حوار مع الكاتب المسرحي سلافومير مروجيك/ أجراه: الكاتب السويدي (أوتو مانهايمر)، ترجمة: د. فاضل الجاف
مقدمة عن الكاتب المسرحي البولوني سلافومير مروجيك (1930-2013)
يصف الباحث المسرحي العالمي مارتين أسلن الكاتب المسرحي البولوني سلافومير مروجيك في كتابه المرجعي مسرح اللامعقول بأنه “أهم كاتب مسرحي من بين كتاب المسرح الطليعي البولوني الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن الماضي”.
كان مروجيك في عنفوان شبابه عندما غادر بولندا عام 1963. ولكن إلى أين؟ يطرح مروجيك هذا السؤال في مسرحيته المهاجران، حيث يعبر عن حال معظم اللاجئين الذين لم يكونوا يعرفون أين سيستقرون، بقدر ما كانوا يعلمون أن الوقت قد حان للرحيل. الإنسان، كما يشير في المهاجران، لا يغادر إلى بلد، بل يغادر من بلد. وكان عليه أن يغادر بولندا الخاضعة للحكم السوفييتي في ظل الإرهاب الستاليني. حينها كان في الخامسة والعشرين من عمره، فبدأ رحلته متنقلًا من بلد إلى آخر؛ إيطاليا أولًا، ثم المكسيك، إلى أن استقر في باريس حيث قضى معظم سنوات شبابه. وقد عبّر عن معاناة الهجرة وشظف العيش في المنفى في مسرحيته الشهيرة المهاجران.
ظل مروجيك قلقًا بشأن بولندا، قلقًا داهم روحه وعقله طوال سنوات الغربة ومنفاه الاختياري. وقد عبّر عن همومه الوجودية والسياسية في جميع مسرحياته الطويلة وقصصه القصيرة، مستخدمًا لغة مشحونة بالتهكم والسخرية وبطابع غروتسكي رمزي. ويتفق النقاد، وفي مقدمتهم أسلن، على اعتبار مسرحيته الشهيرة تانغو (1965) أكثر أعماله تكاملًا وعمقًا وفرادة.
في تانغو، يصوّر مروجيك بولندا كعائلة كبيرة تديرها أم مثقفة، لكنها تتعرض يوميًا للاغتصاب من قبل العامل “إيدي”، البروليتاري الأجنبي الفظ، الذي يظهر في المسرحية كرمز لشخصية ستالين. وفي المقابل، نجد الابن “آرثر”، الذي يعاني أشد المعاناة جراء ذلك. ويلجأ بعض النقاد إلى مقاربة المسرحية مع هاملت، معتبرين “آرثر” شخصية قلقة وباحثة مشابهة لهاملت في عدة جوانب.
بدأ مروجيك مسيرته الأدبية بمسرحية الشرطة (بوليس) عام 1958، حيث كشف عن موهبة أدبية فريدة وأسلوب متميز. تأثر مروجيك، كما تأثر جيله من كتاب المسرح الطليعي البولوني، بمسرحيات الكاتبين فيكتيفيتش وغومبروفيتش. تدور أحداث الشرطة حول آخر رجل ثوري مناهض للنظام في بلد يحكمه نظام فاسد. فهو آخر معارض قابع في سجن النظام، يرفض سنة بعد سنة التوقيع على استمارة الاستسلام. وفي المقابل، تحاول الشرطة إقناعه بالاستمرار في المقاومة والبقاء في السجن كرمز للمعارضة ضد النظام، لأن النظام الفاسد يحتاج إلى معارضة صورية. لكن المفاجأة تأتي عندما يوافق المعارض على التوقيع على استمارة الاستسلام، مما يسبب خيبة أمل للشرطة.
في المنفى، استمر مروجيك في كتابة المسرحيات التي عرضت على مسارح عالمية. وقد حظيت مسرحياته بعروض متميزة في معظم الدول الأوروبية، وخاصة في فرنسا والسويد.
من بين أهم أعماله: السفير، فيجسلاف، في عرض البحر، التعرّي، الحفلة، الليلة المسحورة، النبيّان، المهاجران. أما مسرحيته الأخيرة حب في قرم، فهي تصور مأساة تخلي ستالين عن بولندا لصالح ألمانيا النازية مع بداية الحرب العالمية الثانية، وكأن المسرحية امتداد أو صدى لمسرحية تانغو.
يدرج مارتين أسلن في كتابه مسرح اللامعقول مسرحيات مروجيك ضمن هذا التصنيف، وهو أمر لم يلق قبولًا لدى مروجيك نفسه. ومع ذلك، يرى النقاد سمات مسرح اللامعقول في معظم أعماله. وقد عبّر مروجيك عن إعجابه بأسلوب صموئيل بيكيت في العديد من المناسبات.
بعد خمسة وعشرين عامًا من حياة المنفى، عاد مروجيك إلى بولندا عام 2008 ليستقر في مسقط رأسه بمدينة كراكوف.
-هل شاهدت عروض مسرحيات شكسبير التي أخرجتها أريان منوشكين للمسرح؟ شخصيًا، أعجبت كثيرًا بعرض مسرحية “الليلة الثانية عشرة”.
لا، لم أشاهد أيًا من تلك العروض.
– لكنك شاهدت عرض مسرحيتك “السفير” في ستوكهولم؟
نعم.
– ما رأيك في العرض؟
بالطبع، كنت راضيًا جدًا عن عرض ستوكهولم. وفي عرض المسرحية في كوبنهاغن بدا لي أن استقبال الجمهور كان جيدًا.
– هل تعرف تشيورو؟
لا، لا أعرفه.
– يُعتبر تشيورو مخرجًا نجمًا في باريس.
طبعًا هو كذلك، لكني لا أعرف عددًا كبيرًا من الناس، ولا أشاهد الكثير من العروض. فمعرفتي بما يجري فيما يسمى “الحياة الثقافية” انتقائية وعرضية للغاية. أنا لست من النوع الذي يدعوه الفرنسيون “المهتم بكل شيء”. باختصار، أنا مشغول جدًا. لذا، فإن “الإلمام بكل شيء” هو مهنة خاصة بحد ذاتها. وإلى جانب ذلك، لست مهتمًا بكل شيء.
– ومن أين تستلهم مادة كتاباتك؟
أستلهم مادة كتاباتي من كل شيء ومن لا شيء في هذه الحياة. وإلا يصبح الأمر مجرد نقل قطعة من ثقافة إلى ثقافة أخرى، وهذا شيء عقيم في حد ذاته.
– ولكن، هل صحيح أنك تُدرج ضمن تقاليد مسرح اللامعقول؟ وهل صحيح أنك تتخذ من لويجي بيرانديللو نموذجًا تقتدي به في مسرحياتك؟
كما ترى، أنا أكتب مسرحيات منذ حوالي عشرين عامًا. لذا، فإن ما كان يُعدّ صحيحًا في وقت ما، لا يمكن أن يُعدّ صحيحًا في وقت آخر. عندما وعيت، كان مسرح اللامعقول شيئًا كبيرًا في ذلك الوقت؛ يونسكو على سبيل المثال. لكن من يهتم بمسرح اللامعقول اليوم؟ اسمحوا لي أن أوضح هذا بمثال: أنا قارئ صحيفة نهم. في أوائل السبعينيات، قرأت قصة حول تلك المجموعة اليابانية التي قامت نيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية بإطلاق النار على مجموعة من البرتغاليين، لاعتقادهم أنهم يهود. ما أعنيه هو أنه عندما تريد مجموعة يابانية تعمل لصالح العرب أن تقتل مجموعة من البرتغاليين لمجرد اعتقادهم أنهم يهود، فلماذا يجب أن نخترع مسرحًا سرياليًا أكثر من هذا؟ ربما نحتاج مثل هذا المسرح لقتل اليابانيين والعرب واليهود معًا، لكن في هذه الحالة من الفوضى المطلقة التي نعيشها اليوم، فنحن بالكاد نحتاج إلى مسرح اللامعقول.
– إذن فأنت تعني أن لغتك الدرامية…
لا، أعني فقط أننا نعيش في فوضى كبيرة اليوم. ومن الذي تصدمه الأعمال الأدبية في حين أننا نعيش في مثل هذه الفوضى؟
– لكنك ما زلت تجد نفسك في نفس الموقف الدرامي بشكل أو بآخر.
بالطبع لا. بطبيعة الحال، كوّنت خبرة خاصة، ونوعًا معينًا من التقنية، لكني فيما بعد غيرت اتجاه اهتمامي تمامًا. فلم أعد منجذبًا إلى…
– وكيف تريد أن تصف هذا التغيير؟
كما تعلم، من الصعب وصف هذا التغيير لأنني أنجز الأشياء دون التفكير كثيرًا فيما سأفعله. أنا لا أجلس بهدف اختراع فكرة لأنطلق منها فيما بعد.
– لكن لو عدنا إلى الوراء، أتذكر أني شاهدت في أوائل الستينيات عرضًا لا يُنسى لمسرحية “تانغو” على المسرح الصغير (مسرح الاستديو) بمدينة غوتنبرغ في السويد.
التانغو لا ينتمي إلى مسرح اللامعقول بأي حال من الأحوال. وبمناسبة الحديث عن علاقتي بمسرح اللامعقول، فأنا لم أكن أبدًا كاتبًا لامعقولًا بالمعنى الكلاسيكي للامعقول، لأنني ببساطة أتيت من ذلك الجزء من العالم حيث تدور فيه القضية الرئيسية حول الضروريات الأساسية للحياة. قيم ذلك العالم بسيطة للغاية. فأنا، كطفل من أوروبا الشرقية، كان دائمًا من المستحيل بالنسبة لي أن أعتقد أن المسرح هو من أجل المسرح فقط. فإذا استخدمت أسلوب مسرح اللامعقول، كان ذلك بهدف تعمية الأعين، أو لأتمكن من استخدام نوع من السخرية من النظام، أو بالضرورة كمطالبة بشيء بسيط وبحرية بسيطة. لم أكن أبدًا كاتبًا لامعقولًا حقًا.
– ولكن فيما يتعلق بنوع من استخدام السخرية والتأثير، فإن أسلوب بعض الحوارات يقود بأفكارنا إلى… بيرانديللو.
بطبيعة الحال، هذا يذكّرنا ببيرانديللو، ولا يوجد أحد لا يذكّرك بشخص آخر. أعلم أن النقاد يسألونني دائمًا عن تأثير شخص آخر، لكنني لا أهتم بذلك. أعتقد أن جمهور المسرح أو قراء الكتب لا يهتمون بالمؤلف الذي يذكّرهم بمؤلف آخر. فهم عندما يأتون لمشاهدة عرض مسرحي، فإنهم يتلقون المسرحية كما هي ويظلون في عالم المسرحية لفترة من الوقت. وهذا ينطبق على القراءة أيضًا، أي أن أكون قادرًا على العيش مباشرة مع الكتاب الذي أقرأه. بالنسبة للفائدة الأدبية، قد يكون كل هذا مهمًا بدرجات متفاوتة، ولكن ليس لأولئك الذين يستمتعون بعمل فني.
– ألا تعتقد أن الأمر يتعلق بإعطاء المتلقي خيوطًا معينة أو مفاتيح محددة؟
تلك مسألة أخرى. يمكن للمؤلف أن يعطي القراء فكرة عمّا يمكن أن يتوقعوه من الكتابة، وذلك كنقطة انطلاق فحسب، ولكن ليس أكثر.
– يبدو أن الدراسات الأدبية الحديثة تهتم بشكل متزايد بالنهج الذي يعتبر المؤلف شخصًا منعزلًا ومستقلًا تمامًا، والذي يبدع مباشرة من دواخله.
لا يبدو لي الأمر كذلك، لدرجة أن مثل هذا الموضوع لا يستحق حتى التعليق عليه. بالطبع، أنا من النوع الذي لا يعتقد أن الدراسات الأدبية منحت الكثير، لكن هناك بالتأكيد فرق بين كاتب مبتكر وكاتب مقلّد. لدي تجربتي الخاصة في هذا الصدد. لا أدعي أن تجربتي غنية جدًا، ولكنها مختلفة، لأن هناك بعض المقلدين لشخصي في بولندا. لذا يمكنني التمييز بين المقلدين العاديين وأولئك المتأثرين، لكن ليس لديهم خصائصهم الخاصة. وليس من السهل شرح ذلك.
– ومع ذلك، ألا تريد أن تخبر القراء عن نوع المسرح الذي له معنى خاص بالنسبة لك؟
(يتنهد) سأحاول ذلك، لكني قبل الإجابة… أحتاج إلى قدح من الماء.
– إذا كان السؤال لا يزعجك كثيرًا.
لا، هذا لا يزعجني. إنها مجرد مهمة جديدة بالنسبة لي، لأنني لم أطرح على نفسي مثل هذا السؤال قط.
– حسنًا، دعني أطرح السؤال بعفوية أكثر: من الذي تحبه في المسرح؟ ما هي الأعمال المسرحية التي تستمتع بقراءتها؟ ربما تساعدك هذه الصيغة في الإجابة على سؤالي.
(بعد شرب رشفة ماء) أخشى أن ينتهي بي الأمر في السقوط في نوع من الابتذال المحض، لأنني إذا قلت لك إنني قرأت شكسبير أو لم أقرأ شكسبير، فماذا يعني ذلك؟ وإذا قلت إنني أعرف اثنين من الكتاب المسرحيين البولنديين من القرن الثامن عشر غير المعروفين خارج بولندا تمامًا، هل يعني ذلك شيئًا؟ ثمّ ماذا؟ إنها إجابة لا تعطي شيئًا، وهذا مؤلم للغاية. أريد أن أجيبك حقًا، فهذه هي نفس المشكلة التي يعاني منها معظم زملائي، لكنهم لا يظهرون أنهم غير مهتمين حقًا بالإجابة كما أفعل أنا.
هناك لعبة معينة تجري هنا. أنت تسأل وأنا أجيب. هذا نوع من لعبة الثقافة. وأظن أن بعض زملائي اعتادوا على هذه اللعبة وحفظوها عن ظهر قلب، فهم يعطونك إجابات رشيقة ومفصّلة، مفعمة بالتمايزات والثقافة. أنا سيء جدًا في ذلك. ربما لأن ذلك لا يعينني في عملي. وربما لأنني لا أتردد على المراكز الثقافية. فأنا لست شخصية ثقافية بالمعنى الاجتماعي.
– لا تتردد على الدوائر الثقافية…؟
لا أعرف أيًا من تلك الدوائر. حياتي في مكان آخر.
– منذ متى وأنت تعيش في باريس؟
حوالي خمسة عشر عامًا.
– هل تركت بولندا كلاجئ سياسي؟
لا، لقد غادرتها بمحض إرادتي وبقيت هنا. ولا شيء مثير (درامي) في ذلك. واليوم أنا مواطن فرنسي.
– لكنك ما زلت تكتب باللغة البولندية؟
لابدّ لي من ذلك، لأنها لغتي الأم. وكنت في الثالثة والثلاثين من عمري عندما غادرت بولندا، لا فقد فات الأوان لتغيير اللغة.
– كنت لا تزال في بولندا عندما أثبتّ أنك كاتب مسرحي يتمتع بمكانة خاصة.
من حسن الحظ ليس فقط في بولندا، بل بدأت أشتهر في الخارج أيضًا على أي حال، بحيث أصبحت قادرًا على أن أعيش من عائدات مسرحياتي.
إذن، الكتابة المسرحية كانت مهنتك منذ أن أصبحت بالغًا؟
لم أمارس مهنة أخرى غير الكتابة. لقد بدأت أعيش من عائدات مسرحياتي منذ أن كان عمري 20 عامًا.
حقًا!
نعم، كنت محظوظًا في ذلك. حسنًا، لكن لكي أكون منصفًا، لا بد أن أقول إنني كنت في حالة من الجمود قبل أن أبدأ بكسب المال بنفسي. ويمكن القول إنني كنت مجمّدًا إلى حدٍّ ما قبل أن أحصل على الدخل من مسرحياتي.
-أنت تكتب قصصًا قصيرة أيضًا، لكن يبدو أنك تركز فقط على المسرح والقصة القصيرة. هل كتبت شعرًا أيضًا؟
لا، لا أكتب الشعر أبدًا.
-ماذا عن كتابة الخواطر والمقالات؟
لا أكتب الخواطر. أحيانًا أكتب مقالات، لكني أعتبر ذلك عملًا هامشيًا بالنسبة لي.
-عندما شاهدت عرض مسرحية السفير صدمت بقوة الإحساس بنوع من الإيمان. ربما كان ذلك شكلًا من أشكال الإيمان الديني المنبعث من المسرحية. هل اقتربت، مثل مواطنك (كولاكوفسكي)، من المنظور المسيحي؟
أعتقد أنه يجب أن أحذّرك من خلق أي نوع من التماثل بيني وبين مسرحياتي. بالطبع، أنا أتغير مع العالم، لكني لا أتحدث بشكل عام. دعني آخذ الوضع في بولندا كمثال.
بولندا بلد لم يتمكن فيه النظام القمعي من قتل كل أشكال الحياة تمامًا. حتى في أقصى الحالات التي يريد فيها النظام المهترئ القضاء على الحياة، تستمر الحياة تحت هذا السطح. نعم، حتى في الاتحاد السوفيتي لم تتوقف الحياة. ومع ذلك، كنت متأكدًا لفترة طويلة أن شيئًا لن يحدث في بولندا على الإطلاق، وأن المجتمع سيبقى كما هو إلى الأبد، بخلاف الدولة. ثم فوجئت بحركة التضامن، وهذا مثال حي يثبت أن الحياة أقوى من أي يقين بشري آخر. ربما يعكس هذا نوعًا من التفاؤل الكامن في داخلي.
-بالمقارنة مع مسرحية تانغو، تبدو مسرحية السفير أكثر تفاؤلًا.
ربما يبدو الأمر كذلك، لكن وفقًا لتجربتي الشخصية والتجربة التاريخية، أعتقد أنه ينبغي للمرء أن يأخذ بعين الاعتبار عوامل مثل القيم الإنسانية والتعاطف الإنساني، وليس فقط الغباء والشر. لا ينبغي تفسير هذا على أنه نصيحة أخلاقية، بل مجرد حقائق.
الحياة سهلة بالنسبة لي الآن، لكن في الواقع لم تكن دائمًا كذلك. لقد مررت بهذه اللعبة بنفسي مرة: لعبة التشاؤم الكامل واليأس المطلق، وهي طفولية تمامًا. لكن أكرر مرة أخرى أن موقفي الحالي ليس نتيجة أوهام رخيصة، بل هو قائم على الاقتراب من الواقع. إنه اكتشاف بسيط: الواقع أكبر مني، ونحن لسنا كل شيء.
-وهل ترى ذلك عزاءً لك؟
بطبيعة الحال!
-ولكن ماذا لو كان هذا العالم العظيم مجرد فوضى عمياء؟
أنا أتحدث عن وضعي الخاص. أستطيع أن أتخيل أن حقيقة أن العالم أكبر منا قد تكون شيئًا مرعبًا لمعظم الناس، لكني أرى في ذلك أمرًا إيجابيًا.
-والأدب العظيم أيضًا، لكن كل هذه الأمور نسبية.
على سبيل المثال، لدي علاقة قوية مع مارسيل بروست، وقد قرأت روايته عدة مرات على مر السنين. إنها متعة شخصية للغاية. لكني أدرك تمامًا أن الناس في أوغندا لا يجدون في بروست الشيء الكثير، لأنهم مشغولون بمحاولة تفادي إطلاق النار عليهم، أو التفكير في كيفية إطلاق النار على شخص آخر.
-إذن، الكتابة المسرحية كانت مهنتك منذ أن أصبحت بالغًا؟
لم أمتهن مهنة غير الكتابة. لقد بدأت أعيش من عائدات مسرحياتي منذ أن كان عمري 20 عامًا.
-حقًا؟
نعم، كنت محظوظًا في ذلك. حسنًا، لكن ولكي نكون منصفين، لا بدّ أن أقول إنني كنت مجمّدًا قبل أن أبدأ بكسب المال بنفسي، ويمكن القول إنني كنت مجمّدًا إلى حد ما، قبل أن أحصل على الدخل من مسرحياتي.
-أنت لست عضوًا في أي كنيسة؟
لقد وُلدت كاثوليكيًا، لكنني لست ناشطًا ولا عضوًا في أي كنيسة. كما تعلم، ما يهمني في هذا العالم هو الأشياء العادية والتفاصيل الصغيرة. والأدب العظيم، لكن كل هذه الأمور نسبية. على سبيل المثال، لدي علاقة قوية مع مارسيل بروست، وقد قرأت روايته عدة مرات على مرّ السنين. إنها متعة شخصية للغاية، لكني أدرك تمامًا أن الناس في أوغندا لا يجدون في بروست الشيء الكثير، لأنهم مشغولون بمحاولة تفادي إطلاق النار عليهم، أو كيف يطلقون النار على شخص آخر.
-لكن ألا تعتقد أن الناس في أوغندا أيضًا، والناس الذين يمرون بظروف صعبة عمومًا، لديهم حاجة لذلك؟
اسمح لي أن أتحدث عن شيء آخر أعرف عنه أكثر مما أعرفه عن أوغندا. لنتحدث عن بولندا. قبل أن يصبح الوضع في بولندا على ما هو عليه الآن، كنت أكتب كل شهر بضع صفحات في مجلة شهرية تُسمى (ديالوغ). كنت أكتب نوعًا من “النبوءة” عن هذا وذاك، وحرصت على عدم كتابة شيء خطير، شيء يمكن أن يؤدي إلى كارثة أو أي شيء من هذا القبيل. حسنًا، من سيحتاج إلى ما أكتبه بعد الآن؟ بالطبع، “واصلت الكتابة”. إذا كان الناس بحاجة إلى شيء ما، فإنه لا يأتي بالمستوى المتوسط الذي كنت أبتغيه. هم بحاجة إلى شيئين: أولًا، معلومات موثوقة واضحة – حول طرق الهروب المفتوحة. هل الحرب وقعت؟ هل القصف مستمر أم متوقف؟ والثاني هو الأعمال العظيمة، مثل الكتاب المقدس، بروست، ولكن لا شيء غير ذلك مهم. الآن توقفت عن الكتابة في (ديالوغ).
-فهل يمكننا إعادة بروست إلى دار السلام؟
نعم، حقًا، يجب أن يكون هناك، حتى لو كان عدد المعجبين به ليس كبيرًا.
–لنتحدث عن السياسة. ما هي معتقداتك السياسية؟ أراك تقرأ فيغارو والإكسبريس بشكل رئيسي؟
كن حذرًا، أنا أتابع مجلة (فيغارو) من أجل صورها فقط. فأنا لا أنتمي إلى جيل التلفزيون، بل أحب الصور الثابتة. إذا رأيت مجلة (ستيرن) أو مجلة (باريس ماتش) هنا، فهذا ليس لأنني أحب مثل هذه المجلات لمضمونها، بل أتابعها بسبب صورها، التي ألقي عليها نظرة ثم أعلق عليها.
إذا كنت أفهمك بشكل صحيح، فأنت تقرأ أولًا بعض الصحف كل يوم، وبعض الأعمال الكلاسيكية التي تعجبك، ثم تبتعد عن الأشياء الأخرى.
حسنًا، ليس بالضبط. إذا كنت تريد الحقيقة، لدي القليل جدًا من الوقت. أحاول الكتابة والتفكير والتعامل مع تفاصيل حياتي اليومية. إنني متشكك في الأشخاص الذين يعتقدون، مثل آلهة أولمب اليونانية القديمة، أن لديهم نوعًا من الأفكار التي تفوق تعقيدات الحياة اليومية، بعيدًا عن ملايين التفاصيل الصغيرة التي نتعرض لها يوميًا…
-هل تجد الكتابة صعبة أم سهلة؟
جسديًا فهي كارثة، وهي بالنسبة للجسد أمر بائس. أحتاج إلى ساعتين من العمل قبل الولوج في عملية الكتابة بشكل كامل، وبعد ذلك أريد الاستمرار في هذه الحالة التي تبدو ممتعة. لدي ميل إلى أن أصبح مهووسًا بالكتابة، لكني أحاول مقاومة هذا الشعور.
-إذن، أنت لا تريد أن تكون مثل جوزيف كونراد أو بروست، اللذَين ضحَّيا بكل شيء من أجل الكتابة؟
أريد بالطبع أن أصبح كاتبًا رائعًا حقًا، لكن ثمن أن أصبح كاتبًا عظيمًا باهظ جدًا. على الإنسان أن يدفع هذا الثمن رغم نفسه، والكاتب العظيم حقًا يدفع ثمنًا باهظًا دون الرغبة في ذلك، وهو ما لا يدفعه عن طيب خاطر. لكن يا له من ثمن، يا إلهي! إنه بحق جحيم في حد ذاته. أنا أفهم تمامًا هؤلاء الكُتّاب المهووسين. وأنا أيضًا أعيش حياة منعزلة إلى حد ما، لكن هذا لا يعني أنني مجنون بالكتابة. أحب أن أقرأ كتابًا، أحب أن أنظر من النافذة، قد أخرج وأتناول الطعام في مطعم في بعض الأمسيات. أستطيع أن أفعل الكثير من الأشياء التي لا علاقة لها بالحياة الاجتماعية أو بالكتابة. بالنسبة لي، هناك شيء غير صحي إلى حد كبير في كل هذه النظرة بأكملها، التي تأتي من جسد معذّب ينتج سلسلة من الروائع! لكن بالطبع كل هذا فردي للغاية. فكرت في توماس مان. كان منتجًا بشكل لا يُصدّق، لكنه يبدو أنه لم يكن يعاني أبدًا. كان يكتب كما لو كان يتنفس. شخصيًا، لدي عدم ثقة متأصل ضد التطرف، ربما لأنني لست مجنونًا بما فيه الكفاية…
هل تعيش بمفردك في شقتك في الطابق العلوي؟
نعم، أعيش بشكل مستقل، أعيش هنا، وقد رتبت شقتي وفقًا لاحتياجاتي. أريدها بهذا الشكل.
* مارسيل بروست (1871-1922)، روائي وناقد فرنسي، اشتهر بروايته البحث عن الزمن الضائع، التي نُشرت في سبعة مجلدات في باريس بين عامي 1913 و1927. كان لهذه الرواية تأثير عميق على فن الرواية والقصص القصيرة.
جوزيف كونراد (1857-1924)، كاتب بولندي كتب بالإنجليزية واشتهر في جميع أنحاء العالم. في عام 1886، حصل على الجنسية البريطانية. يُعتبر أحد أهم الروائيين ورواة القصص في الأدب الإنجليزي، رغم أن كونراد لم يتقن اللغة الإنجليزية حتى سن العشرين، لكنه أصبح لاحقًا أحد أساتذة هذه اللغة.
توماس مان (1875-1955)، روائي ألماني بارز في الأدب العالمي. اشتهر برواياته والقصص القصيرة والخطابات النقدية الاجتماعية. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1929. بعد وصول أدولف هتلر إلى السلطة عام 1933، غادر مان ألمانيا متجهًا إلى سويسرا، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، انتقل إلى الولايات المتحدة حيث استقر لفترة قبل أن يعود إلى أوروبا.
ملاحظـــــة:
جرى هذا الحوار عام 1983 في شقة سلافومير مروجيك بباريس ونشرت في مجلة.
السويديةOrd och Bild 1983.