“لعبة النهاية” في الطليعة.. عرض يليق بالعبث الذي نحيا/ محمد الروبي

حين علمت أن المخرج السعيد قابيل يستعد لإخراج نص صمويل بيكت الأشهر ( نهاية اللعبة ) أشفقت عليه، وتساءلت الآن يا السعيد؟ وربما لذلك تأخرت كثيرا في الذهاب لمشاهدة العرض على الرغم من ثقتي الكبيرة في قدرات قابيل التي خبرتها طوال سنوات طويلة ماضية. لكن الثقة لم تمنعني من الخوف على سعيد في التصدي لنص ملغز خرج إلى العالم في توقيت يليق به واستقبله مشاهدي ونقاد ذلك الزمان القديم ( أواخر خمسينيات القرن الماضي ) بتوجس وريبة، ثم سريعا ما ساهم مع نصوص أخرى لمبدعين أخرين من بلدان مختلفة في وضع أساس صرح مسرحي جديد أطلق عليه البعض اسم ( العبث ) والبعض الأخر أطلق عليه ( اللامعقول) .
في الطريق إلى المسرح ( الطليعة ) ووسط صراع معتاد مع زحام عشوائي وصراخ وشتائم متبادلة بين أصحاب فرشات البضائع وزبائنهم وبين بعضهم البعض، ومع أصوات متداخلة مشكلة من قراءات مختلفة للقرآن وأغاني المهرجانات وحكايات سرية تقال علنا على هواتف محمولة و.. و… تأكد لي السؤال وزادت شفقتي على السعيد قابيل ( عن أي عبث ستحدثنا وسط كل هذا العبث ؟ ).
لكن ومع استلامي للبرنامج المطبوع للعرض ومطالعتي لكلمة المخرج سعيد قابيل أيقنت أن تقديم ذلك العرض جاء في إطار الإحتفاء بالنص الذي كان قوام أول عرض قدمه مسرح الطليعة – الوليد آنذاك – قبل ستين عاما وكان من إخراج الشاب سعد أردش. وهي لفتة تستحق وحدها توجيه تحية شكر لمدير الطليعة المخرج عادل حسان.
و مع دخول أول للقاعة بدأت أفطن لسر آخر يخص رؤية سعيد لذلك العبث القديم. وانتبهت إلى حرصه باتفاق مع مصمم ديكوره (أحمد جمال) على أن يشكل المقعدين الأماميين على جانبي صالة العرض بما يقربهما من مقعد (هام) بطل المسرحية المشلول الضرير، لتصبح الصالة بأكملها كرسي متحرك نجلس عليه نحن قعداء الواقع وقعيداته نتوحد مع ذلك الذي نراه الآن يتوسط مساحة التمثيل ينتظر (نهاية اللعبة) – التي هي الحياة – حسب العنوان الأدق للنص الأصلي.
يجلس “هام” على كرسيه وسط حجرة رمادية باهتة ذات حوائط مائلة تستعد للإنهيار. لا يميزها إلا نافذة في العمق وأخرى على الجانب الأيسر قرب مطبخ يظهر منه القليل الكاف. على اليمين سلتان للقمامة سنعرف فيما بعد ونرى أن والد هام ووالدته يعيشان فيهما .
“هام” يحيا مع خادمه “كلوف” الذي لا يكف عن التذمر من طلبات سيده السخيفة والمتكررة لكنه ينفذها بطاعة مدهشة. وكما يعاني “هام” من شلل وعمى، يعاني “كلوف” من عرج يمنعه من الجلوس. ومع ذلك يروح ويجيء في نشاط مدهش يلبي نداءات سيده غريب الأطوار.
في هذه الأجواء الرمادية الكئيبة، لا شيء يحدث، لا شيء حقيقي، حتى الكلب الذي يحرص عليه “هام” هو كلب مصنوع من قماش ومبتورة إحدى سيقانه. حوار (هام و كلوف) لا يفضي إلى شيء ، مجرد ثرثرة متكررة ، تعكس تكرار لعبة يمارسانها بجدية مدهشة منذ سنوات وربما منذ بداية وجودهما.
من السهل ان يصيبك عرض قوامه هو (اللاشيء) بضجر وتأفف، وهو ما لم يحدث، ربما فقط ما وصفته بـ (الشجن الموجع) ولذلك أسبابه، أولها ذلك الوعي غير العادي عند كاتبه الذي استحق وعن جدارة لقب (رائد مسرح العبث) بما حققه من حوار – رغم عدم تواصله – يضعك مباشرة في بؤرة اكتشاف ذلك العالم الذي نحياه، عالم اللاجدوى، والإنتظار للا شيء. وثانيها وعي مخرجه بطبيعة ذلك النص وحرصه على أن تأتي مفرداته تصل بك كمتلقي إلى هذا الشعور (أن تقف على حافة الضجر، لكنك لا تصل إليه) وهي مفردات تبدأ من تشكيل لمنظر مسرحي برع مصممه أحمد جمال في إشاعة هذه الأجواء دون تكديس لعلامات دالة مفسدة، وباختيار دقيق لألوان تبدأ من رمادية الحوائط المائلة مرورا بدرجات البني الباهت في ملابس الشخصيات المتناغمة مع أجواء الكآبة التي يشيعها لون الحوائط. ناشرا لمجموعة من سلال القمامة في أجواء الغرفة لتؤكد من ناحية على وصف العالم الذي تحياه الشخوص، ومن ناحية أخرى تصنع توازنا تشكيليا مع بقية المفردات كالسلم والنجفة المضاءة دوماً دون احتياج ولكنها تؤكد على عبثية الأشياء. ومروراً أيضا برسم حركة ممثليه (للحق ممثل واحد يتحرك ويحرك الآخرين، هو الخادم) التي جاءت حركته حادة يؤكدها عرجه وترسم مع ميل الحوائط خطوطاً أقرب إلى علامات الـ( خطأ ).
وصولاً إلى إختيار ممثليه وعلى رأسهم المخضرم محمود زكي الذي قدم هنا تطبيقا عملياً لفنون الأداء التي يُدرسها لسنوات. فمحمود زكي هنا هو “هام ” بكافة تناقضاته (كئيب ومرح، غاضب ومستجد، عنيف ورقيق .. ) يتلون صوته دون إدعاء وبحرص على أن تقف تجاهه محايداً لا متعاطفاً ولا ناقماً. هو أنت بدرجة أو بأخرى.
وإذا كان هذا الأداء متوقعاً من أستاذ تمثيل، فإن المفاجأة جاءت عبر دور ( كلوف )، الممثل محمد صلاح، الذي استطاع أن يقف ببراعة أمام مخضرم يأخذ منه ويعطيه. بل ويمنح شخصيته ملامحاً تؤكد على كونه الخادم المستكين، المنفذ لأوامر عبثية لا يقتنع بها، يتأفف دون اتخاذ رد فعل حقيقي، تقول عيناه الكليلتان ما لا تفصح به كلماته، ويمنحك في النهاية إحساسا بالقهر المختار فتتسائل ( لماذا لا ترحل ؟ ).
وهكذا أجابني عرض ( لعبة النهاية ) عن سؤالي المتحفظ( لماذا الأن ). هو عرض جدير بالمشاهدة.. والأن تحديدا في زمن اللاجدوى الذي نحيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت