(فلسفة النص المسرحي بشهادة (السؤال الكلب وأنا) شوقي كريم حسن) معاينة.. / علي حسين الخباز
التعب المر ومكابدة الحياة الفكرية العسيرة جعلت الكثير من الفلاسفة الكبار يعيشون بلا حاضر، ولا شيء يفترض الواقع، ضاعت الأسماء والملامح ولا حدود لوجود أو حياة، فانتزيا لا تستند إلى واقع، بل مؤثثات خيال مبدع أو بمعنى آخر…
تناول شوقي كريم حسن في نصه المسرحي (السؤال الكلب وأنا) الواقع برؤية غير مألوفة، ومن الممكن جدا أن يصبح المسرح وسيلة للاستكشاف الفلسفي، أي بمعنى أن يجسد النص بعض المفاهيم الفلسفية، وما يسميها بترميم روح الحضور، ومن ثم يسأل في حوار من حواراته
ـ كيف يمكن للموت أن يرمم حضورا ميت؟
لا أبحث في تاريخ الفلسفة، أو في وجدانيات النص الفلسفي المسرحي، ولا كيف استجاب المسرح للنظريات الفلسفية؟
أنا أبحث في العلاقة الثرية والعميقة بين هذا النص والرؤى الفلسفية المعروضة فيه وإمكانية نقل تلك الرؤى بفاعلية عالية للوقوف بين علاقة الصمت بالألوان، وعلاقة البياض بالخط الأحمر وبالصمت، والسؤال الجازم والحاسم
ـ إلى أين؟
معظم النقاد أثاروا مسألة علاقة المسرح بالفلسفة باعتبارها أهم التعبيرات المعرفية الإنسانية،
السؤال مثير للتفكير ودافع للتعمق الجاد، لكن أي سؤال فيهم؟
تبعثر العمر له سؤال
ـ فماذا أكون أنا؟
والسيدة تسال عن إمكانية انتهاء الصمت.
ـ متى ينتهي هذا الصمت؟
والرسام الفنان يسأل:
ـ ما فائدة لون مأخوذ؟
والرسام الإنسان يسال:
ـ ماذا يمكن أن أكون؟
والسؤال هو أيضا مسعى لسبر أغوار هذا التداخل العجيب بين الألوان والتأثيرات المتبادلة، والعلاقة الجدلية بين الخطوط
السؤال الأهم كيفيه فهم الوجود؟
أي معنى لكل هذا الحزن؟
الوان تمتزج، والوان لها فسحة فلسفية، ربما عبارة عن لحظة صمت أو ومضة فنية أو فكرة يتصورها المتلقي عابرة، وإذا بها تتدفق بالمفاهيم لتعزز لنا الرؤى.
صوت ارتطام الصمت، هكذا ظننت ارتطام جسد له صوت وبكاء، وأصوات دبابات وتعمق هذا الفهم أمام خطوط.
ــ خطوط لا يمكن أن تفضي إلى شيء
أراد أن يوضح للعالم إمكانية أن يكون الثراء روحا تمتلأ بالحيرة والغرابة، القادرة على الوقوف عند المعنى الذي يشكل البنية، وتتجلى الفكرة كوسيلة، ويضيف الشعر المتعة لتأملنا الفكري.
(مهجور مثل وردة ذابلة، يا لها من فكرة؛ وسط امتداد قاحل من رمل، له لون التماع النجوم، ثم وردة تتيبس ببطء، ببطء شديد، وريح تدوم عاصفة وفي البعد القصي تقف امرأة)
نلاحظ مديات القدرة على تعزيز المضمون وخاصة في خطاب الحياة والموت، الحرب والحب، والمصير، وتأثير القدرة المطلقة والقيمة الدلالية لكل فعل يحرك العواطف ويشجع الانفعالات، تبرز الكثير من الانفعالات العصبية، رسم دوائر بالألوان، منها الأسود، الرسام يصطدم بالكرسي والسيدة تعدل الكرسي بهدوء.
صراعات نفسية، وصراع الرغبات والعواطف والانفعالات والوجع لا يحتاج إلى مدارس لتنظيم الأنين، حكمة الموجوعين تشييد الأفكار الفلسفية.
ترى السيدة ملكات النفس البشرية ووظائفها تعمل بوصفها وحدة كاملة، فهو وهم رومانتيكي لا يقل في خطته عن الاعتقاد المزعوم بوجود حقيقة مستقلة، الروح الشعبية والروح الجماعية بمعزل عن نفوس الأفراد.
