المضاعف عينه الذي يسم بنية النص المسرحي كلها: “فهي أي كواليس هذا المسرح-حسب كلام الشخصية- الذي نعرض فيه الليلة مسرحيتنا، وهي أيضا تلك الكواليس الافتراضية التي شكلت فضاء اللوحة السابقة (…) وهي هنا مزدوجة حقيقية وافتراضية معا”.

وتلعب بقية أحداث المسرحية على الخشبة، حيث يكون مستوى الإيهام كاملا، وحيث يعرض المتخيّل الناتج عن رؤية فريق عمل المسرحية، فتوصف على لسان إحدى الشخصيات بأنها بدورها “مزدوجة: حقيقية وافتراضية في آن واحد”.

وبينهما، أي بين الكواليس والخشبة، بين الواقع والإيهام، تتقرر مصائر الشخصيات وأقدارها، وتقدم الإجابات الراجحة والمتعذرة عن الأسئلة التي تتفاقم مع تأزم الوضع الدرامي إيذانا بأن الإنفراج قد يأتي وقد لا يأتي.

تتأثر هذه الرؤية الثنائية، التي تتحدى أحادية الوجود، وخطية التسلسل الزمني وتعرض المسارات الراجحة والمتعذرة جميعها وفقا لتنظيم متراكب قد يكون لا نهائيا، بمبدأ تراكب الحالات، الذي ينص على أنه “من الممكن لنظام كوانتي ما أن يوجد في حالات متعددة في الوقت الواحد، كل واحدة منها وقد خصصت باحتمال ظهور أو حدوث” كما يشير محمد الديوري في تقديمه للنص المسرحي.

أشرنا في بداية هذا المقال إلى أن من دلالات الجمع بين النقيضين في العنوان هو الرغبة في وضع الاحتمالات جميعها أمام المتلقي، وجعله يختبر أكثر من إمكانية، في الوقت نفسه، وبالتالي جعله يختبر أكثر من إمكانية في الوقت نفسه، فإذا كان الاعتقاد بالقدرة على تغيير العالم أو حتى أن ينتظر تحوّلاً ممكناً لها عتقادا متعذرا، إذ أن تحقيق ما نرغب فيه يتطّلب أكثر من حياة كما يرى فهد الكغاط، فالراجح أن الإبداع وحده ما يسمح لنا ببعض الحلم.

 

ختــــامـــــا

يصعب الحسم في الأسئلة العديدة التي قدّمت في ثنايا هذا المقال بالاعتماد على قراءة نقدية معزولة لنص “الراجح والمتعذر” وحده، بوصفه نصا ينتمي إلى مشروع أدبي ومسرحي مترابط، ضمن ثلاثية مسرحية كوانتية افتتحت ب”الإيقان أو الارتياب أو يوربيدس الجديد”، وسيتلوها نص يحمل عنوان “المشابكة”، وهو مشروع استلهم من مفاهيم الفيزياء الكوانتية لجعل المسرح فضاء تجريبيا بامتياز، بالمعنى الفيزيائي والأدبي معا، وبالتالي يمكن القول إننا امام نص مسرحي يوظف اللغة وبلاغتها، والفيزياء ومبادئه لتأمل الوجود والمغامرة بإعادة ترتيبه وفقا لرؤية تراعي احتمالات الكائن والممكن وجوده، والراجح والمتعذر تحقّقه، لتقدمه في تصور جديد ملهم وأكثر انفتاحا واستيعابا لإمكانيات الحلم والتجريب.

 

هوامــــــــــش:

– ابن منظور، لسان العرب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

– فهد الكغاط، الراجح والمتعذر، تجريب في المسرح الكوانتي، دار توبقال للنشر، ط1، 2020.

-موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة نعيمة بنعبد العالي، وعبد السلام بنعبد العالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت