“البخارة” دخانها يحجب شمس مسقط/ ياسر أسلم

على خشبة المسرح، ينحسر الضوء ليكشف عن دخان كثيف يخنق كل شيء، بينما تتحرك أجساد الممثلين بثقل وتشنّج، وكأنها تختنق تحت وطأة المعاناة. فجأة، تصدح الصرخة الأولى: “ويني الشمس؟”. عبارة قصيرة لكنها تفتح الباب على مصراعيه لعالم مظلم مكتظ بالألم والقهر، حيث يصبح المسرح مرآة تعكس أزمة بيئية وإنسانية عميقة. العرض التونسي “البخارة”، الذي أخرجه صادق الطرابلسي وقدّمته فرقة تونسية باللهجة التونسية مع لمسات من اللغة الفرنسية، هو إنتاج من أوبرا تونس – قطب المسرح. نحن أمام لوحة احتجاجية صارخة، تُدين الظلم الاجتماعي والاستعمار البيئي، حاملةً قضية محلية أصداؤها تتردد عالميًا.

القصة تدور في مدينة تونسية تستحضر أجواء مدينة قابس، حيث يغطي دخان المصنع “البخارة” سماء المدينة ويختنق به سكانها. المصنع، الذي وُصف يومًا بأنه رمز للتقدم، تحول إلى أداة للموت البطيء، يجلب أمراضًا مثل السرطان وينهش أجساد ساكنيها. بين أحلام مفقودة كالأبوة والأمومة، وفقدان الأحبة تحت وطأة الدخان السام، يظهر يحيا ودلال كصوتي مجتمع يرزح تحت وطأة قهر اقتصادي وسياسي. القصة لا تعكس فقط مأساة قابس، بل هي مرآة عالمية تنقل صرخة كفاح من أجل البقاء

لكن “البخارة” ليست قصة مباشرة. بل هي سلسلة من الرموز التي تُروى من خلال سينوغرافيا بارعة. جدار المسرح المتحرك كان أداةً لتحويل الخشبة بين أماكن مختلفة: غرفة معيشة، شوارع مدينة، المصنع ذاته، وحتى سطح منزل حيث ينظر السكان إلى السماء بحثًا عن نجمة تضيء ظلامهم.

أداء الممثلين في البخارة كان أحد أبرز عناصر العرض، حيث تميزوا بحرفية عالية في التعبير الجسدي والحواري. ورغم استخدام اللهجة التونسية التي قد تكون غير مألوفة للبعض، إلا أن تعابيرهم الجسدية وحركاتهم الثقيلة المتشنجة عوضت عن حاجز اللغة، مما أتاح لنا فهم مشاعر الشخصيات ومعاناتها بعمق. على سبيل المثال، المشهد الذي ترفع فيه دلال رجلها كان مشهدًا رمزيًا يحمل في طياته ألمًا عميقًا وحلمًا ممزقًا. بحركة جريئة ومليئة بالمعاني، ترفع دلال رجلها وكأنها تقول لزوجها يحيا: “تعال وادخل.” هذه الحركة، التي يمكن تفسيرها على أنها دعوة رمزية لاحتضانه في أحشائها ليكبر ويولد كطفل جديد، تمثل شوقها للأمومة الذي تسلبه الظروف القاسية المحيطة بهما.

في هذا المشهد، لم تكن الكلمات وحدها كافية؛ بل كانت الحركة هي اللغة الرئيسية، حيث امتزجت الحميمية بالألم، والرغبة بالتحدي، والحلم بالمستحيل. هذه اللحظة أبرزت الصراع العميق بين الحلم والواقع، بين الحياة والموت، بين الرغبة في الإنجاب، وبين العقم والإجهاض الذي فرضه الدخان والمرض.

البساطة التي اعتمدها العرض في تصميم الديكور كانت إحدى نقاط قوته البارزة. جدار متحرك، مروحة سقف تدور بلا توقف تراقب استمرارية الحياة والاختناق، وكرسي أصفر يتحرك بين المشاهد بعجلات، متحولًا من قطعة أثاث منزلية إلى عرش للسلطة. هذه العناصر البسيطة لم تكن مجرد أدوات مسرحية، بل رموزًا حية تجسد القهر والاختناق الذي يعاني منه سكان المدينة.

الجدار، بحرفية المخرج، تحول إلى شاشة عرض ديناميكية من خلال تقنية المابنغ، ليصبح نافذة تطل على مشاهد البحر الصافي أو غابة جميلة، لكن دخان المصنع الكثيف كان يتخلل تلك المشاهد ليؤكد على التناقض بين جمال الطبيعة والدمار البيئي. هذا التوظيف الذكي جعل الجدار جزءًا من العرض، يتنفس مع الشخصيات ويتفاعل مع معاناتها

أما الكرسي الأصفر، بحركته المستمرة بين المشاهد، فقد أصبح رمزًا متغيرًا يعكس تبدل السلطة والمكان. تارة يظهر ككرسي الفرنسي، رمز السلطة الخارجية التي تراقب بلا مبالاة، وتارة كجزء من البيت، شاهدًا على الصراعات الداخلية للأسرة. هذه الحركة أضفت عليه رمزية عميقة، حيث جسّد التناقض بين الثبات الظاهري والحركة المستمرة، ليصبح قطعة تحمل في طياتها أوجاع المدينة ومصائر شخصياتها.

ظهر مشهد يحمل رمزية عندما جسّد الممثل السباحة داخل كيس بلاستيكي شفاف، مما عكس شعورًا بالاختناق والاغتراب. ربما كان هذا المشهد إشارة إلى أن حتى الأماكن التي يُفترض أن تكون مفعمة بالحياة، مثل البحر، باتت مقيدة ومصدرًا للمعاناة بفعل الدخان والبيئة السامة. وفي لحظة أخرى ذات دلالة، قام يحيا بكسر كأسه البلاستيكي أمام شخصية الفرنسي. هذا الفعل بدا كأنه رفض فردي صريح لنظام قمعي، وربما رمزًا لتحطيم القيود الاقتصادية والسياسية التي تثقل كاهل المجتمع. هذه المشاهد، برمزيتها المتنوعة، تدفع الجمهور للتساؤل: هل التحطيم يشير فقط إلى الرفض البيئي، أم أنه دعوة للتحرر الكامل من كل أشكال القهر؟

الإضاءة كانت البطل الخفي في هذا العرض، تنقلت بمهارة بين دفء الضوء في الغرف العائلية وظلمة المصنع الخانقة، وصولًا إلى الإضاءة الخافتة على سطح المنزل، مما أضفى بعدًا شعوريًا ومكانيًا متغيرًا. أما الموسيقى، فكانت بعيدة عن التقليدية، إذ حملت أجواءً من الصخب وأصواتًا غريبة، وكأنهم أرادوا أن يعيشونا ذلك الإحساس بالفوضى والاختناق، ليصبح المشاهد وكأنه جزء من هذه المعاناة التي تطارد الشخصيات على الخشبة

رغم أن النص ينبع من معاناة مدينة قابس، إلا أن عرضه تجاوز الحدود المحلية ليطرح قضية عالمية. ‘البخارة’ تسلط الضوء على الاستعمار البيئي الذي لا يزال يفتك بمجتمعات الجنوب العالمي، حيث تسيطر الشركات الكبرى على الموارد الطبيعية بلا اكتراث لحياة السكان أو البيئة. في لحظة فارقة، يدرك الجمهور أن ‘البخارة’ ليست مجرد دخان يغطي سماء قابس، بل استعارة لكل نظام يستنزف الإنسان والبيئة لصالح الربح، ليصبح العرض صرخة عالمية ضد الظلم.

اختيار اللهجة التونسية كان قرارًا جريئًا يعكس التزام المخرج بالتعبير عن قضيته بصدق بلغته الأم، مما منح العرض واقعية وحميمية لا تُضاهى. أما اللغة الفرنسية، فمثلت الصوت الاستعماري الغريب عن واقع الشخصيات، لتكون أداة رمزية تعكس الهيمنة والتباين الثقافي. ورغم اعتراض البعض على عدم استخدام اللغة العربية الفصحى، إلا أن اللهجة التونسية نقلت النص بعمق وصدق، لأن المسرح ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو شعور وصورة وصمت يصرخ في وجه الظلم. والصرخة هي نفسها في كل اللغات

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت