ذاكرة صفراء” عرض مسرحي خارج المسابقة يحفر عميقًا في الذاكرة والوجدان/ ياسر أسلم
أن تكون خارج المسابقة، ذلك لا يعني أن لا تكون منافسًا. بهذه العبارة يمكننا تلخيص تجربة عرض “ذاكرة صفراء” الذي قدّم نفسه خارج إطار المنافسة، ولكنه نافس في قلوب الجمهور وعقولهم.
على خشبة المسرح، وبين لعبة الضوء والظل، وقف الممثلون ينقلون لنا قصة مليئة بالتشابكات النفسية والرمزية العميقة. “ذاكرة صفراء”، عرض مسرحي قدمته فرقة “نورس المسرحية” السعودية، من تأليف عباس الحايك وإخراج حسن العلي، تناول قضية إنسانية عميقة تمس الأثر النفسي للحرب. من خلال شخصياته، استعرض العرض صراعات الإنسان مع ماضيه، حيث قدم رؤية تتأرجح بين الوهم والواقع بأسلوب رمزي وفلسفي جميل.
بداية قد نتساءل: “لماذا ذاكرة صفراء؟” الأصفر في سياق العرض أراه لونًا ذا دلالة رمزية، فهو لون التحذير والخيال والزيف، وفي الوقت نفسه، يحمل بعدًا يعكس هشاشة الذاكرة وغموضها. اللون الأصفر هنا يعبّر عن حالة الضبابية التي يعيشها البطل، بين حقيقة ماضيه وزيف ذكرياته، بين الحرب التي تركت آثارها الجسدية والنفسية وبين محاولاته لبناء حاضر جديد داخل حدود شقته.
في قلب العرض، كان أنسي، الرسام الثلاثيني الذي يعاني من تشوهات جسدية واضحة في وجهه، إلى جانب تشوهات أعمق وأكثر إيلامًا في داخله النفسي. شخصية أنسي ليست مجرد إنسان يواجه معاناة الماضي، بل هو مرآة تعكس الصراع البشري الأزلي بين الذات والذاكرة، بين الجروح التي تلتئم جسديًا لكنها تبقى مفتوحة في الروح، وبين محاولات الهروب من الماضي والوقوع المتكرر في شباكه.
أنسي هو رسام يعيش وحيدًا في شقة غارقة في الصمت، لكنها مليئة بصور امرأة واحدة، تتكرر بملامح متباينة، وكأنها محاولة يائسة لتجميل الوجع أو فهمه. تشوهات أنسي الجسدية جعلت منه غريبًا حتى عن نفسه، وكأنها جدار يفصله عن العالم الخارجي. هذه العزلة كانت ميدانًا لصراع داخلي يمزج بين الحنين والغضب، وبين الرغبة في البقاء والهروب.
إلى جانبه، كانت أمل، الشخصية التي ربما أربكت الحضور ودفعتهم للتساؤل: “هل هي الأم التي يبحث عنها أنسي في ذاكرته، والتي قضت نحبها بسبب لغم تركته الحرب؟ أم الحبيبة التي تمثل له الخلاص من عزلته؟ أم أنها تجسيد للأمل ذاته الذي يسعى لإنقاذه من أغلال الماضي؟ أم أنها مجرد انعكاس لذاكرة أنسي، ترافقه كظل يطارده دون أن تتضح هويتها بشكل كامل؟ هذه الطبقات الغامضة التي حملتها شخصية أمل أضافت عمقًا رمزيًا للعرض، وجعلتها المفتاح الذي يربط بين صراعات أنسي النفسية وبين التأويلات المفتوحة التي تُركت للجمهور ليكتشفها”.
أما عادل، بواب العمارة، فقد لعب دورًا محوريًا. كان أشبه بصوت العقل الخفي الذي ينبثق من أعماق أنسي، يتنقل بين الحاضر والخيال وكأنه تجسيد لصراعاته الداخلية. انسجامه وتناغمه مع أنسي كان لافتًا، حيث قدّم الممثلان مشاهد غنية بالمفارقات النفسية، متراوحة بين السخرية والجدية، وبين الحكمة البسيطة والتساؤلات العميقة. هذا التناغم أضفى على العلاقة بينهما بُعدًا إنسانيًا واضحًا، وكأن عادل يمثل جزءًا من أنسي نفسه، يحاوره، ينصحه، ويؤلمه أحيانًا.
وبالنسبة للأب، رغم أن حضوره كان أقل من الشخصيات الأخرى، إلا أن رمزيته كانت شديدة القوة. حضوره في البداية والنهاية داخل إطار البرواز الذي دخل منه وخرج منه مجددًا أعطى للشخصية بُعدًا بصريًا ودلاليًا عميقًا. الأب بدا وكأنه مرآة لصورة الأبوة الصارمة التي تسجن أنسي داخل وصاياها، فهو مصدر الصراع الجوهري للشخصية الرئيسية، ومفتاح فهم الكثير من العقد النفسية التي تعيشها. هذه الثنائية بين حضوره المادي ومغزاه الرمزي أضافت للعرض عمقًا فلسفيًا يُظهر تأثير الماضي على الحاضر، وكيف تتحول الذاكرة إلى سجن داخلي يعوق الانطلاق نحو الحياة.
هذا التوازن بين الشخصيات والانسيابية في تفاعلها جعل من العرض وحدة متكاملة، حيث كانت كل شخصية تمثل جزءًا من عقل أنسي وذاكرته، مما أضفى على العمل بعدًا نفسيًا وإنسانيًا عميقًا.
نجح المخرج حسن العلي في خلق توازن بين النص المكتوب وتجسيده على المسرح، مستعينًا بأداء مميز من فريق العمل المكوّن من كميل العلي في دور أنسي، وفاطمة الجشي في دور أمل، ومحمد علي في دور عادل، وعلي الجلواح في دور الأب. لا يمكن إغفال دور الإضاءة التي كانت بطلة العرض بحق، واستخدمت كعنصر درامي رئيسي، حيث أصبحت رمزًا لتحولات عقل أنسي بين الواقع والخيال، وقد نفذها الفنان مرتجى الحميدي ببراعة. التحولات السريعة في الإضاءة، وحركة الممثلين المدروسة، منحت العرض بعدًا بصريًا جميلًا، مما جعل الجمهور يشعر وكأنه يعيش داخل ذاكرة أنسي.
وكان الفنان محمد رؤوف مسؤولاً عن السينوغرافيا في العرض، وأود التوقف هنا للحديث عن الديكور الذي رغم بساطته، كان فاعلاً للغاية. اللوحات المعلقة، الإطارات، والأثاث البسيط أوصلت فكرة العزلة والانفصال عن العالم الخارجي. البرواز الذي دخل منه الأب وخرج منه مرة أخرى كان بمثابة تجسيد رمزي للحصار النفسي الذي يعيشه أنسي، مما عزز من طابع العرض الفلسفي.
لعبت الموسيقى التصويرية دورًا محوريًا في خلق الأجواء. الانتقالات الصوتية التي صاحبت التحولات في العرض كانت سلسة ودقيقة، مما ساعد على شد انتباه الجمهور اثناء العرض. استخدام المؤثرات الصوتية أعطى العرض طابعًا سمعيًا متناغمًا مع زخم النص وأدائه التمثيلي. والذي كان في تصميمه الفنان حسين الخاتم.
“ذاكرة صفراء” لم يكن مجرد عرض عابر، بل كان رحلة عميقة داخل عقل الإنسان وصراعاته النفسية مع الماضي والواقع. بدأ العرض بالتقاطة صورة عبر الكاميرا على خشبة المسرح، وكأنها مرآة لعقل أنسي وذاكرته، وانتهى بالتقاطة أخرى، وكأنها تعيد ترتيب تلك الصورة في عقل الجمهور لتصبح جزءًا من ذاكرتهم الصفراء. هذه الدائرة السردية العبثية قد تدفع الجمهور إلى مغادرة العرض محملًا بالتساؤلات والانفعالات: كيف نتعامل مع ذاكرتنا؟ وهل هي حقيقية أم مجرد ظلال زائفة لواقع نتجنبه؟