تقديم :
يبدو ان السبب الرئيسي وراء إعداد مسرحيات (شكسبير) وانتاج نص مواز جديد لها هو صياغة هذه المسرحيات صياغة محدثة، وبالنتيجة كان ذلك يعني اعادة كتابة مشاهد وتغيير نهايات وذلك حتى تتفق والجو النفسي العام للعرض، لذا أخذت معاول المؤلفين والمؤلفين تحفر بجد في التراث الشكسبيري بوعي لحظتها التأريخية، فهذا الالماني (بريشت) يخرج بمعالجة فريدة لنص (كريولانس) والتي عكست قضايا سياسية راهنة في وقتها من قبيل صراع الطبقات، وانتصار الديمقراطية على الارستقراطية العسكرية او ضرورات السلطة التي تحمل في طياتها عوامل تقوضها، وفي نفس السياق قرأ الانجليزي (ادوارد بوند) مسرحية (الملك لير) قراءة سياسية فضائحية، وهو يقول بهذا الصدد : “اننا كمجتمع نستخدم مسرحية الملك لير على نحو خاطئ، ولهذا السبب اود ان اعيد كتابتها حتى نتمكن الان من استخدامها لانفسنا ولمجتمعنا الجديد ولزماننا ولمشاكلنا” وقامت فواعل المعدين والمقتبسين والرائين الدراميين في معالجاتهم للنص الشكسبيري على منحيين، الاول ان يقدموا فعلا شديد الاختلاف بحيث لا تتجاوز علاقته بالنص الاصلي العلاقة الاستبدالية والثاني هو ان يقوموا بتغيير المنظور بشكل كامل وذلك لخلق علاقة تضادية جدلية بين ما يقدمونه من (ثيمات) ورؤية شكسبير، لتشظية البناء التراجيدي وتقويض الشخصية داخله بالانفتاح على انواع درامية جديدة في قراءاتهم المحدثة، وبين هذين المنحيين والنسقين الاشتغاليين على النص الكلاسيكي أطل الفنان المسرحي التونسي برأسه ليقرأ مسرحيات شكسبير قراءات تجريبية مبتكرة أستندت واتكأت على الوقائع الاجتماعية والسياسية والصراع الحضاري والتناسج الثقافي وانعكاسه على الخطاب المسرحي تارة، وجدة الشكل الفني ومغايرته للسائد في المعالجة والتجسيد تارة اخرى.
دراماتورجيا النص وتشظية مراكز النص الكلاسيكي
عمل المؤلف (بوكثير دومه) على انتاج نص مواز جديد للنص الكلاسيكي (عطيل) بكسر افق التوقع عندما يعيد الحياة لشخوص (دزدمونه) و(كاسيو) و(رودريغو) محولا شخصية (عطيل) الى (شهريار) معاصر يحاول تصفية ضحاياه بوحشية وسادية معيدا أطر الحكاية السابقة حكاية عطيل ولكن بخطوط وعلاقات جديدة، اذ يستحدث المؤلف شخصية أم عطيل وكأنها (ترسياس) العراف الاوديبي بعصاها ونبؤاتها وحدسها الثاقب، وابتكار حمل (دزدمونة) لجنين من عطيل يغير الدم الجنوبي بحاضنة شمالية أم، ويصبح دور شخصية (اميليا) في النص الجديد أوسع واشمل اذ تتحول الى راهبة في دير تحاول ان تكفر عن ذنوبها وخطاياها وتستعيذ بالرب من هول الواقعة الاصل ـ قتل عطيل لدزدمونة ـ يلعب النص الجديد على ثنائية الوهم / الحقيقة حقيقة الجريمة ووهمها وقوعها واستحالتها بتقنية كتابية تنفتح على فواعل الاداء التمثيلي وتجليات المسرحة فهو نص عرض بأمتياز (نص مؤخرج) يحاول عطيل ان يستنطق شخصياته (دزدمونه) (كاسيو)(ياغو)(رودريغو) ويحاورها متعرفا على ما خبئ خلف السنتهم وما يضمرون من افعال، يستمر (ياغو) في غيه ومؤامراته وشره المستطير دون هوادة ودون رادع اخلاقي، الطباع الاولى للشخصيات تستمر في النص الجديد فكاسيو ما زال هو حامل لواء عطيل والضابط الوسيم الذي يذهب ضحية مؤامرات ياغو اذ يستمر الاخير في اغراءه بالقيادة وتزويجه دزدمونة، وكذلك رودريغو بنفس شبقه الحسي واشتهاءه لدزدمونة محاولا استمالتها بشتى الطرق والتخفيات الا انها ترفضه، يخطف ياغودزدمونة ويذهب بها ليخبئها في دير الراهب دانيال، ليبدأ عطيل بالبحث عنها ويعرف من اميليا ان ياغو قد خطفها.. ياغو يحاول ان يقوم بجريمة اكبر وهي استئجار قاتل افريقي لقتل عطيل مباشرة، ياغو هو الانانية المطلقة وهي الموقف العقلاني الصحيح الوحيد لديه، يحاول ياغو من منظور طبقي وعنصري ان يُعَير عطيل بجنسه ولونه ويدعوه لمغادرة بر الشمال والعودة لوطنه، يخلص عطيل دزدمونة فاكا اسارها، الام تدعوه لمغادرة بر الشمال والعودة لوطنه والبدء من جديد، لا يمكن قراءة هذا النص وتأويله الا بقراءة ما بعد كولونيالية في ضوء الاخر المهيمن الذي يستعمرنا، الاخر الذي يحسدنا وينظر الينا بشزر وعين عوراء الاخر الذي يمتهننا ويستعبدنا بعنصرية، النص (استغرابي) ـ عكس استشراقي، من وجهة نظرنا نحن للغرب، لا كما النظرة النمطية السائدة التي يرانا هو بها، وما يثبت ذلك هو مونولوج عطيل مخاطبا امه: اهل السياسة في بر الشمال ينظرون الي كسلعة يا أمي ولست قائدا بضاعة رابحة، يراهنون على انتصاراتي، يقامرون بأموالهم على قوتي ومهاراتي، يعقدون الصفقات.. يبيعون .. يشترون .. كل شئ عندهم يباع ويشترى.. انا مجرد ثور في حلبة.. كبش نطاح.. نسر للصيد والرهان.. حينما ينكسر جناحي سيتخلون عني .. ) انه التوغل والنبش في القراءة السياسية المعاصرة من دون وجل او خوف او مواربة، والاسقاط المعاصر واضح للعيان لا يحتاج الى شرح او تفسير او بيان، عطيل الجديد يؤجل فعل قتل دزدمونة فهو لا يريد ان يكون محل شفقة لاحد.. ليتعرف ويعرف كما شهريار في الليالي العربية عندما تؤجل (شهرزاد) مقتلها بالحكي والسرد، يبزغ وعي عطيل وادراكه مؤسسا للحظة المعرفة والوعي بالاخر.. فضحه وتجريده من اسلحته وكشف زيفه وخداعه، انه التردد الهاملتي مرة اخرى، ولكن (بوكثير دومه) يضع له مبررا دراميا هو حمل دزدمونة لجنين من عطيل يحمل فكرة التناسج والحوار بين الشرق والغرب.. الشمال والجنوب، عطيل يعود في النهاية ذلك الانسان الناستالوجي الباكي على الاطلال في حنين حار الى النبع الاول والجبلة الاولى، بعد ان توقد فيه اميليا روح الثورة ونارها من جديد وطي صفحة الاستكانة والاستسلام والركون الى الشك والريبة والانتقام ..
القراءة الاخراجية وجدل الثنائيات
يعتبر نص (بوكثير دوما) الموسوم (عطيل وبعد) عصيا على القراءة الاخراجية الجديدة لانه نص مؤخرج بأمتياز يتحرك بدينامية على الخشبة سمعيا وبصريا اضافة لبلاغته اللغوية وشعريته وبناء حبكته المحكم، فكيف تسنى للمخرج (حمادي الوهيبي) الولوج والتوغل وتفكيك شفرات ودلالات هذا (النص المؤخرج) المهيمن والمرتكز على نص قار وماثل في الوعي الجمعي هو النص الشكسبيري؟ يبدو ان حوارا وجدلا دراماتورجيا نشأ بين المؤلف والمخرج منذ البذرة الاولى لتكوين وبناء النص ـ وهذا ما كشفه المخرج في الجلسة النقدية للعرض ـ بمعنى ان النص ليس نتاج قريحة درامية مستقلة انما جاء نتيجة حوار مستمر بين الادب والمسرحة مما ادى ذلك الى انتاج نص ينفتح على العرض مباشرة بحمولات دلالية وارشادات مستقرة في النص اصلا، ُيفتن المخرج (الوهيبي) بالمساحة الخالية منذ عروضه الاولى ومنها عرض (الروبه) الذي شاهدته في مناسبات سابقه، وتنفتح ميزانسيناته الحركية نحو التمدد والانبساط نحو المتلقي والتقهقر احيانا نحو خلفية المكان الذي جاء طقسيا متمركزا حول دير الراهب دانيال بأستطالات سلالم نحو الاعلى وتجويف عميق على يمين المتلقي جاء سجنا لدزدمونة واختفاءها، يوظف الوهيبي الفعل العضلي لانشاء مواجهات دراماتيكية خشنة ما بين عطيل وخائنيه ياغووكاسيوورودريغو وانتاج لحظات رعب وخوف جسدها بمؤثرات صوتية قوية تمثل حضور عطيل المسموع واللامرئي في المكان كوقع اقدام الخيول ووقع اقدام عطيل نفسه، وشاشة خلفية عرضت تردداتها وتموجاتها اشكالا متنوعة فشكلت جدارا للدير وصلبانا ونهرا وقمرا ومطرا دفاقا غسل ذنوب شخصيات العرض وادرانها، وابتكار مساحة لموسيقي يعزف الحانا افريقية شجية من على جيتار حزين، اضافة لتلوين العرض براقصين يمثلان روحي عطيل ودزدمونة، وتجسيد دائرية الحكاية المستعادة من الموروث الشرقي لدى ديك الجن وقرينها الغربي عطيل ودزدمونة، تلك الحكاية التي تجسدت بثنائيات فلسفية : الشمال والجنوب، الابيض والاسود، العهر والعفة، الحياة والموت، كان الفعل الاخراجي مدركا لها ولجدلها وحجاجها الفكري والجمالي العميق، لانتاج صورة جمالية معاصرة ظهرت في ازياء الممثلين وسحناتهم وطريقة اداءهم، الممثلون سليلي السحرة والذين قال عنهم الشاعر الفرنسي (بودلير) صاحب ازهار الشر : “انهم لا يعرفون كيف يلامسون القلب دون عصره” فقد عصر واوجع ممثلو العرض قلوبنا وادموها خصوصا الممثل (مهذب الرميلي) الذي نهض بدور عطيل كان جامحا شاردا ملتاعا ثابت القدم وهو عندما غنى اسعد واطرب وعندما تكلم ساد صمت مطبق ارجاء القاعة، انه الطفل الذي لا يبكي .. وقد كبر الان .. لقد كبر عطيل في العرض وشابت ذوائبه، وان الرجل الذي لا يبكي لا امان فيه كما يقول (بو كثير دومه) وممثلة دور (اميليا ) الممثلة (اباء الحملي) كانت داينمو العرض بلا منازع كانت ممثلة حارة نافرة استثنائية يسكنها جني التمثيل شخصت ذلك التشظي والتوزع للذات وتمزق الوعي بين ثنائيتي الطهر والعهر وطي الماضي ونسيانه والثورة عليه هي المحرض الاول لعطيل لكي يتغير ويحرق ماضيه بكل شكه واخطاءه، وكذلك ممثل دور ياغو الممثل (شوقي خوجة) استحضر مهاراته الصوتية والجسدية حينما أتخذ اوضاعا ادائية صعبة كأنه ضبع تحسس فريسته والرمم التي تصارع معها وممثل دور (رودريغو) (نور الدين الهمامي) الصوت الكوميدي الساخر في العرض استطاع ان يحرك فينا جذوة الابتسام المر حين تنكر وأخذ يستجدي عطف دزدمونة وحبها صعب المنال، والام الافريقية التي كانت راكزة برمحها الطويل ولفظها واضح البيان والنبر وشراسة اداءها وتوجيه ولدها الغارق في شكه وابتلاءاته، وجاء اداء الممثل (بهرام العلوي) لدور كاسيو متوازنا وضلعا رابعا يكمل اطار الصورة الادائية والابداعية المائزة للعرض، بوضوح صوتي جلي وقدرة على الاستغراق في الوهم والحلم وغوايات (ياغو) وكذبه المستمر، واخيرا جاء اداء الممثلة (فاتن الشوايبي) لشخصية (دزدمونة) شفافا عميقا رسوليا في بث نجواها وشكواها للرب كي يخلصها من مصيرها التراجيدي ومأزقها الرهيب.