نص مسرحي: “نساء من ذهب” / تأليف: حيدر عبد الرحيم الطيب
(غرفة قديمة ورطبة. جدرانها مغطاة بالصحف. في يمين المسرح حنفية تقطر ماء قطرة قطره. امرأة نائمة على فراش بسيط في وسط المسرح…يرتفع صوت الأذان من أكثر من مسجد، فتتداخل أصوات المؤذنين بصوت قطرات الماء).
المرأة: (وهي تصحو) يوم جميل هو اليوم الذي يبدأ بذكر الرحمن. منذ زمن بعيد لم أصحو على هذا الصوت. ربما منذ ثلاثة أعوام.
( تنهض تشعل شمعة )
المرأة: رغم أنوفنا غادرت الطمأنينة وأيام الرخاء. لم نعد نسقي الورود في كل صباح.
(تعود إلى مكانها، تمسك بطنها وتجلس بهدوء )
المرأة: تغيرت حياتنا. اعتادت مسامعنا على أصوات القتل والتفجير. نخرج كل صباح بالصراخ والعويل. شابت قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا .
( تقف أمام مرآة معلقة على الجدار)
المرأة: ها أنا احمل جنينا في بطني. جنين وضعه في رحمي القتلة واللصوص، ورحلوا. اجهل الكثير من الأمور. لا أدري ما الذي افعله. ألف حيرة تدور في رأسي. ها أنا الآن مع الجنين الذي أرغمت على حمله مثلما أرغمنا على تقبل الحرب .
( تنظر إلى بطنها وتتلمسها، وتتكلم معها )
المرأة: ها أنت تكبرين كلما كبرت الحرب. ومصيرك مجهول مثلها. لا أعرف أأنت ذكرا أم أنثى؟ وأيضا لا أعرف الحرب من أين بدأت ومتى ستنتهي. أعرف شيئا واحدا فقط.
( تتقدم وتقف عند مقدمة المسرح )
المرأة: ما أعرفه هي اللحظة التي حملت بها الجنين . كانت ظهيرة أبريلية ساخنة . استيقظت من نومي، رأيت شابين بلوني بشرتين مختلفتين فوق رأسي .
( مشهد خيال ظل في عمق المسرح مبين به الاغتصاب الذي حدث لتلك المرأة )
الشاب 1 : إنها جميلة
الشاب 2 : جمالها هادئ ووجها طفولي.
الشاب 1: أنا سأبدأ.
الشاب 2: لا، أنا من سيبدأ.
الشاب 1 : أنا وليس أنت.
(يهجمان عليها ويمزقان ملابسها. ينتهي المشهد باغتصابها من قبل الاثنين )
المرأة: في وقتها قلت لنفسي: أنا سعيدة الحظ لأني لم أقتل، رغم افتراسهما لي ووحشيتهما وهما يمزقان في ملابسي وينهشان لحمي، سرح عقلي، لذلك الحبيب الذي يحسب الأيام لحظة تلو الأخرى للظفر بهمساتي الدافئة. مر شريط ذكرياتنا في رأسي . توقفت عند بضع كلمات وركزت عليها كي أبتعد عن ذلك المشهد البعيد عن حساباتي وتفكيري. بعد رحيله عني إلى المشاركة في الجهاد الوطني. قال لي: فلونتي، كان يدلعني بهذا الاسم حينما أدخل الحرب، في ذلك الجحيم، سأحافظ على نفسي من أجلك. وأتناسى أزيز الرصاص الذي يشبه صوت الريح في البيداء القاحلة.
(صوت هاتف النقال يرن تذهب إليه مسرعة ترفع الهاتف . صوت الحبيب وسط المدافع والرصاص )
المرأة: الو..الو. ماذا؟ نعم أنا بخير، انتظر قدومك. ماذا؟ لم أسمع. لا، لا أريد غير رؤيتك أيها الحبيب. انتظر أريد أن أخبرك بشي. .الو … الو . انتظر لا تغلق الهاتف.
( تتصل به مرة أخرى )
المرأة: أف، خارج نطاق التغطية. ماذا عساني أفعل؟ لا أعرف ما السبيل للخروج من هذا المأزق؟هل أخبره عبر الهاتف؟ وإن أخبرته، ما الذي يمكنه أن يفعل غير الحزن؟. . ربما سيقتله الحزن لأجلي. هل أصمت؟ يقتلني القلق. ماذا أفعل؟ أهاجر إلى مكان بعيد.. سيحل محلي السراب في قلبه. كل هذا الأسئلة تدور في ذهني بلا أجوبة مناسبة. إن هاجرت بأي لغة أتكلم وأنا لا أعرف غير لغة الشتائم وقرارات المعارك والأناشيد للحكام الفاسدين. لم تعد لدي الفراسة الكاملة لمعرفة ماذا يجري من حولي. لا أعرف ما السبب في ذلك . أسئلة تدور في ذهني . ولكن ما الحكمة؟ في هذا الوقت.. الآن. تحز الرؤوس وتزهق الأرواح، ما الحكمة من ذلك؟ رغم أني أعلم أن الرب يرى نفسه بمعبوده.
( تصرخ . ترفع رأسها إلى السماء )
المرأة: ترى نفسك بي، لماذا سمحت أن تحل بي هذه المصيبة؟ هذه هي العدالة التي أوصيت بها؟!هل هذه العدالة التي تحمي الطير في عشه. أين العدالة التي أبحث عنها كي تخلصني من هذه المقصلة؟ أريد أن أعرف مصيري، أقتل أم أعيش. لا أحب تلك القيود التي تشل تفكيري. أنا في حيرة. في ما مضى كان لا يعنيني إن كنت سأعيش أم لا. بعدها قررت أن أعيش لذلك الحبيب. لا أعرف ماذا سيفعل عندما يراني أحمل طفلا في بطني، ولا أعرف هل يصدق الجريمة التي تعرضت لها. وإن تركني، ماذا سيحل بي بعدها؟ أقوم برعاية طفل أجبرت على حمله؟! هل سأناديه بولدي مثل باقي النساء؟ هل هو ولدي حقا؟!
( يرن الهاتف )
المرأة: الو .. نعم أنا هي .. أنا بخير .. ها، لم اسمع صوت الرصاص يجعلني لا اسمع . ماذا ؟ نحن لسنا في خطر، اطمئن. اخبرني متى ستعود؟ الو، الو، الو.
(قطع الاتصال مرة أخرى) .
المرأة: هذه المرة ضيق في صدري. قلبي سيخرج من فمي. هذه المرة أحس بشيء مختلف عن كل مرة اسمع فيها صوته . هذا يعني أنه الآن في خطر كبير . لمست في صوته لحظات، وداعي!
( تذهب وتملي دلو ماء ثم تغرف منه في طاسة صغيرة وترش المكان )
المرأة: ربي أحل السرور في قلبي وأبعد عنه الضيق. يا رب إحفظه وابعد عنه الخطر إلهي أنقذه مما هو فيه الآن، هو من معه. اللهم صل على محمد. بسم الله الرحمن الرحيم. الطور وكتاب مسطور . بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. الحمد الله، سبحان الله، لا اله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
( تعاود الاتصال به يرن الهاتف بلا جواب )
المرأة: لا يرد. عادته أن يرد عليّ حتى لو كان في قلب المعركة.
( تمسك قلبها وتتنفس بشده )
المرأة: اهدأ أيها القلب. اهدأ قليلا. سيأتي لا تقلق، لربما هو منشغل بأمر آخر (تصفن) أي أمر؟! إنه يجيب عليّ حتى في المعركة (تضحك) لا، ربما لم يسمع اتصالي بسبب ضجيج الحرب. سأتصل مرة أخرى أو سأنتظر قليلا كي لا اشغله بأمري. أمري!
(تفكر قليلا)
المرأة: عليّ أن أحضر مهدا للرضيع الذي سيشرف قريبا. . طفلي، طفلهم، طفل شيء ما.
( تجهز المهد )
المرأة: منذ صباي وأنا أحلم بطفل لكي أمارس الأمومة. كانت أمي تقولي لي دائما، حينما تكبرين وتتزوجين سيصبح لديك أطفال، وحينها تعرفين ماذا يعني الأطفال للأمهات. أتذكر، قالت لي: أنت ستصبحين أم مثالية لأولادك. كل ما قالته لي أمي حدث لي في مسيرة حياتي. أما الآن، وأنا في هذا الحال، صوت أتساءل، هل حدث لأمي ما حدث لي وحملتني من أب مجهول كما أحمل طفلا لا أعرف أباه. هل الحروب الماضية لوثت بقذاراتها أمي كما لوثتني . هذا التفكير يراودني كثيرا لأن كلام أمي عن مستقبلي لم يكذب يوما. في هذه اللحظة، لو كانت معي لسألتها دون تردد: بنت من أنا. وإن كنت بنت المجهول، فهل علم أبي، ولو أنه علم، فهل كانت سيتقبل الأمر؟ على كل حال، سأعتني بصغيري فهو ليس له ذنب . لكن يحدث الآن، في ذهني هلوسة تضاف إلى الضجيج داخل عقلي. ترى أسيكون من أصحاب النساء والكحول أم من أهل التقوى أم السلطة؟ أف، لقد نسيت، مر وقت طويل ولم يعاود الاتصال بي.
( تعاود الاتصال به )
المرأة: لم يرد.
( تعاود الاتصال )
المرأة: لم يرد أيضا.
( يدخل الحبيب على شكل شبح)
الحبيب : لا تنتظري قدومي.
المرأة: إني انتظرك منذ أشهر.
الحبيب : لكني أصبحت في غير عالمكم.
المرأة: ( تضحك ) لا تمازحني.
الحبيب : المزاح محظور علينا.
المرأة: كل حرب وإن طالت ستنتهي.
الحبيب: كل حرب لها نهاية وحروبنا بداية لحروب أخرى وأخرى.
المرأة: ولكنها ستنتهي مهما طالت، وسأرقص رقصتي معك.
الحبيب: أمنياتنا كثيرة وجميلة.
المرأة: أمنياتنا كبيرة بحجم حبنا الكبير. .تعال بقربي اشتقت إليك . اشتقت لمقلتيك الممتلئة بالشوق إليّ .
الحبيب: حبيبتي . كنت على وشك أن تضعي قبلة على خدي . وتحضنيني في لحظة حنان.
المرأة : تعال . أريد أن أغفو على ذراعك واستنشق رجولتك.
الحبيب : ليس بمقدوري ذلك .
المرأة: لا، أنت وعدتني أن تكون ظلي . وتريد الآن أن تتركني.
الحبيب: أنا انتظرك . ستأتين قريبا .
المرأة: أين أنت؟ أين يمكنني أن أجدك؟
الحبيب: هناك حيث الأمان . سيكون بيتك قرب بيتي.
المرأة: لا، خذني الآن أريد أن أعيش إلى جوارك.
الحبيب: لا يمكنني ذلك، ولكنك ستأتين. أنا في انتظارك .
المرأة: أريد أن أكون معك الآن. أين ذهبت انتظر حبيبي. لن اصدق أنك تحولت إلى قتيل. هل تعرف ماذا فعلت؟ أشعلت براكين قلبي بالنيران النائمة . الو . الو . الو . أين ذهبت؟!
الحبيب : صدقيني، ستأتين قريبا .
المرأة : متى؟
الحبيب : لا تخافي إنها مجرد أيام معدودة.
المرأة : (بفرح) متى؟ وكيف؟ لا أريد غير أن أكون بين ذراعيك لقد سأمت الحياة. لا مقدرة لتحمل هذه الحياة من دونك أصبحت قاسية خذني إليك أتوسل لإليك . لا عدالة في هذا الوطن.
الحبيب: هنا العدالة التي أعيشها. . الرحمة التي في السماء أدخلت السرور في داخلي.. وداعا.
المرأة: ( غاضبة ) انتظر لا ترحل خذني معك لا تتركني وحيدة. الو . الو . الو .
( يسقط الهاتف النقال على الأرض بينما هي تمسك بطنها وتصرخ إشارة إلى الولادة. في هذه الأثناء تدخل توابيت شهداء في عمق المسرح، بينما هي تصرخ وخلفها عزاء للشهداء مع مجموعة من النساء والرجال يصلون صلاة الموتى. بعد الانتهاء من الصلاة تصرخ صرختها الأخيرة وتلد طفلين أحدهما اسمر البشرة والأخر أبيض . تضع الطفلين على صدرها وتبتسم ثم تموت) .
(ظلام مع فتره صمت قصيرة يضيء المسرح ببدء ضجيج متدرج ثم يعلو رويدا رويدا.. تتغير معالم المسرح إلى مستشفى أطفال)
الرجل 1: هذا ليس ابني أنا . أريد هذه.
المرأة 2 : هذا اسود البشرة إنه يناسبك.
الرجل 1: ماذا تقصدين؟
الرجل 2: لا، هذا ليس صحيحا أنا لدي بنت وليس ولد، هذا ما قالته لي زوجتي قبل أن أذهب.
( يستمر اللغط حتى يخفت ضوء المسرح تدريجيا ويغلق الستار )
انتهــــــــــــــــــــــــت
* حيدر عبد الرحيم الطيب (الناصرية 2022)