“كلام … يمحوه النهار: أو حيرة السالكين إلى مقامات الموتى”/ بقلم الدكتور رشيد بلفقيه

ما الّذي يُمكن للمقابر أن تقدّمه للأحياء غير الذكريات الأليمة؟ وما الذي يمكن لعوالم من انقطع ذكرهم من الحياة أن تمنحه للباقين على قيدها؟ بل ما الذي يغري كاتبا حيا حيويا بالمدافن فيجعله يقتحمها على ساكنيها متخذا منها موضوعا لاشتغاله؟ لعلها أسئلة من بين أخرى لا يمكن ألاّ تطرق بال من تلقى النّص المسرحي “كلام يمحوه النهار” للكاتب محمد برادة.

قبيل الخوض في إجابات مفترضة عن هذه الأسئلة أقر أنني لن أسلك مسلكا أكاديميا، يستحضر المنهج ويتدجّج بالمرجع ويُحاجج رغبة في إثبات هذا الافتراض أو دحض نقيضه، فما أعقد ذلك المسلك، وما أطوله في التعامل مع منتج أدبي، كيفما كان هذا المنتج، كُتب بفائض فرح أو دُوّن في نوبة حزن طافح أو حُرّر من ربقة التقريري الضيق ليلامس عوالم التخييل الشاسعة، ولكن سأترك للقلم مساحات حرة لينساب مع انسياب النص سعيا بما أسعفه مداده وما لم تخنه التعابير لبلوغ بعض مما اختطه هدفا له.

في السّردية النّاظمة لحبكة النّص المسرحي تسافر امرأة مبهمة نُزعت عنها أية تحديدات دقيقة ما عدى أنّها امرأة غير عادية، يمكن أن ترقى إلى مكانة الكاهنة البربرية، أو فاطمة الفهرية … أو أن تترك هويتها مواربة على الاحتمالات كلها، تسافر بين المقابر، تلك المرأة الملتبسة التي تسبقها تباشير تنبئ بمقدمها، والتي تتمرد حتى على تحديدات الكاتب لسمات شخصيتها، وتفضل أن تكون مجرد امرأة من لحم ودم، بلا أساطير ولا كرامات، بل بأسئلة مقلقة وأجوبة متأرجحة بين الشك واليقين، وتصر على أن تكون “امرأة تبحث عن شيء ضائع، عن طريق، من خلاله تستعيد يقينها المفقود”.

في مقبرة باب الفتوح بفاس العريقة، يغوص بها حارس المقبرة في ذكريات الطفولة، حين كان يأتي مع مجموعة من صبيان الحي، لينط فوق القبور ويختبئ وراء شواهدها، طفولة بين المقابر لكنها لم تخلُ من بهجةٍ وجمال باعثهما تلك الصلوات والأدعية المُطمْئِنة التي كانوا يسمعونها عندما يُواري الناس جثامين من فقدوا، يهيمن في حوارها مع الحارس نفَس صوفي يستدرج سياقه المُطمئِن المرأة الغريبة لبوح تعترف فيه بأنها باحثة عن توازن شبه مستحيل، لهوية أدركت من خلال قراءاتها وأسفارها أنها هوية متحولة. إدراكٌ شقيٌّ حولها إلى باحثة عن أجزاء من ذاتها في ذوات الآخرين بعد أن أيقنت أن “الهوية متحولة متنامية تتغذى من أوردة القلب، ومن ألياف الذاكرة، غير أنّها لا تتحمل التثبيت والتجميد داخل أنسجة الماضي”، في مقبرة باب الفتوح بفاس، تُوقد الذاكرة، فتستنجد بالطفولة ومراتع الصبا، والحنين إلى الالتحام بالغادين والرائحين في الزحمة حيث الجموع.

في مقبرة طنجة، يستمر سعي المرأة بأمل ضعيف، لكنه يتأجج باستمرار، في العثور على كلام ينير السبيل لها في ما تبقى من ثمالة عمر تسرب من بين أناملها مثل حبات الزمن الرملية، بين رموس “مقبرة بوعراقية” يقودها الحديث مع حارس المقبرة إلى بعث جانب من تاريخ المدينة العالية، الذي شيدته “الأفراح المستجلبة التي نسجت جزءا من رداء البهجة الأسطورية التي كست المدينة”، لكن في تلك المقبرة ستدرك بحزن كثيف أن الأحلام تنام أيضا في القبور رفقة الوعود والشعارات، تلك الوعود المتحمسة العسلية التي تعطى في غمرات النشوة والتي تتلاشى حوطتها وتذوب في حبائل السلطة أو تتبدد كأعمدة الضباب ببساطة أمام مشاغل الحياة، تلك المشاغل التي قد تُسقط ببساطة من حساباتها حتى أسماء من قيمة صاحب الخبز الحافي.

في إسبانيا تُعرِّج على مآثر الأندلس وبالأخص تلك الموشومة في قرطبة، حيث يتجلى اللقاء الخالد بين مشرق الدنيا ومغربها، وحيث تلاقحت الثقافات وتناسجت فأخصبت وطابت طقوس العيش في ظلها، وفي المقابر الفرنسية، تشد الرحال إلى حيث يرقد بعض من أولئك الذين خطوا صفحات من تاريخ البشرية، ممن أكدوا أن “التغيير الإيجابي ممكن، وأنه جزء من العناصر التي تسند رحلة البشر في الحياة الدنيا”، هناك ندرك أنه مع مرور الزمن وانمحاء الآثار لا يبقى شيء سوى الحب والجمال، إذ لا أثر قمين بالبقاء ما خلا صوت الشاعر، وصوره، وسلطة استعاراته وأفق مجازاته ورحابتها، وما سواه لا يعدو كونه لغو يمحوه النهار.

في المقابر اليابانية، كما في المقابر الفرنسية، يغيب الحارس القيم على راحة الموتى، إذ لا نوايا ربما لدى الأحياء هناك لإزعاج الرقدة الأبدية لمن نجوا من الحياة بأعجوبة وبشكل نهائي، في تلك المراقد الأبدية، يغدو فهم الموت أكثر عمقا وتعقيدا، وتغدو العلاقة مع من رحلوا قائمة على الاعتقاد بأنهم لم يرحلوا بالمعنى التقريري المفزع للكلمة، ولكنهم انتقلوا بطريقة أو بأخرى إلى عالم آخر مواز لعالمنا دون أن يفقدوا الروابط التي تبقي عالمنا المشهود متصلا بعوالهم الغيبية المغيبة، في تلك الجولات البعيدة يزيد اقتناع تلك الجوالة الحاملة لأسئلة وجودها المقلقة بأنّ عليها أن “تُدمج حضور شعب الموتى اللايحصى ضمن الطقوس التي تسعفني-كما تقول- على مواصلة العيش فيما تبقى من العمر”، لكي تجد أجوبة أقرب إلى الاكتمال عمّا اجترحه وعيها الشقي من أسئلة.

تتخذ رحلة المرآة مسارا دائريا، مغلقا، يعيدها بعد كل هذا النصب، إلى نقطة الانطلاق بمقبرة باب الفتوح بفاس، فتعود أدراجها مبدية حيرة في تبرير عودتها، وإن أضمرت رغبتها في التلصّص على أحاديث الموتى لتستأنس بهم وبعالمهم الذي إليه ستؤول رحلة كل كائن حي، أن تتلصص على احاديثهم في تلك الجلسة الليلية التي يعقدونها والتي أغراها بها حارس المقبرة في زيارتها السابقة، حين “يغادرون أجداثهم خفاف، منشرحين، ويتحلقون في دائرة شاسعة تحتل مركزها بعض النساء الجميلات”، وحيث لا يكون الحديث إلا عن الحياة وأسرارها ولكن بفهم أعمق من فهم من مازالوا على قيدها.

في أحاديث الموتى، الذين استعادتهم الحياة لليلة، تلتقي الأجيال، والأفكار، والانتماءات، والتجارب الشخصية، فتناقش فورةُ الشباب وحماستهم، هدأةَ الكهول واتّزانهم الذي أورثته لهم السنوات والتجارب. الموتى الذين انقطعت صلتهم بالدنيا إلا من خيوط الذكرى، الأوهن من بيت العنكبوت، ولكن الأقوى من الخضوع لسلطة الزمن.

في الفصل الختامي لرحلتها المريرة، قبيل النهاية، تدرك المرأة الجوالة، بمساعدة حارس المقبرة ألا جدوى من انتظار الإجابات من الموتى، لأنهم ببساطة “يريدون للأحياء أن يتحملوا وحدهم مسؤوليتهم في الحياة”، فلا يستقيم بعد ذلك لحي أن يراهن على الموتى لينيروا له طريقا في الحياة.

ختاما،

المقابر فضاءات ضاجّة بخطى من عبروا نحو الخلود، على الهوامش تنمو مكتنزة بذكريات ذوات توقف نبضها دون أن يخبو صداها، المقابر مداخل إلى حضارة من أقاموها، وجسر التقاء بين من يعتبرها المحطة الأخيرة في أسفار الكائن الحي، ومن يعتبرها جسر عبور إلى حياة أخرى، لكن بقليل من السفر في أدب المقابر وما كتب حولها نلمس بونا شاسعا بين من يعود إليها زائرا سدادا لدين عليه لمن طواهم التراب، وبين من يعود إليها لأن ذلك طقس تعبّدي يزكي إيمانه واعتقاده، وبين من يطوف على المقابر بوصفها حلقة في الوجود بحثا عن أجوبة لا تكفي حياة وحيدة للإجابة عنها إجابات شافية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت