دراسة تحليلية نقدية لمسرح اللاتوقع الحركي القصير / بقلم: د. طالب هاشم بدن

مقدمة ..

الكاتب والمخرج الاستاذ الدكتور ماهر عبد الجبار الكتيباني فنان اكاديمي من اقصى جنوب العراق /البصرة عرف بالجدية والحرص والمثابرة في مجال الفنون الدرامية، انطلق في بحثه عن التجديد والمغايرة في عطاءه الثر الممزوج بفطنته المعرفية آخذاً بنظر الاعتبار كل ما من شأنه الدراسات التي أثرت الوسط الاجتماعي الانساني والاكاديمي بالجوانب الدرامية التي عززت من انطلاقته في الاتجاه الصحيح والبحث العلمي الرصين وهو المتمكن من توظيف أدواته السايكولوجية والتي عززت من مدركاته الحسية نحو انتاج كل ما هو جديد وبدورنا يمكن ان نطلق عليه صفة الخبير في عالم الدراما بوصفه صاحب منجز ابداعي عريق ..
ضمن تلك الانجازات نتناول بالبحث والتحليل كتابه الجدلي (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) الذي ضم (123) صفحة في طبعته الثانية والصادر عن دار الفنون والاداب مركز انانا للابحاث والترجمة من عام (2024) ، إذ تناول فيه رؤية المؤلف ومجموعة من نصوصه التي كتبت لتلائم هذا النوع من المسرح وهي أشبه بعينات بحثية أراد من خلالها ان يعزز الصفة المهيمنة على مسرح اللاتوقع الحركي القصير ومدى تطابقها مع الرؤى الدرامية لهكذا منجز مبتكر فيه من الجدة والخوض في غمار تجربة فريدة والتي من حقنا ان نفخر بها كتجربة من الابتكارات المسرحية يمكن ان تحتل مكانة مهمة وكبيرة مع ابتكارات المسرحيين في القرن الحالي ..
ضم الكتاب ثلاث محاور فجاء المحور الاول تحت عنوان ( اللاتوقع الحركي القصير وآفاقه التكوينية ) وهو يسلط الضوء على التعريف بماهية ذلك المسرح وتعريف المتلقي بتكويناته وافاقه ، أما المحور الثاني فكان تحت عنوان ( فاعلية التمرين وعوامل الفهم والتجسيد ) وهو دراسة وعرض رؤية شاملة لدور المخرج وطرائقه في بلورة وانتاج مسرحيات توضح وتتناول الاطر والمفاهيم الجمالية والاجتماعية لهذا المسرح ، ومن ثم يأتي المحور الثالث ليضم مجموعة نصوص مسرحية تحت عنوان ( نصوص مسرح اللاتوقع الحركي القصير ) والبالغ عددها ضمن هذا الكتاب ثمان مسرحيات دون تواريخها منذ عام ( 2000) حتى يومنا هذا وهي اشارة واضحة على قدم التجربة وحداثويتها والتفكير في تطويرها على وفق دراسات معمقة ، الامر الذي يعكس عمق دراسة الكاتب والافادة من تجارب عدة اضافة الى خبرته الاكاديمية التي عززت اتقانه ذلك النتاج الكبير …

مسرح اللاتوقع الحركي ومغامرة التجديد …

ان المتتبع لمسيرة المسرح وانطلاقتها منذ نشوء الحركة الدرامية على يد ( ثيسبيس ) والذي يعد المنطلق الابداعي الاول من خلال تجواله في عربته ونشر الافكار والاناشيد والاشعار الهوميرية جعل منظري المسرح ومن جاء بعده الاخذ على عاتقهم التفكير في الافادة من التطور ومواكبة حركة الابداع وتسارع ايقاع الحوادث بشكل تصاعدي الامر الذي اتاح لكتاب الدراما فرصة الخوض في تجارب جديدة للمسرح والحصول على السبق والمعلومة ومن ثم التنقل والافادة من مضامين الماضي وتجسيدها في الحاضر من النواحي الادبية والثقافية والفنية ، ومن جملة تلك التجديدات ما شهده العالم من ثورة تطورية وظهور مناهج ومدارس ادبية متنوعة تجلت فيها دراسات وطروحات علمية عملية اتخذت منحى من التجديد على وفق التطور الحاصل والمواكب للانسان ومراحل حياته وتقلباتها .. ان الطفرة التي احدثها المنظر العالمي ( بروتولد بريخت) وتغيير مسار المسرح في مسرحه الملحمي اللاأرسطي ما هو إلا دليل واضح على تلك الثورة الفكرية في تغيير مسار الدراما والحركة الثقافية التي كسرت الايهام واضفت على عالم الدراما لونا مهما في جعل المتفرج جزءاً من العرض …. من تلك التجارب وغيرها وعبر دراسات علمية مستفيضة وجد المؤلف ( الكتيباني ) واستاذ الاخراج في جامعة البصرة / كلية الفنون الجميلة ضالته في ابتكار طريقة محايثة تندرج ضمن المغايرة في النص والعرض الدرامي الاكاديمي اطلق عليه ( مسرح اللاتوقع الحركي القصير ) الذي يعد انطلاقة علمية مهمة وفكر خلاق نحو التجديد في عالم الفن الدرامي ..
البشر هم من يصنعون تاريخهم ويخلدون وجودهم عبر الانجاز ، إذ اننا اليوم لم يسبق لنا التعرف على حضارات وانجازات السابقين لولا توثيقها وتدوينها ومن خلال الحفريات والبحث والتنقيب صارت تجارب يمكن الاطلاع عليها والافادة مما حوت ، فالحضارة البابلية وخلود كلكامش لم تصلنا ولا نستطيع التعرف على خفاياها لولا الحفريات والرقم الطينية المكتشفة عنها وكذا الحال للحضارة المصرية الفرعونية وغيرها التي اصبحت في متناول ايدي الجميع وذلك بفضل علماء الانثروبولوجيا والبحوث والدراسات ، ومن تلك التجارب وغيرها تجلت فكرة مسرح اللاتوقع الحركي القصير وغاياته .
الوفاء سمة لا يتحلى بها إلا النبلاء ، ونحن نخوض في ثنايا دراسات كتاب المؤلف ( الكتيباني ) نجده جدير بتلك الصفة وهو يؤطر إهداء نتاجه الفني لشخصية أثرت الفن المسرحي بغزير عطاءها ولها الفضل علينا جميعاً وعلى ثقافة العالم العربي عامة في الادب والدراما المسرحية ، إذ اضاءت كلمات الاهداء شخصية الفنان الدكتور الراحل ( سامي عبد الحميد ) الذي يستحق الذكر الطيب بوصفه منظراً ومخرجا وممثلاً قديراً شهدت له الاقلام وشاشات العرض والمسارح ، ذلك الوفاء الذي تجلى في شخصية الكتيباني قل نظيره اليوم .
في معرض دراستنا التحليلية لمؤلف الكتيباني يضيف البروفيسور مدحت الكاشف في تجلياته لمسرح اللاتوقع الحركي القصير قائلاً ( ان تلك التجربة ما هي إلا أورجانون ومحاولة جادة تسير على خطى بريشت وهو يتلاعب بمكعبات العرض وبناء عوالم حركة الممثل تدهش المتلقي عبر تجسيدات جستية سار على خطوط بيانية رسمت بدقة وعناية وما على المتلقي غير فك الشفرات وقراءة الافكار وتجلياتها ) إذن يقدم لنا المؤلف وصانع العرض جملة من الافكار ويضعنا في خضم جدليات عدة وما علينا كمتلقين إلا التأويل والتفسير وتفكيك واعادة بناء خارطة الرسوم المنبثقة عن النص والعرض .
ماذا يريد المؤلف منا ؟؟ .ببساطة يريد منا كمتلقين فهم مجريات العرض المسرحي ومتغيراته والتعايش مع العالم بصيغته المتغيرة ..
هلوسات …. يخاطب كاتبنا /المخرج الوعي بأسلوب عقلاني وهو العارف بخفايا مكنونات نفس المتلقي ، إذ ان المؤلف المخرج انتهج دراسة النفس البشرية وصاغ على وفقها اسلوب كتابة عرضه على وفق الصور المشهدية بطرائق فلسفية يخاطب من خلالها الغائب /الحاضر بأسلوب حبكي قل نظيره ؛ وبوصفنا حضرنا وشاهدنا عروض مسرح اللاتوقع الحركي وتلك التجربة وجدنا ان هلوسات هي مجموعة من الشفرات وسؤال طرح بأسلوب مدروس مفاده تفكيك العرض وتحليل شخصيات الممثلين بكل تفاصيلها بدءاً من المكعبات والديكور والاضاءة والازياء وصولاً الى تمتمات الحوار وتناغم الممثلين فيما بينهم لخلق ذلك السؤال ؛ فكل تركيب يوحي بأرتباطه فلسفياً بباقي التراكيب الاخرى والموجودات على خشبة المسرح بقصد التعبير عن رؤية العرض المتكامل . إذن نحن أمام مختبر جديد واكتشاف يضاف الى مجموع الاكتشافات المسرحية أسوة بأبتكارات المجددين أمثال ( آرتو ومسرح القسوة وباربا ومسرح الشمس والمقهورين عند بوال … والقائمة تطول ) بوصف إننا ندرك تجسيدات المؤلف /المخرج التي تجاوزت لحظوية النص لتؤسس مادة عرض بوهيمية يراد منها ادراك اللامدرك والاحساس باللامحسوس وقول ما لا يمكن قوله ومن ثم محاولة تفسيره عبر سلسلة من تجريد الكلمات وتفكيكها بفضاء العرض والحركة في الفراغ الابداعي واثبات الحضور الديناميكي لسلطة العرض .
خدملك عرض نص بلا نص وفكرة مدمجة بفكرة عرض تخيلي أشبه بهلامي كثيف غير محدد وهو ابتكار يضاف الى عرض صمم ليري ويستنطق استاطيقيا النص المؤسلب .
وتأتي انطلاقة هسهسات وهيت لك كباقي نصوص الكاتب /المخرج وسعيه في اضافة معالجات ايجابية تجذرت من موسوعته الفكرية المتجددة ليثير الدهشة والغرابة في العرض المسرحي وهو يستخدم اسلوب اللعب المسرحي والقفزات التعبيرية لفهم المسرح وعوالمه . غير ان العلاقات بين الممثلين عبارة عن تقاطعات وتشابكات نسقها منظومة كلمات ضمن فضاء العرض المسرحي تنوعت دلالاتها وبخاصة بتراكيب ازيائها والقطع المصاحبة لها ، إذ ان للديكور دلالة وللازياء دلالة وكذلك الاضاءة وكل يوظف تلك الدلالات لخدمة العرض ويساعد الممثلين في تنفيذ الادوار وحتى الجوارب القصيرة اختلفت في تعبيراتها ومتغيراتها الانطباعية فهي تفصح عن عرض تفكيكي يحتمل تأويلات عدة ويجانب الواقعية على الرغم من تناوله صوراً مركبة تقترب إلى حد كبير من تجسيد الواقع .
يعزو المؤلف /المخرج مسرح اللاتوقع الحركي القصير الى العرض الصوري الذي بدوره يجعل لغة الصورة الجمالية العنصر المهيمن على بنية العرض المسرحي بوصف ان ” الصورة تنفتح على لغات كامنة في الفهم والتدليل ” ص 26..وقد وصفه على انه ديدن البحث في هذا المسرح وجوهره المغاير .
من تلك التجديدات خرج مسرح اللاتوقع الحركي القصير بأسلوب مغاير متجدد يضاف الى ذلك مجموعة من الممثلين الذين اتقنوا ادوارهم والتزموا بتعليمات المخرج المؤلف ليبدعوا في تجسيدات الادوار المناطة لهم وبهم بحركاتها الرشيقة واسلوبها الدراماتيكي المغاير عبر رسم صورة بصرية واستثمار المتخيل المرئي ، وتكثيف المادة الدرامية للنص المسرحي كما يذكر في ص25 من متن الكتاب. ويضيف مؤلفنا في محفل اخر ان مسرح اللاتوقع الحركي القصير “يكون التشكيل النوعي في الذهنية الاخراجية بوصفها الراصفة لمناطق تحرك الرؤية التي تمتزج فيها القيم الفكرية بوصفها الاداة الموضوعية التي توجه قوتها نحو الذهنية المتلقية عبر موجات من الصدمات لأخراجها عن حدود النمطي والسائد والتقليدي والمألوف “ص28. إذن احداث الصدمة يعد جوهر فلسفة ما جاء به مسرح الكتيباني المغاير وهو إنموذج حي للتجديد وكل ما فيه غير متوقع “قصير الاحداث والزمكانية على شكل ومضات متتابعة بوصف ان حركية الشخصيات متزامنة مع التكوين الضوئي المتصل بحركية لونية مواجهة للممثل “ص34.
يحقق المسرح الجديد قفزات في الحدث الدرامي بين مشهد وآخر على الرغم من وحدة الموضوع ، ومن الواضح ان مثل ذلك النوع من المسرح يحتاج الى ممثل حاذق مثقف قادر على فهم شفرات النص يترجم الافكار ويحلق في عوالم من الابداع ويرتقي الى وعي وفهم المتلقي الحاذق العارف بيد ان مسرح اللاتوقع الحركي القصير يذهب الى وعي وفهم المتلقي وربما يشترط المتلقي النخبوي القادر على التأويل والتحليل والتفسير ، وهنا يكمن الدور المهم لهذا النوع من المسرح . ولو ذهبنا الى مسرح المقهورين عند اوجستو بوال وبالتحديد في مسرح المنتدى لوجدنا ان بوال يعزز التشابك بين الممثلين والمتفرجين في انتاج العرض ويعزو ذلك الى ان المسرح هو نحن لأننا جميعا ممثلون ولأن المسرح ليس بحاجة الى جمهور ومنصة بل الى مؤدٍ ليكون قائماً وموجوداً ، فيما نرى مسرح الكتيباني يشرك الحضور في منح الفكرة المقترحة مساحة مضاعفة من التفكير .ص44. لحل الغموض الذي يدفع الى اثارة الاسئلة . وما رحلة عوالم الابداع ونصوص مسرح اللاتوقع الحركي القصير إلا مجموعة من الالغاز يقودها مؤلف /مخرج حاذق اكاديمي اتسم بوعي خلاق آل على نفسه إلا الخوض في غمار المغامرة والارتقاء بالفن بمستويات ابداعية تجلت في نتاجه المعرفي المغاير الذي جعل حركية المسرح جزءاً من تواصلية المتلقي …

* د. طالب هاشم بدن / جامعة البصرة كلية الفنون الجميلة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت