نص مسرحي: “زنزانة سقراط” / تأليف: عباس منعثر

 الشخصيات:

سقراط

الغريب

المكان: زنزانة

الزمن: عام 399 قبل الميلاد

(ليلة شتوية باردة، صمتٌ ثقيل يسيطر على الأجواء، يوحي بأن العالم في حالة انتظار لشيء مصيريّ أن يحدث. زنزانة صغيرة، مظلمة… فيها شعلة معلقة على الحائط ومصدر ضوء موضوع على طاولة خشبية في الزاوية، وضوء يدخل من فتحة في السّقف المنخفض.. الجدران متآكلة وعمود في المنتصف. في الجانب الايسر، هناك سرير خشبي، عليه شخص نائم. قدماه متدليتان من السّرير، وملابسه رثة. جرّة صغيرة من الماء بجانب السّرير. صوت خطوات تتقدّم نحو الزنزانة. الباب الخشبي يصدر صريراً حاداً وهو يُفتح ببطء. رجل ملّثم، لا تظهر منه سوى عينين تلمعان تحت غطاء قماشي داكن. يتوقف عند عتبة الباب للحظة، ثم يدخل)

سقراط :  (ينتبه) من أنت؟

الغريب : توقعتُ هذا السّؤال…

سقراط : والردّ؟

الغريب : ستعرفُ لاحقاً.

سقراط :  لماذا أتيت؟

الغريب : عادةً، الناسُ الذين يجيئونَ إليكَ هنا… من أيِّ صنفٍ هم؟

سقراط :  يأتيني البعضُ طلباً للتبرّكِ والتقديس، وآخرونَ يشتمونني بكلماتٍ كالسّهام. الفضولُ ساقَ فريقاً، والرغبةُ في التعلّمِ قادتْ فريقاً آخر.

الغريب :  من المحتملِ أنني صنفٌ جديدٌ من الناس.

سقراط : لماذا تتلثّم؟

الغريب : وما تظنُّ فلسفتُكَ السّبب؟

سقراط : الأسبابُ كثيرة.

الغريب : مثل؟

سقراط : بعضُهم يتلثّمُ هرباً من نفسِه.

الغريب : صدقت.

سقراط: فالوجهُ مرآةٌ تكشفُ ضعفنا، ألمنا، أو خشيتنَنا من الاعتراف.

الغريب : واللثام؟

سقراط : حاجزٌ يُخفي الأسرار.

الغريب: هل ينجح في ذلك؟

سقراط : السرَّ الآن يشي بنفسِهِ لحظةَ اختبائه.

الغريب : وما غايةُ اللثامِ إذن؟

سقراط : حمايةٌ من أعينِ الناس، ستارٌ لفعلٍ شائن، أو هروبٌ من مواجهةِ الحقيقة.

الغريب : أو ربما لإخفاءِ قبحنا.

سقراط : مثل وجهي؟ لكنني راضٍ عن قبحِي وأحبُّه.

الغريب : وماذا عنّي؟

سقراط : رغبةٌ في التميّز..

الغريب : أو بسبب التواضع!

سقراط : أو خوفٌ من نظراتِ الاشمئزاز..

الغريب : جمالي قد يصدمُكَ!

سقراط : أزِلْه إذنْ.

الغريب : أخافُ من الحسد.

سقراط : أنتم جميعاً متلثمون. منكم من يلتفُّ بحزنِه، ومنكم من يُخفي فرحَه. لكن اللثامَ واحدٌ… يفصلُكم عن ذاتِكم دائماً.

الغريب: قد يكونُ السببُ أحدَ ما ذكرتَ، لكن ليستْ هنا المسألة.

سقراط: أينَ إذنْ؟

الغريب: أخفي وجهي كي يكونَ فعلي للخيرِ هو مبررُ فعلي له..

سقراط: وهل تخفي مهمتَكَ كذلك؟

الغريب: جئت كي أساعدكَ في الهرب..

سقراط: تساعدني؟

الغريب: هل تقبلُ الذهابَ معي الآنَ خارجَ هذه الزنزانة؟

سقراط: والحرّاس؟

الغريب :  امنحْهُم رشوةً كافيةً، ومن يرفضْ سيجدْ نفسَهُ مسموماً في ليلةٍ حالكةٍ أو يَخترقُ صدرَهُ خنجرٌ مجهول.

سقراط : وهل تعتقدُ أنني قادرٌ على انتهاكِ القانون؟

الغريب: انت لم ترتكبْ جرماً..

سقراط: اذا حكمَ المجتمعُ عليَّ بالذنب فيجبُ أن أنصاع!

الغريب: سيسامحُكَ المجتمعُ بعد أن نهرّبَكَ من هنا.

 سقراط: والمقابل؟

الغريب :  أنْ تكفَّ عن إغراءِ الشّبابِ وإفسادِ عقولِهم.

سقراط :  وكيفَ يكونُ الإفسادُ في نظرِك؟

الغريب :  تُعلّمُهم مخالفةَ المعقول!

سقراط :  وما هو المعقولُ عندَك؟

الغريب :  ما يراه الجميع حقاً.

سقراط :  الجميعُ أمِ القطيعْ؟

الغريب :  قلتُ الجميع!

سقراط :  الجميعُ يُهملونَ الحقيقةَ ويتشبثونَ بما اعتادوا عليه.

الغريب :  بل انهم يحترمونَ الأعراف.

سقراط :  بلا تفكير...

الغريب :  أقصدُ ما اتفقنا عليهِ نحنُ:  أنا، والفلاحُ، والتاجرُ، والكاهنُ، والمستشارُ، والنبلاء.

سقراط :  أهؤلاءِ همُ الجميع؟ أم أولئكَ الذينَ لا يطرقُ السّؤالُ بابَهم، الغارقونَ في القداسةِ الزائفة؟

الغريب :  هذا ما آمنَ بهِ أسلافُنا، وهو الحقّ.

سقراط :  هل كانوا على حقٍّ حين آمنوا بالشيءِ أم حين آمنوا بعكسِه؟

الغريب :  الحقيقةُ وحدَها تجمعُ الناس!

سقراط :  لقد تفرّقوا في أصلِ الكون. منهم من قال إنهُ الماءُ أو الهواءُ أو الترابُ أو النار!

الغريب :  الحقيقة هو ما تقررُهُ الآلهة.

سقراط :  آلهة؟ أتقصد زيوس الذي يخدعُ، أم هيرا التي تغارُ، أم أفروديت، أم أبولو، أم أرتميس، الذين يتصارعونَ دائماً؟

الغريب :  الآلهةُ فوقَ العقل.

سقراط :  إذن، العقلُ سجين؟

الغريب :  بدعة!

سقراط :  يسجنُهُ الجهل!

الغريب :  أنت… تلعبُ بالكلمات!

سقراط :  وأنت تلعبُ بالاتهامات.

الغريب :  لم يكنْ هدفي أن أُناقشَك!

سقراط :  ما هدفُكَ إذن؟

الغريب :  أن نتفق.

سقراط :  أريدُ إغراءً كبيراً جداً إذن.

الغريب :  سترجِعُ إلى أولادِكَ وزوجتِك.

سقراط :  إغراءً أكبر.

الغريب :  تعيشُ حُرّاً.

سقراط :  أكبرَ، أكبر.

الغريب :  بدلَ هذا المكانِ الرّطب…

سقراط : أنا منتظرٌ أن إغراءَكَ يحملُني على جناحِ الأحلام، أطيرُ بين السّحبِ، لا أن يشدَّني إلى الأرضِ حيث العائلةُ والمجتمع.

الغريب :  ستصبحُ صاحبَ مدرسةٍ خاصةٍ بك.

سقراط :  تطورٌ رائع!

الغريب :  لكَ مريدون.

سقراط :  بديع!

الغريب :  أتباعٌ بالآلاف.

سقراط :  جميل!

الغريب :  وتنشرُ الفكرَ الذي ترغب به… بشرط.

سقراط :  سمعته من قبل، تريدونَ أن أكفَّ عن إغراءِ الشّباب.

الغريب :  الشّرطُ بسيطٌ، مجّدْ الآلهةَ ولا تقتربْ من هيبةِ أصحابِ السّلطان.

سقراط :  (ساخراً) ثمنٌ زهيد!

الغريب :  هل توافق؟

سقراط :   أنتظرُ مزايا مثيرة.

الغريب  :  ستصبحُ المستشار.

سقراط :  وما فائدتُه؟

الغريب :  ستسكنُ قصراً فخماً، وحولَك خدمٌ وحشم. الطعامُ شهيٌّ دائماً، المالُ يتدفقُ بلا انقطاعٍ، والوجاهةُ تصنعُ الكرامة. كلُّ طلباتِك تُجابُ قبلَ أن تذكرَها.

سقراط :   كم عددُ المستشارينَ في المدينة؟

الغريب :  ماذا تعني؟

سقراط :   كم من الناسِ يعيشونَ الحياةَ التي وصفتَها للتوّ؟

الغريب :  قلةٌ من عليةِ القوم.

سقراط :  فقط؟

الغريب :  نعم.

سقراط :  والبقية؟

الغريب :  لهم حياتُهم الخاصة.

سقراط :  أُفضّلُ أن أعيشَ مع القطيعِ وأحافظَ على مبادئي.

الغريب :  المبادئُ لا تضعُ نكهةً على الخبز.

سقراط :  أعتذرُ عن قبولِ مغرياتِك يا سيدي.

الغريب :  وهل تعتقدُ أنَّ الأمرَ سهلٌ هكذا؟

سقراط :  ماذا تقصد؟

الغريب :  إذا رفضتَ ستنالُ ما لا ترغب.

سقراط :  لا أهتمُّ بذلك.

الغريب :  ستبقى كخرقةٍ مرميةٍ هنا إلى الأبد.

سقراط :  الأبدُ كلمةٌ قصيرةٌ لها نهاية.

الغريب :  ستتعفنُ وتتحلّل.

سقراط :  لم يبقَ من العمرِ الكثير. أنا في الثمانين. ثمّةَ من يقطعُ ورقتي من شجرةِ الحياةِ في العالمِ الآخر.

الغريب :  لن تغادرَ بسهولة.

سقراط :  لكَ ما شئت.

الغريب :  مثلما طِرْتَ بجناحينِ على سريرِ الثراءِ أيها المستشار، دعني أرسمُ المشهدَ بشكلٍ مغاير.

سقراط :  تفضلْ…

الغريب: سيبدأُ عذابُكَ بالإهمال. لا أحدَ سيلتفتُ إليك.

سقراط: الإهمالُ عقابٌ لمن يُريدُ، أنا لا أُريد!

الغريب: لكنَّ الظلالَ ستحيطُ بك..

سقراط: سأتفيأ!

الغريب: الفراغَ سيبتلعُ صوتَك..

سقراط: سأتبعُهُ!

الغريب: لن يكونَ لكَ ذكرٌ في أثينا، سيمحونَ اسمَك.

سقراط: وهل يُكتبُ شيءٌ حقيقيٌّ في صفحاتِ التاريخ؟

الغريب :  وأخيراً، يقتربُ الألمُ الحقيقيّ… آه لما يفعلُهُ الألمُ بالجسدِ! ستتوسلُ بموتٍ يريحُك من العذاب.

سقراط :  وماذا سيفعلون؟

الغريب :  سيرمونَكَ في حفرةٍ عميقة. سيشدونَ جسدَك بحبالٍ ويُسرعُ كلُّ حصانٍ جائعٍ باتجاه. سيتمزقُ جسدُك. ستُعلّقُ بالمقلوبِ حتى يخرجَ مخُّك من فمِك.

سقراط :  وهل يخيفُ ذلكَ رجلاً يقولُ وداعاً؟

الغريب :  أنظرْ إلى يدِكَ، تبدو ثابتةً الآن. لكنّها لا تعرفُ ما ينتظرُها. مِفْصَلٌ مخلوعٌ واحدٌ يكفي لتحويلِ هذا الثباتِ إلى ارتعاشٍ لا يهدأ. ثمّ هناك العَصَبُ، ذلك الخيطُ الرّفيعُ بين العقلِ والجنونِ، ضربةٌ صغيرةٌ عليه تُسقِطُ أقوى الرّجال. أما الجِلدُ، فهو أضعفُ مما تعتقدُ، قليلٌ من الحديدِ الحارِّ يتركُ أثراً يرافقُك إلى الأبد. أتظنُّ العظامَ صلبةً؟ انتظرْ حتى تسمعَ صوتَها وهي تتكسر. كلُّ هذا… ولم أبدأْ بعد.

سقراط :  أيها الغريبُ، هل تعرفُني؟

الغريب :  ومن لا يعرفُ الرّجلَ الذي ملأَ أثينا بفلسفتهِ السّخيفة!

سقراط :  هل مشيتَ معي في طريقٍ يوماً؟

الغريب :  لِمَ أُبَددْ وقتي في ذلك؟!

سقراط :  وهل سمعتَ من تلاميذي ما أناقشُهُ معهم؟

الغريب :  انهم يُرددونَ الهراءَ كالببغاء.

سقراط :  إذن لم تسمعْني، ولم تمشِ معي، ولا تعرفُني حقاً… صحيح؟

الغريب :  نعم، لا أعرفُك، ولا أريدُ أن أعرفَك!

سقراط :  ما دمتَ تجهلُني، فأنت أحقُّ الناسِ بقتلي.

الغريب :  ماذا؟

سقراط :  لا يقتلُني إلا العمى!

الغريب :  تستهزئُ بي أيها العجوز؟! (يقوم بالإمساكِ بسقراط، ويشدّ يديه بحبلٍ إلى عمود الزنزانة)

سقراط : (ينادي) أيها الحرّاس! أيها الحرّاس!

الغريب :  (يسدُّ فمه)أتعرفُ من أنت؟ لا شيء! مجردُ ظِلٍّ ثقيلٍ على هذا العالم. لا أحدَ يذكرُك. لا أحدَ يبالي بحضورِك. تُهاجمُ الآلهةَ التي تُبقي هذا الكونَ متماسكاً. تهدمُ الأعرافَ التي وُجدت قبل أن تُولد. أنت لست سوى داءٍ عضال. سنرميكَ للعَفَنِ بين هذه الجدران. تُصارعُ وحدتَكَ حتى تفترسَك، لعلّ الموت ينظّفُ العالمَ منك.

(يستلُّ الغريبُ خنجره ويطعنُ سقراط بقوةٍ عدة طعناتٍ متتاليةٍ، ثمَّ يهرب. يسود الصمت في الزنزانة وسقراط يموت واقفاً)

صدى صوت سقراط :تجهل؛ تقتل! تجهل؛ تقتل! تجهل؛ تقتل! تجهل؛ تقتل!

(انتهـــــت)

جواد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت