بلاغة التشكيل الفضائي في العرض المسرحي “هم” / بقلم رشيد بلفقيه
يُنتج المخرجُ المسرحيُ ذو الرؤية الفنية الشعرية، عملا فنيا متأثرا -بقصد أو بدونه-بذاته الشاعرة المشبعة بأساليب بناء القصيدة، وآلياتها الإبلاغية، بوصفه بناء خاصّا ينضبط لقوانين محدّدة تُستمد من اللغة أولا، وتبنى من البلاغة ثانيا، ثم تُجمّل من علومها ثالثا.
لعل أبرز دليل على ما قيل هو ما برز في التشكيل الفضائي للعرض المسرحي “هم” للمخرجة -الشاعرة- أسماء هوري، الّذي قُدّم بمسقط ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته الخامسة عشرة، والّذي أثار جملة من النقاشات قبل عرضه وأثناء عرضه، وبعدهما، نقاشات استحضرت الترابط بين الدرامي والشعري والشاعري في بناء العمل الفني وفي كتابته وتلقيه، وفتحت مسارب، ومسالك، وطرقا لتلقيه، مسايرة كثافته وامتلائه بالرموز والدلالات.
من المكونات التي تجذب الانتباه في العرض المسرحي، الذي تابعته عن بعد بفضل هذه الإمكانية التي تتيحها الهيئة العربية للمسرح مشكورة، مكون الفضاء السينوغرافي الذي تميز بانضباط كبير لمبدأ الموازنة كما تم تداولها في النقد البلاغي للنصوص الشعرية والتي حددها ابن رشيق القيرواني، في كتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، بوصفها “مطابقة الكلام بعضه لبعض في الوزن والقافية وتناسب الألفاظ والمعاني”، وعرفها حازم القرطاجني في منهاج البلغاء وسراج الأدباء، بوصفها “تساوي الطرفين في البيت والكلام في المعنى أو المبنى، ليحصل التناسق والإيقاع الجميل”.
هذه الموازنة اللغوية البديعية تجد معادلها البصري في مفهوم التماثل المحوري، بوصفه أسلوبا بصريا يستخدم بدوره لتحقيق التوازن نفسه والانسجام عينه في تكوين الصورة أو بناء الفضاء، بتوزيع العناصر على جانبي محور وهمي أو حقيقي بشكل متماثل، يعتمد على خلق التناظر بين العناصر البصرية (شخصيات، ديكور … إلخ) محور عمودي أو أفقي.
وفقا لهذين المبدأين أنشأ الفضاء السينوغرافي عالما دقيقا لتحرّك الشخصيات وتفاعلها. عالم قائم على الموازنة بين عناصره ومكوناته بمقصدية بلاغية إبلاغية، حقّق التوازن فيها مبدأ المساواة أمام أقدار الحياة وإكراهاتها، من حلال توظيف أربع شخصيات متماثلة، جسّدها رجلان وامرأتان، عبّرت مجتمعة عن الوقوف على المسافة نفسها من الجنسين، وعلى أن الرجل والمرأة متساويان في مواجهة متاهات الحياة، وما سيعانونه في البناء الدرامي للعرض المسرحي من محيطهم الذي صعّب عليهم التعبير بحرية.
يتموقع الباب الذي ولجت الشّخصيات الأربع منه إلى الخشبة في مركز عمق الخشبة، وينضبط بدوره لمبدأ التماثل والموازنة، بوصفه هيكلا متماثلا ارتكزت هندسته على العدد ثمانية (المقسم إلى أربعة مستطيلات مقابل أربعة)، يُتّخذ هذا الباب مركزا لموازنة للخشبة أو محورا لتماثلها المحوري ، فهو الذي يشطرها إلى قسمين متماثلين ومتساويين، يزكيه التوزيع الدقيق للكراسي الأربعة الذي يعزز من تعميق الإحساس بالتوازن بصريا، لأنها وضعت منذ بداية العرض وفق توزيع دقيق لا يتم العبث به إلا لغرض وظيفي محدد، يعززهما تحرك الشخصيات التي ظلت طيلة العرض تتحرك وفقا لانضباط واضح لمبدأ الموازنة، فكانت تتخذ من وسط الخشبة نقطة لاجتماعها كلما اتفقت على رأي، أو تواطأت على قرار محدّد، وكانت تتوزع إلى فريقين من شخصيتين يقفان على طرفي الخشبة (أثنان مقابل اثنين) كلما اشتد الصراع بينهم وتوزعا إلى فريقين متكافئين، كما كانت الشخصيات نفسها تتوزع بشكل غير متوازن على طرفي الخشبة (ثلاثة مقابل واحد) إذا رغبت في خلق إحساس لدى المتلقي بعزل شخصية معينة ووضعها في مواجهة بقية الشخصيات، أو في مواجهة مصيرها، أو مواجهة الجمهور، وأخيرا كانت الشخصيات كلها تقف على طرف الخشبة لتعبر عن اختلال وجودها في عالم منحط وموبوء، وعن عجزها عن التعبير عما يعتمل في دواخلها سواء باللغة المنطوقة أم بالإشارات، مؤكدة انقطاع أي تواصل مع محيطها ومع ذاتها.
خلق تحقق التوازن في بعض لحظات العرض المسرحي ايحاء بصريا بالتساكن والتناغم في عالم الشخصيات، وفي علاقتها ببعضها البعض، وعلى النقيض من ذلك خلق غيابه إحساسا بالتوتر بينها وبين عالمها، وبينها وبين المتلقي، ظل هذا التوازن ضابطا أساسيا لتطور الحبكة الدرامية إلى نهاية العرض. وقد قابل التماثل البصري المتحقق على الركح، تماثل نفسي محسوس ساهم في بناء الشّخصيات بناء تأسّس على الموازنة بين فراغ الفضاء الذي تتحرك فيه، وبين فراغها الداخلي من كل كلام أو معنى، ذلك الخواء العسير الذي يطبق عليها، والذي تعبر عنه مجتمعة بأنها لا تعرف شيئا، وأنها تعيش الحالة النفسية العسيرة نفسها.
لا يقتصر توزيع مكونات الفضاء السينوغرافي في العرض المسرحي “هم”، على تشكيله بوصفه فضاء صالحا لتحرك الشخصيات بحرية في أرجائه، ولا يكتفي بدور المكمل الضروري لبناء العرض، بل يغدو شخصية خامسة مؤثرة، تضاف إلى شخصياته الأربعة، بوصفه إجراء تحكمه مقصدية دقيقة تؤثر على تفاصيل العرض المسرحي، وتحقق وظائف بلاغية سبقت الإشارة إلى بعضها في سياق هذا المقال المقتضب جدا، وظائف تُبرز تأثر بناء خطاب العرض باللغة الشعرية التي احتلت مكانة بارزة في نقاشات الجلسة التقديمية لفريق العمل، والتي أسست بشكل غير مقصود غالبا، لتلقي العرض المسرحي تلقيا يستحضر أساليب بناء الشعر وطقوس كتابته، ليجعل من مناقشة عرض “هم” فرصة مفتوحة لاستحضار الارتباط الوثيق بين لغة الشعر، وشعرية لغة المسرح.