في (سيرك) بعضٌ من تجلياتِ التجربةِ المسرحيةِ عندَ جواد الأسدي/جبّار ونّاس
ما الحدودُ التي يُمكنُ أنْ نقفَ عندَها إذا ما أردْنا النبشَ والفحصَ النقديَّ الخالصَ وبثوبِ الموضوعيةِ بعيداً عن إبتغاءاتِ الذاتيةِ وإختناقاتِ الأنا وطفحِ الغيرةِ ورمي الآخرِ بسهامِ الفاقةِ والعوزِ الموضوعي الخالي من سياقاتِ البناءُ النقدي الحصيف ونحنُ نتأملُ في مسيرةٍ تجربةٍ فنيةٍ ذاتِ مخاضاتٍ متعددةٍ؟
وليس هذا ببعيدٍ ونحن نتمعنُ بفواصلَ من أحداثٍ وقضايا شكلتْ بتأثيرها خميرةً لثراء التواصل عبر مخاضاتٍ من التجريب وتناوبات المحاولة بغيةَ تشكيلِ ملامحَ واضحةٍ يمكن الرجوع والركون عند عتبات ما نضحت وماتزال تنضحه عبر عديد المحاولات التي تؤكد للدارس والباحث والناقد صدق التثبت حين المعاينة والمتابعة وفي تقديم خلاصات من درس تلك التجربة.
ومادمنا نتمعن في درس التجربة فحري أنْ نتواثبَ مع تجربةِ المحاولاتِ التي أقدمَ على الشروع في تنفيذها الفنان والمثابر والمجتهد(جواد الأسدي) ونحن مع عرضه الأخير (سيرك) المقدم من قبل دائرة السينما والمسرح في بغداد وضمن عروض مهرجان بغداد الدولي للمسرح بخامس دوراته حيث قُدِّمَ؛ من على مسرح الرشيد في بغداد/العراق بتاريخ 13-12-2024
عن إقدامات الأسدي في التأليف:
ففي أغلب ما أقدم عليه (الاسدي) إلى هذا النص فهو يتماثلُ مع مثابات ما قدمته نصوص عالمية كثيرة وغزيرة في المحتوى وفي المضامين فضلا عن إستثمار تلك النصوص لنصاعة الولوج إلى بطن الحياة وإختزال ما فاضت وما طفحت بين دواخل ذاك البطن وعبر إستقدام في الإشتغال يضاف لها قدرة التبصر وإستشراف لما تحل به من وقائع تجري في لحظاتها وصولا إلى إستثمار ذكي إلى ترصين في قدرة ذلك التبصر لأنْ ياخذ له من مديات الإمتداد عبر مساحاتٍ ستكون راكزةً عند مستقبل سيكون وفياً في تثبيت مصاديق ماجاءت به تلك النصوص وهي تتشاكل مع قضايا لها من الشمولية وفي بعدها الكوني العابر لحدود إنسانية أعم وأشمل.
وعند التدقيق في نص (سيرك) وعبر صفحاته التي تجاوزت الثلاثين فنحن مع نص لايكاد يبتعد عن معايير ما جالت به تلك النصوص آنفاً ولكتاب كبار مثل (شكسبير، تشيخوف، وغيرهم ) فهؤلاء الكتاب والكثير ممن ساحتْ مقادير نصوصهم وهي تتوغل وتحفر لها اخاديدَ في ذاكرة الدرس عند مَنْ يدخلون وينبشون بين تفاصيل تخوم خشباتِ المسرح التي إحتضنت الكثير من فيوضاتٍ ما جالت به نصوصهم، ولا ضيرَ أنْ يكون نص(سيرك) سائراً مع البعد الإنساني وفي أقصى تمثلاته التي نجدها تستجد بين ظهرانية مانعيشه وما يشهده واقع عالمنا من أحداث ووقائع أسهمت كثيراً واوغلت في تأثيرها على إنسان حاضرنا وفي أبعاد مايعيش جسداً وتطلعاتٍ وأحلاماً فضلا عن إستهلاك مقدرات مايملك من مقوماته كبشر يحق له العيش في المكان الأمين والزمان الذي يشهد له بسمو التواجد الآدمي.
فزئبقية السيرك تؤكد على سيولة تواجدها حيثما تتعدد مفاعيلُ الحياة بتعدد المكان وحيثما تكون للزمان فروضاته الآنية فتبدو صفة السيرك غيرَ متوافقة مع التقعيد والتقيد بشروط الثبات بل هي نجدها تأخذ لها صفة الشمول ومن سرائر الأحداث والدخول في مسبباتٍ كثيرة في آلامها وفي نتائج ماتتركه على سطح الواقع.
وقد بدا على الأسدي وهو يرسم لنا خطوط هذا النص وكأنَّه الراثي وبدراية الحصيف الذي يمعن التحديق مليّاً بجزئيات ما يرثيه حتى أنَّ تفاصيل الرثاء لديه صارت تتوزع ماديا ومعنويا، فبدأً من خرابِ المكانِ ومهيمناته المادية في المدن والاوطان إلى الكيان الآدمي والذي تمثل عبر الشخصيات الثلاثة التي تشابكتْ في حالات الندب والرثاء العلني والداخلي ف(ريمون) هو في حالة ندب وحسرات وخسران وفشل وكذا الحال مع الروائي (لبيد) فهو الآخر يشكو من فداحة الخسران المعنوي والأمر ينسحب على (كميلة) التي نراها وقد عاشت هي الاخرى بين نيران التشتت والخذلان من ناحية زوجها وايضا في افول ماتطمح إليه، وفوق هذا فحين ندقق بين سطور النص فثمة رثاء نلمسه دفع به الأسدي وكأنَّه يريد الإعلان والبوح ولكنه يتوارى ويأتي متساوقاً خلف ما باحت به دواخل الشخصيات الثلاث وفي المحصلة فنحن مع رثاء يشمل من تفاصيل ما سارت عليه سيرة الأسدي نفسه فهو ليس ببعيد بل نراه غائراً في مخاضات الخراب والهجرة وطفح العنف القهري ومحاولات إقتلاع الإنسان ومسخ هُويته الآدمية.
مقامُ النصِ ورهانُ الخشبةِ:
وكعادته ومع عروضه السابقة فإنَّ الاسدي يميلُ إلى تحقيق قدر من التوازن الذي يراه يتحقق له عبر إحتكامه الى نص يشي برصانة التجسيد عبر اللغة وفخامة إستقدام المضمون ومتانة الشكل في التأليف وإحتواء ما يتواجد فيه من أفكار ورؤى.
وأيضاً نراه من ناحية معالجة الإشتغال مع الممثلين فهو يميل وكما يعملُ إلى إعادةِ كتابةِ الممثلِ صوتاً وجسداً وروحاً ليتحققَ لنا نصٌ مضاف يمكن تسميته ب (نص الممثل) وقد نُفِذَ أمامنا عبر ثلاثة ممثلين وهم متأثرون تحت تأثير فاعل آخر( غائب/ حاضر) بالإنابة يتمثل بالكلب(دودين) ليأخذ له مساحةً كبيرةً كرمز مهيمن نكتشف من خلاله بعضاً من خيوط السلطة وطغيانها وإنفلات سطوتها بشكل عنيف بحق الإنسان وكذلك يذهب بنا هذا الرمز إلى عالم يكتسي بشراهةِ الكلب حين تقوده المصالح وتحقيق الذات عبر عملية مسخ وإفتراس الآخرين.
ويضاف لهم دور المجموعة ويبدو على إستحضار فعل المجموعة متمثلة ب(حازم أياد، حسن علي، محمد عامر،محمد كامل، يوسف صادق) وهي تدخل بفواصلَ مرحليةٍ من الأفعال التي توزعت مابين الإحالة إلى عالم آخر غير ما نعيش وهم عراة وعلى ظهورهم وصدورهم وشوم وخطوط وايضا وهم يحملون المظلات ويحيطون بكميله وايضا في بث حالة من الخوف وايضا في عملية الهجوم على الزوج ومحاولة إفتراسه وقضمه وايضا في مشهدية النباح في تنويه مهم إلى عالم كابوسي يتشاطرُ مع صفات الكلاب التي تنهش بلا رحمةٍ أو رأفةِ قلب.
وبحضور فعل المجموعة فثمة دورٌ ناجزٌ ساهم في أنْ يبثَ حيويةً لروح العرض ساعد في التخفيف من غلواء نص التأليف وطغيان حضوره وبالذات أثناء الحوارات المطولة التي حصلت مابين ريمون ولبيد وتكرارها ما بين كميله وزوجها وبينها وبين لبيد هذا فضلا عن المراحل التي دخلت بها كميله وبأزياء مختلفة منها زي ياباني وزي محلي فهذه أيضا ساهمت هي الأخرى في دفع حيوية العرض لتضيف له تلويناً آخر أبعد عملية التلقي عن فترات الملل التي لمسها الجمهور من جراء هيمنة النص وحواراته التي إندلقت عبر أفواه الممثلين الثلاثة وعبر متلازمة البوح من الدواخل أو بما يظهره كلُّ ممثل من تجسيدات صوتيه أو جسدية وتلبية لما جاء به رهان المخرج (الأسدي) فالممثل لديه له من حريةِ الأداءِ بوصفه الفاعل الأول قياساً إلى المكونات الأخرى التي ساعدت في إظهار الصورة النهائية حيث يتكامل سياق العرض عندها.
ولو فحصنا ما أظهره لنا هذا العرض لوجدنا أنَّه عرض يتسم بقابليةِ التمرحل والتي تمثلت بإيجاد تراتبيةٍ تدفقت عبرها بدأً من هيكلية المكان التي تشخصت عبر جدران مهدمة مائلة تكتسي بلون خافت يميل إلى الرماد وفي خلفيته حديقةٌ اشجارُها يابسةٌ،وثمة معنى يتم تدوينه ماديا ومعنوياً وهذا هو رهان ما اقدم عليه (الأسدي) وإذا به وبنص عرضه يشتغل بكل قيمه وداخل إطار التمثيل وباقي مكملات العرض بشكل عام لينطق ضد العنف وضد القسوة المتأتية من فاشية السلطة وعملها ضد آدميةً الإنسان ودماره من خلال خراب مدنه.
ولعلَّ أهمَ تمرحلاتِ هذا العرض تكمن في مفصل التمثيل والذي يمكن تشخيصه بالعمود الباسق الذي تتكيء عليه بقايا خيمة العرض
فعند الممثل:
-أحمد شرجي بدور(لبيد) إذ ينجح في التمكن من السيطرة على ما يسميه (سبينوزا) ب(الإنفعالات الحزينة) ويظهر تعاملاً فيه من السيطرة الداخلية على ماتفور به دواخله فكان أكثرَ إنسجاما بين ماتقول به تلك الدواخل وما أظهره من أفعال مادية ملموسة بالصوت والتأمل والحوار ليقدم دوراً في الاداء يكاد يتميز وبوضوح في هذا المهرجان
-علاء قحطان بدور(ريمون) فيقدم دوراً فيه من إنحطاط الدواخل وتظهر لديه من قابلية الإنفعال الظاهري ومحاولة الهروب العلني مما يشعر فيه من تخاذل وخزي جراء ما فعله مع زوجته وتخاذله مع الضابط المستبد والمستهتر بقيمة الإنسان، وجسد لنا هذا الخذلان وفي قدرة أدائية وهو يضرب على وجهه بكلتا يديه وفي تعامله مع (لبيد) و(كميله)
-شذى سالم بدور(كميله) وقد حفل دورها على قابلية البوح والإعلان وهي تتنوع فيما قدمته من مفاصل أدائية نلمس فيها مقدار التجربة وديمومة الإحتراف في التواصل فكانت تتنقل من حالة الخذلان مع زوجها وفي بوحها علنا عن السلوك المخزي معها من قبل الضابط المستبد لتنتقل بعدها وفي مشهد خطابي يستثير العواطف والمشاعر لتعلن عن رسالة العرض القائلة بندرة الحلول من طغيان العنف وخراب الأمكنة والنفوس وترفع هذه الرسالة إلى الله.
وإذا كان لنا أنْ نبقى في حدود هذا العرض فلابد من التنويه بدور مصمم الازياء(زياد العذاري) والتي اخذت لها مساحة من التواجد الذي ساعد على أنْ تكون لهذه الازياء حصة مثمرة في التعضيدِ الفني والتأويلي لمسار ما جاء به عرض (سيرك).
وفي المقابلِ فإننا لم نشهدْ ذلك الدورَ الفاعلَ لفعل الموسيقى من قبل(رياض كاظم) والإضاءة من قبل (عباس قاسم) مثلما شهدنا لفعل التمثيل وحضور نص التأليف وبوضوح كبير…