على ذكر مسرحية ( جدار) الضوء نفسه أغمق / بقلم: رشيد بنطالب
قراءة في مسرحيه “جدار،الضوء نفسه أغمق “تأليف قدس جندول وإخراج ياسين أحجام
مسرحية “جدار” تشق طريقها بثبات في دروب المسرح المغربي، لتثبت أن الفن حينما يُستلهم من أعماق الإنسان قادر على أن يلامس الروح ويثير الفكر.
برؤية إخراجية متجددة، حمل ياسين أحجام هذا العمل إلى مستويات فنية وجمالية رفيعة، مؤكداً حضوره كمخرج استطاع خلال السنوات الأخيرة أن يضيء الخزانة المسرحية بأعمال تحمل أبعادًا إنسانية وفلسفية عميقة.
في هذا العمل، يصبح الجدار أكثر من مجرد ديكور؛ يتحول إلى رمز حيّ للحواجز التي تفصل الإنسان عن ذاته وعن الآخر، حاجز بين الأحلام والواقع، وبين الأمل واليأس. سينوغرافيا ياسين الزاوي جاءت كقصيدة بصرية، حيث أضفى على الفضاء المسرحي عمقًا رمزيًا مدهشًا. الإضاءة الداكنة والألوان الموحية تسللت إلى أعماق الشخصيات، لتُبرز هشاشتها وصراعاتها. الجدار لم يكن فقط خلفية للأحداث، بل كان شاهدًا صامتًا على الصراعات الداخلية والحلم المجهض.
قدس جندول، كاتبة النص، نسجت حكاية تتغلغل في أعماق النفس البشرية، مستخدمة لغة مشحونة بالأحاسيس والرؤى. عبر الكلمات، فتحت الشخصيات أبوابًا مغلقة، وواجهت ذاتها في رحلة متقلبة بين الانغلاق والانفتاح. أداء الممثلين كان بمثابة ترجمة حيّة لهذه الكلمات، احتفالاً بالجسد والصوت كأدوات تعبيرية مدهشة.
قدس جندول، التي لم تكتفِ بكتابة النص بل جسدت واحدة من شخصياته الرئيسية، كانت حضورًا استثنائيًا على الخشبة. أداؤها كان خليطًا من القوة والهشاشة، ينقل بمهارة حالات التوتر النفسي والانكسار الإنساني. أمين بودريقة، بشخصيته المتأرجحة بين الصمت والانفجار، كان رفيقًا لهذا الصراع الداخلي، ينقل بحركاته وصوته أعماق التوتر والتمزق الذي يعيشه الإنسان. أما رضى بنعيم، فقد أضفى بخفة وروح مرحة بُعدًا إنسانيًا إلى العمل، جامعًا بين التراجيديا والكوميديا السوداء في مزيج مؤثر.
تجلّى أداء الفريق بتناغم مثالي، وكأنهم يتحركون كجسد واحد في فضاء موحّد. كان الصمت أحيانًا أكثر تعبيرًا من الكلمات، وحركاتهم على الخشبة كانت أشبه برقصات تعكس صراعاتهم الداخلية. هذا الأداء جعل من “جدار” ليس مجرد مسرحية، بل تجربة شعورية تتغلغل في أعماق المشاهد، تترك أثرًا يستمر بعد انطفاء الأضواء.
من المهرجان الوطني للمسرح الدورة24 بتطوان ، حملت “جدار” صوتها ورسالتها إلى فضاءات أوسع. كانت شهادات النقاد والجمهور بمثابة تأكيد على عمق التجربة وجماليتها، مما جعل العمل إضافة قيمة للمشهد المسرحي العربي والدولي.
في هذا المسار الفني، يواصل ياسين أحجام تأكيد نفسه كمخرج لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يغوص عميقًا في جوهر الإنسان وحقيقته. “جدار” ليست مجرد مسرحية، إنها دعوة للتأمل، للتحديق في الحواجز التي نضعها بأنفسنا أو تُفرض علينا، ولإعادة التفكير في علاقتنا بذاتنا وبالآخر.