لتصل إلى مفهوم عند الإيمان سلوك لا يتميز قط.
يعمل شوقي كريم حسن على تجاوز النمطية السردية والسعي إلى مسرح رؤى يعالج به قضية الإيمان بوعي.
(الإيمان وعي يبدأ، وأول برق ضوء يراه الإنسان هو دائم التجديد والتحرك)
هل مثل هذا النص المسرحي وجد ليمثل أو ليقرأ، أنا انحاز لعالم القراءة أكثر، يتجاوز الحدود الزمانية، وتبقى النصوص في زمنية مفتوحة للقراءة كونها تعبر عن أفكار فلسفية تكررت فيها الأسئلة والافتراضات، والانفتاح الخيالي والومضات عالية الجمال، وشطحات فلسفية.
(كنت أشعر أن اللون الأخضر لا يمكن أن يكون سوى سيد الألوان، أما الآن فإني أراه مجرد بضعة قماش عتيقة)
والسيدة تسأل (لمّ تغيرت ألوان الود في أعماقك؟ كنت أراك ترتجف عند مرأى السكين، وتبكي لحظة تبصر وردة ذابلة)
تكمن القضية في أن المسرح إنتاج معرفي وأدبي وفني، زاخر بالحكمة والفلسفة وأغلب تلك الأمور الفلسفية نجدها في حوارات شوقي كريم حسن عبارة عن ومضات متضادة في مضامينها تمنحنا عمق فلسفي، فلسفة الحوار في هذا النص له دور يبسط المعنى، وينهض بإيقاع الحياة وتصل بعض تلك الحوارات إلى عمق الفكر الوجودي فيصبح النص صراعا بين الوجودية والإيمان
ــ (وحيدة خطوات الأحزان، وحيدة تعدو باتجاه مساحات المجهول، وأنت أيها المطلق في تقرير الأقدار)
يتحول السؤال إلى عتاب تنصهر فيه جوهرة المعنى
(ــ أنت ما فائدة حضورك إزاء ما يحدث)
يتبلور الحوار بأفكار ومواقف وحقيقة إنسانية لا يمكن التفكير خارج القدرة، الرسام يقر أمام هذا الإقرار الصعب
ـ إن حياتي تسير في ظلمة، كل شيء بات بلا معنى حتى وجودي، صارت الأسئلة تحاصره، أريد الوصول إلى حقيقة وجودنا.
استطاع الكاتب شوقي كريم حسن أن يعالج هذه الهواجس عبر تنامي الحوار، عبر فلسفه المعنى.
السيدة عندها فهم كامل لمعنى الإشكالية التي يعيشها الرسام، القضية ليست قضية شعارات بل في جوهر وصلب المغزى
ــ أنت تحطم محيط بهائك وتريد إعادة تشكيله
أمام فهم الرسالة لمعناه المشوش والمضبب
ــ نحن الذين نشتغل بالألوان وبهرجها، لا هم لنا سوى إعادة تشكيل ما نرى، أبدأ ما نحس بطعم الحياة دونما هذا التشكيل
للحوار دلالات ولجت العمق الفلسفي للإيمان
ما فائدة الإيمان دون أن نؤمن به ونتمسك وأن نراه هوية تدعم الأحلام وترمم الوجود.
الصراع يدور في هذا النص بين العتمة والنور، الروح والجسد، السيدة ترى أن ظنون الرسام ليست هي الحقيقة المطلقةـ
السيدة: ـ ما رغبت يوما بنصف حلم، وأبدا أبدا ما كنت أحلم بحطام الأحلام.
من مميزات الومضات الفلسفية، أنها تحتاج مساحة وعي تثير فيه آفاق التأمل وحرية في التعبير، مغامرة أن يثير الكاتب كل هذه الرؤى الفلسفية عبر حوار بين شخصيتين، حاول أن يتوازن بين الرأي الفلسفي الخاص وبين القبول المجتمعي ليخلق مناقشة ذهنية مفتوحة داخل كل ذات عبر الزمن المفتوح ما بعد التلقي، بمعنى أن البعد الفلسفي هو بعد بناء يبرز رؤية الإيمان بأسلوب متجدد
ــ كنت أخاف الإنسان اللاهث صوب الموت، ترعبني الشيخوخة، وتثير وحدتي أسئلة النهايات، وكيف يكون الخلاص والأكف مقيدة إلى الفوهات، ما كان الإنسان أمام عيني سوى انتظار النهاية خوفا وترقبا وفجأة تغدو الأحلام نثار تراب، لهذا حاولت إيجاد منقذ للخلاص.
من مميزات الفعل الدرامي إنه لا يخضع إلا لرؤية الكاتب و انتمائه لعالمه الفكري والروحي، وقد سعى الكاتب شوقي كريم حسن لإخضاع عملية المسرحة إلى قاعده يشيد عليها المرتكز الدرامي مثل الأبواب الأربعة، والأقفال والجدران، قاعدة الرسم، اللوحات، صور الممثلات، ومع ارتكازه على الأسس الثانوية رسم الديكور، تحديد مواصفات شخصياته، وبعض البيانات الخاصة بحركات الممثلين، وسير الحبكة المعروضة، وشروحات مساعدة تفيد في التفسير، لكنه اعتمد على الحوار لتنمية وتصاعد الأحداث، وكشف أبعاد الشخصيات وطريقة تفكيرها خاصة أنه رفع منها حدود الزمان والمكان وافتراض أنهما يعيشان بلا واقع.
هذه الفكرة بحد ذاتها تفتح المساحات الذهنية وتحولها إلى عوالم روحية محررة من الفكر الآني، ومميزات مثل هذا التحرر تعطي للحوار أبعادا فلسفية ترتبط بالوعي الإنساني، وفاعلية الحوار عند شوقي كريم حسن لا تكتفي بالكشف عن المشاعر والعواطف وإنما تذهب إلى أعماق المواقف والرؤى والمعتقد الإيماني الحر، ويتصاعد الفعل الدرامي عنده من خلال الحوار الوامض والباحث في وجهات النظر لخلق فضاء درامي عبر هذا الحراك، قضايا كبيره تثيرها ومضات تتجلى فيها التداخلات القوية المنفعلة في عالم مضطرب، السؤال، الوامض في جوهر المظلوم يعزز الفهم الدرامي في نص يتساءل عن إمكانية ترميم روح الحضور بعد هذه الانهيارات؟
صراع خفي بين التراجعات وأمال النهوض، النسق التصاعدي عبر تلك الخطوط/ الأصوات الحادة/ أزيز الطائرات/ الخطوط/ تشكلات الغضب/ صرخات اللون/ والأسئلة في حوارات وامضة تثير الأحاسيس والمشاعر
ـ الخطوط لا يمكن أن تفضي إلى شيء، هكذا يظن الرسام، والحوار الفلسفي يصل إلى عمق الحياة، الحوار الوامض يعزز الفهم ويرسخ مفهوم الصمت ويطرح تعريفا للمشكلة، المشكلة في العزلة، المشكلة في انسداد الطرقات.
الشخصيات المرسومة في النص هي شخصيات ذهنية تعرض مساحات مؤثرة عبر الصراع/ الوهم/ الوجود/ الإيمان/ والبعد الروحي، في كل حوار مساحة اكتشاف جديدة، قراءة جديدة قد تكون دلالة جريئة أو معنى لصراع ذهني وتأويلات ذهنية صارخة مثل تغييرات اللون.
(كنت أشعر أن اللون الأخضر لا يمكن أن يكون سواء سيد الألوان، أما الآن فاني أراه مجرد قطعة قماش عتيقة، وها أنت تزين كل ما يحيطني بما يذكرني بلون الدم)
الملاحظ أن مثل هذا الحوار يعكس التمهيد لبناء درامي ويكشف عن صراع ذهني خفي، الحوار البنائي من خاصية البناء الدرامي وإمكانية شوقي كريم حسن من الدخول إلى العمق الجوهري للفكر الفلسفي المرتبط بالحضور والتميز والإيمان، والعبث والبحث عن المعنى بوضوح، والدخول إلى عمق فهمنا الإنساني، إلى قدرات المطلق في تقرير الأقدار وكأنه يرثي قدرات الإنسان المهدورة في بناء عالم يبحث عن الأمان ليصل بنا إلى نتيجة الإحساس بالخوف، ويجعل الآراء لا تستند إلى الواقع، طرح قضية الإيمان بوعي، وشكل عبر حواراته التي تقترب من الومض لتعزز الفهم الدرامي، وتضيف إلى هذا المبدع فرادة تشهد له تجربته الإبداعية الفاعلة.