نص مسرحي: “أوجاع رمادية بمحاذاة المقبرة !”/ تأليف: هايل علي المذابي
نص مونودرامي
(إضاءة مركزة تتدرج حدتها على الممثل الذي يطأطأ رأسه حتى تشتد الإضاءة ثم يرفعه وبصوت عالٍ:
مازلت أذكر ..
مازلت أذكر بتلك البلاد قديما وأمي تعلم أطفالها مثلما علمتني ..
بأن الحروف البسيطة شيئا فشيئا تصير كتابة ..
عشرون عام
كتبت .. كتبت .. كتبت
كتبت على كل شيء
فيامن يعلمني كيف أنسى الكتابة
وأرجع صرخة روحٍ بدائية ..
لم تلوث بأمراض جدرانكم
تخدق فيّ كل يومٍ بنفس الرتابة..
– (يطأطأ برأسه بالتدريج المتزامن مع خفوت الإضاءة ثم يرفعه قليلا بالتزامن من تدرج شدة الإضاءة:
لا .. لا لا لا أظن ذلك.. أو ربما ..
ربما قد أعيش حتى العقد التاسع من عمري
لكنني أثق تماماً أنني وحتى في ذلك العمر
لن أبلغ من المعرفة حول السعادة أكثر مما بلغته عنها في هذه اللحظة،
وسأقول حينها ما أفكر به الآن:
لقد عشت تسعين عاماً،
لكن أجمل أيام عمري التي عشتها
هي تلك التسعة أشهر التي قضيتها في بطن امي!!!
أحنً إلى بطن أمي؛
أحن إلى حنان حبلها السري ومروءتهِ وكرمه.
أحن إلى ذلك المهد في مشيمتي؛
أحنّ إلى تلك الخلوة المقدسة التي لا ينازعني فيها أحد؛
أحن إلى ذلك المستحيل الذي كنت فيه؛ والذي أحلم بأن تصيرني اللحظة إليه..
أحن إلى ذلك الغيب السري العجيب؛
أحن إلى كينونتي الأولى؛
أحن إلى بداياتي التي جئت منها والتي أحلم بأن أذهب إليها؛
بعيداً عن قيل أهل الأرض وقالهم، وشهواتهم ونزواتهم، وتكالبهم وتناحرهم.
أحنّ إلى ذلك البرزخ المطلق؛
أحن إلى تلك الطمأنينة،
أحن إلى ذلك الأبد الأزرق اللانهائي.
– (يصمت قليلا ثم بصوت عالٍ):
يا الله
كم سأكون ممتناً للسماء
لو “فقط ”
ضمنت أن سيكون لي تلك الحفنة من الأيام أو الساعات أو الدقائق سأعيشها..،
أن سيكون لي غد فيه غير من أضاعوني وحفظتهم، غير من كرهوني و أحببتهم،
غير من خذلوني و وفيت بعهدي لهم ،
غير من تركت بضعةً مني عاريةً لديهم ففرطوا فيها، فأُجهضت عزيمتي واختلت موازيني ..
” فقط” يا إلهي
لو ضمنت تلك الحفنة وذلك الغد
لحرصت كل الحرص على أن أكون الذي لم أكنه،
على أن أكون الذي أشتهيهِ،
على أن أكون مُفيداً..
لعل هذا يبدو محالا أو لعله احتمالاً،
ربما لقلة الحيلة،
لولا أنّي سأجتهد في نقل المحال والاحتمال إلى الحتمية التي لاريب فيها ،
وسيكون لي ذلك بعون أحبتي
وهذا الغد الذي أؤمله،
سأوصيهم وهو ما أفعله الآن ،
لأني أجهل الغد الذي سأكون فيه،
فإن كان حظي عظيماً وقدري رؤوفاً
فسيكون غدي جسدُ و روح،
وإن كنت من المختارين المصطفين في العالم الآخر فها أنذا قد أوصيت أحبتي
بأن يحرقوا جثتي لايدفنوها
وسأحرص قبل هذا
أن أكون قد طهرت هذه الثلة الباقية مني
من كل وزر وخطيئة
فعلتها أو لم أفعلها
حتى أصير صرخة روحٍ بدائية
لا تشوبها شائبة ،
إذ ذلك وبعد أن يحرقوا جثتي،
وليس هذا لأني كما قد يخال أحدهم أخشى الدود
أو ظلام التوابيت،
أو الوحدة،
كلا
فلطالما كنت غريباً ووحيداً،
ولكن “فقط”، لأني أرغب بجدية
وأشتهي في أن أكون
مالم يستوعبه هذا العالم الضيق، ويتقبله،
أن أكون ” مُفيداً ”
حتى ولو بعد موتي،
إذ هذا لن يبقى مني سوى رماد ورفات وأطلال روح، وبطريقة عصرية مواكبة للمتغيرات سيأخذون هذا الرماد ليضعوه من ثمّ في ساعة رملية/ رمادية
ومن ثم يضعونها في المكان الذي يقضون فيه جُلّ وقتهم،
ولعل الوقت الذي سيعرفونه بفضل هذه الساعة الرمادية،
هو ما سيجعل مني مفيداً بامتياز،
– كما يفترض بالساعة في حياة الإنسان –
سيعرفون قيمة الوقت بفضل رمادي،
وسيكون كل هذا هو الضريبة
التي سأكون قد دفعتها على المكان الذي سأشغره، مثلما الساعة على الحائط
تزكي على نفسها بالوقت الذي يعرفه الناس بفضلها، نعم
لا أريد أن أكون مخالفاً لقوانين الحكومة
أو عالةً على المكان الذي سأشغره،
لا أقصد اقتصادياً ولكن معنوياً وفائدةً ،
أليس كلما رأى أحبتي هذه الساعة التي أسكنها سيقدرون كم أن الوقت ثمين؟
أليست هذه الساعة أيضاً ستجعلني في أذهانهم على الدوام؟
لأن كثير من البشر لو ظلوا طينا لكان نفعهم أكثر من نفعهم بشراً
على الأقل قد يعرف أحدهم بهم الوقت
أو يزرع فيهم بذرة تنفع الناس و تسد فم جائع أو فقير..
أعرف
و أعرف جيداً
أن الأمر مثير للشفقة
بيد أن تحقيقه سيجعلني في غاية الابتهاج والسرور والسكينة ،
فقط لأني صرت الذي لم أكنه
وصرتُ الذي أشتهيهِ ،
وكفى المرء نُبلاً وخلوداً بعد موته
وليس في حياته
أن يترك شيئاً يُفيد الناس من بعده ..
– (يصمت ثم يتغير لون الإضاءة فيضحك ثم بصوت من تذكر شيئًا جميلا قديما ) :
“وكل العصافير
قد مارست عشقها في رفوفي
وبعض الرفوف تثير الغرائز دافئة في حنان
وبعض الرفوف تنام
ثلاثون..
مانام رفٌ بقلبي
ولا عدتُ أعرف ماذا يفيق وماذا ينام
وشيئاً فشيئاً خبا الرقص في قاعتي والمرايا
وخفّ الزحام
وغادر آخر من أصطفيه
وفارقته فوق جرحي ابتسام
ياربّ،
لا تتركني،
فأنا وحدي.
والناسُ هنا في غربة
أحمل قلبي كبرتقالةٍ
مضى الموسم ولم تنضج.
وانتهى كل الذي قد تاه من دنيا
ومن عمرٍ ومن أحباب.” (١)
(يصمت قليلا ثم بصوت أجش)
– هنا
“لا ماء هنا بل مجرد صخرٍ
صخرٌ ولا ماء والطريق الرملي
الطريق المتلوّي صعوداً بين الجبال
التي هي جبال صخور بلا ماء
لو كان ثمة ماء لوقفنا وشربنا
بين الصخور لا يستطيع المرء ان يقف أو يفكّر
العرق جاف والأقدام في الرمل
لو كان ثمة ماء بين الصخر
فم جبلي ميت باسنان نخرة لا يقدر أن يبصق
هنا لا يقدر المرء أن يقف أو يستلقي أو يجلس
حتى الصمت لا يوجد في الجبال
بل رعد جاف عقيم بلا مطر
حتى الوحدة لا توجد في الجبال
بل وجوه حمراء عابسة تشخر وتنخر
من أبواب بيوت طين متصدّع
لو كان ثمة ماء
ولا صخر
لو كان ثمة صخر
وماء كذلك
وماء
نبعٌ
بركة بين الصخور
لو كان ثمة صوت الماء وحده
لا الزيز
ويابس العشب يغني
بل صوت ماء فوق صخرة
حيث الحسّون الناسك يغرّد في اشجار الصنوبر
سقسق سقسق سق سق سق
لكن ليس ثمة ماء.” (2)
– (تنطفئ الأضواء ويبقى ضوء خافت فيتلفت يمنة ويسرة وأعلى ثم يصرخ:
“من أي غابٍ جاء هذا الليل؟
من أي الكهوف
من أي وجرٍ للذئاب؟
من أي عش في المقابر دفّ أسفع كالغراب؟
“قابيل” أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينةْ،
والليل زاد لها عماها.
والعابرون:
الأضلع المتقوّسات على المخاوف والظنون،
والأعين التعبى تفتِّش عن خيالٍ في سواها
وتعد آنية تَلَأْلأُ في حوانيت الخمور:
موتى تخاف من النشور
قالوا سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور!” (3)
– (يصمت قليلا ثم بصوت يتدرج صعودا رافعا رأسه نحو الجمهور:
“في الليل،
يضيع النورس في الليل
القارب في الليل وعيون حذائي
تشتم خطى امرأة في الليل
امرأةٍ،
ليست أكثر من زورق لعبور الليل
يا امرأة الليل،
أنا … رجلٌ حاربت بجيش مهزوم ..
في قلبي صيحة بوم ..
وأخيرا صافح قادتنا الأعداء
والجيش يحارب ..
ورأيناهم ناموا في الجيش الآخر
والجيش يحارب ..
والآن سأبحث عن مبغى
أستأجر زورق ..
فالليل مع الجيل المكسور طويل ..
فالليل مع الجيل المكسور طويل
فالليل مع الجيل المكسور طويل”. (4)
(يصمت قليلا ثم ينظر إلى الأعلى صائحا):
واغربتاه…
“يا وطني يتحكم فيك النسناس”
يا أيها الغرباء .. طوبى
تعب الطريق من السفر
تعب الحذاء..
تعب الوطن
وتعبت أنت بلا وطن
طوبى لكم يا أيها الغرباء
قال الطريق:
فلنسترح يا صاحب القدمين
قد أنهكتني رحلتك
وظمِئتُ يا هذا الحذاء …
قال الحذاء:
لا وقت للغرباء حتى يستريحوا
لا وقت للتفكير
سيحل ليلٌ
واللصوص وراءنا
وإن استرحتُ
أنا وأنت وصاحبي
سرقوا الوطن …
قال الوطن:
الليل جنّ
والأرضُ مُذئبةٌ هنا
والشهرُ أولهُ ولا قمرٌ يضيء طريقنا
ولا نجوم…نهتدي بضيائهنّ
فأشعلوا ناراً..
تؤانسنا..
وتدفئنا..
وتضيء مسلكنا..
وتطرد عننا شر اللصوص مع الذئاب …
وطني …
النار تسكن مهجتي
فلا تخف…
من الظلام أو اللصوص أو الذئاب
أنا والحذاء مع الطريق
طوع أمرك يا وطن ..
أتُراكَ جُعت ..؟
أواما ظمئت ..!؟
أتريدُ ماء ..!؟
فلنسترح ..
إليك بعض الخبز من تنور أمي
إليك بعض الحبِّ
وطني يَحِنُّ إليكَ يا وطني
وأهل مدينتي غرباء ينتظروك …!!
يا أيها الغرباء …
طوبى..
يسدل الستار
هامش
1. من نص للشاعر مظفر النواب
2. من نص الأرض اليباب للشاعر توماس إليوت
3. من نص للشاعر بدر شاكر السياب
4. من نص للشاعر مظفر النواب