مونودراما “راسي يا راسي” بين جمالية الأداء ومحاورة الواقع/ د. محمد محبوب

يصر محمد المنور شيخ المسرحيين بمنطقة الغرب، كما يحلو للبعض أن يسميه، على الحضور والعطاء والتألق مسنودا برصيده الفني، وتاريخه الابداعي، ومنجزه الركحي، رجل متعدد العطاءات والمواهب: مؤلف درامي، وممثل. ومخرج مسرحي …وقد أختار هذا الفنان المونودراما صيغة فنية واداة تعبيرية تأكيدا على ثقته بنفسه، واقرارا ضمنيا بجدارته وكفاءته في تسيد الركح وصناعة الفرجة وحيدا مستندا الى سلطة الكلمة وتطويع الجسد وتوظيف الحركة، وإطلاق العنان للانفعالات… وغير ذلك من أدوات التعبير التي تمنح إمكانية تفجير الفضاء المسرحي ليتحول إلى فضاء فرجوي دينامي مبهر يتشكل من منظومة متكاملة من العلامات والبنى الرمزية التي تندرج في سياق العالم التخييلي والتمسرحي.
إن القالب المنودرامي يتسم بصعوبة اقتحامه اعتبارا لجسامة مهمة ملء الخشبة، وصناعة الفرجة في غياب المؤازرة والتعضيد من قبل ممثلين آخرين. فالتحدي صعب، والرهان يقتضي كفايات وقدرات استثنائية لملء الركح، والتحكم في إيقاع الفرجة، وجذب اهتمام المتلقي. بيد أن الممثل المقتدر محمد المنور يستوحي تجربة الراوي الشعبي. فهذا الأخير ينهض بأعباء التمسرح دون أن يستند إلى رؤية مخرج، أو فكرة كاتب درامي. انه العبقري الذي يحول الفضاء العادي، فضاء الساحة العمومية إلى فضاء فرجوي وتمسرحي، وهو يستند في ذلك إلى رصيد موهبته، وخزان ذاكرته، ومعرفته العميقة بآليات الفرجة وادوات إنتاجها، وقدرته على الاختراق والغوص في اليومي، والاسترفاد من معين التراث، والذاكرة الشعبية. إنه دائم البحث في قاموس الحياة اليومية عن التعابير والحركات والمفردات الشعبية لإعادة بنائها في صيغة مؤسلبة. لغة إشارية يحرص الحلايقي على ألا تتحول إلى لغة مسكوكة بعيدة عن روح الإبداع. فهو يضفي عليها من روحه وطاقته ما يجعلها لغة حية تدلف إلى الطبقات العميقة من النفس، تخاطب وجدان الجمهور، وتستحوذ على اهتماماته، وتلبي رغباته في المتعة والفرجة.
على شاكلة الممثل الشعبي يؤسس محمد المنور مشروعه الفني، ممثلا موهوبا خبر فعل التمثيل، وصقل هذه الموهبة بالدربة والمراس، وشحذ الذاكرة بالغوص في اليومي، والبحث في التراث والثقافة الشعبية. هذا فضلا عن تكوينه في مدرسة الهواة الثرية بمرجعياتها ومنجزها الدرامي، ونزوعها إلى التجديد والتحديث. بيد أن محمد المنور يتوفر، فضلا عن ذلك، على مؤهلات ذاتية لا تتأتى بالدربة والمراس وحده. بل هي سمات من صميم شخصيته منها: خفة الروح، وبراعة الارتجال، وسرعة البديهة، والنزوع إلى توظيف لغة تفيض بالسخرية والتهكم والفكاهة، وذلك من خلال تفجير اللغة لتتحول من دلالاتها وطبيعتها التواصلية والاخبارية إلى لغة كوميدية متدفقة مشحونة بالفكاهة والسخرية.
وعليه فإن الكوميديا في مسرحية “راسي يا راسي” تسخر من واقع المجتمع وترسم صورة سوداوية لهذا الواقع، المليء بالاختلالات والنواقص. فهو، كما نجد في المسرحية، يتسم بسطوة الفوارق الاجتماعية، واستفحال الفساد، وتراجع القيم والأخلاق. كما أنه يشهد تنامي ظاهرة الغلاء، وتغول السماسرة الذين يلهبون جيوب المواطنين بالمضاربات والاحتكار …وغير ذلك من أشكال الممارسات والسياسات التي تنعكس على المواطنين وخاصة الفقراء والمسحوقين من أبناء الشعب. ولا تكتف المسرحية برصد مظاهر الهشاشة والفقر والحرمان. بل إنها تسخر من البدائل المقترحة وخاصة ما يتعلق بتكريس الدولة الاجتماعية، واعتماد سياسة الدعم المباشر، الذي تعتبره المسرحية هزيلا غايته الالتفاف على طموحات ورغبات المواطنين في التنمية الشاملة. كما تسخر من مفهوم المؤشر: باعتباره معيارا للدعم. وتصدح المسرحية بالرفض لهذا المعيار المهين
المؤشر ديالنا نازل، وديالهم طالع.
إن الكوميديا في المسرحية ليست وسيلة لإثارة الضحك والتسلية المجانية، بل هي أداة فنية ذات حمولة نقدية واجتماعية. وقد وظفت المسرحية الكوميديا آلية لمناقشة ومحاورة الواقع الاجتماعي. وخلصت إلى إدانة واقع يحبل بالفساد والظلم والحرمان..
وعليه، فإن البعد الدرامي يتحدد في المسرحية في هذا الصراع الذي تعيشه الشخصية التي تجسد شريحة واسعة من المجتمع بين إرادة التغيير من جهة، والإحساس بالعجز من جهة ثانية، بين شجاعة الفضح وانتكاسة الخوف بين الحلم بوطن الكرامة والعزة، وواقع يكرس الظلم والقهر والإذلال.. وعبر هذه الثنائيات يتناسل الاحباط والعجز وانعدام القدرة على التجاوز. غير ان الشخصية في هذا المقام تعيش تحت رحمة مفارقات تزيد من معاناتها تجسدها ثنائيات الواقع والخيال، الانطلاق والتحرر، والكبح والفرملة، المغرب المنشود، والمغرب المعطوب المشدود إلى الماضي، المتراجع إلى الوراء، مغرب المنتفعين والانتهازيين والسماسرة.
ان هذه الثنائيات الصراعية خلقت دينامية الفعل الدرامي وأخرجت المسرحية من الرتابة التي تهدد الممارسة المسرحية في طابعها المنودرامي. غير أن انتشال المسرحية من هيمنة المنولوجية والخطابية المباشرة يتم في المسرحية من خلال تعدد الأصوات. فالممثل/ الفرد فوق الركح كان يعمد إلى تخيل شخصيات أخرى، ويحاورها داخل العرض، وذلك تجنبا لهيمنة الصوت الواحد والشخصية الأحادية. مما يودي إلى الرتابة وغياب الصراع..
وقد نجح الممثل محمد المنور في تجنب مأزق المنولوجية والخطابة المباشرة، حيت كان يجتهد في خلق وتقمص أدوار شخوص متخيلة. وإذا كانت المسرحية قد اختارت محاورة الواقع الاجتماعي بجرأة كاشفة معضلاته وأعطابه، فإن قيمتها الفنية تكمن في الحضور المتألق للممثل المقتدر محمد المنور الذي تمكن بحرفية عالية ان يتسيد الركح، وان يظهر قدرات وكفايات تشخيصية عالية مكنته من سميأة الفضاء، وخلق جاذبية العرض، والتأثير القوي على المتلقين من خلال التوظيف المزدوج لسلطة الكلمة من جهة، ولغة الإشارة والحركة من جهة ثانية. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى خصوصية الإخراج وطبيعته. فاللعبة الإخراجية حرصت على التخلص من طابع الاخراج الواقعي ومواصفاته القائم على الزخرفة الخارجية، وثباتية الديكور، ونمطيته وضخامته. وانخرطت في صياغة دينامية ركحية استمدت مقوماتها من لغة الجسد وتحركات الممثل فوق الخشبة. مما أضفى مسحة شاعرية على الركح، وحوله إلى فضاء ينبذ السكونية، ويؤسس وجوده على إيقاع حركي، ورؤية إخراجية وظيفية للعناصر الركح ومؤثثاته.
أن الفضاء الركحي بهذا المعنى لم يكن حصيلة توظيف أحادي لعناصر ومكونات الخشبة من ديكور وأدوات ركحية وغيرها. بل إنه تأسس بفضل كفايات الممثل وقدراته وحركاته وتموضعاته على الركح، وحضوره الجسدي المتألق الذي استطاع من خلاله أن يصنع فضاء ممتدا يتجاوز حدود الفضاء المرئي ليشمل الفضاء المتخيل، وبذلك فتح الفرجة على الفضاء الاجتماعي بشساعته وامتداده داخل مخيلة الجمهور واستهاماته وانتظاراته.
وبذلك، فإن المسرحية استطاعت أن تطابق بين” المسرح كفضاء للواقعية بتعبير هيجل، والفضاء الركحي باعتباره امتدادا للأنا بنزوعاتها وانتظاراتها، وهوما يصطلح عليه في اللغة المسرحية بالفضاء الداخلي.
ومجمل القول أن الإخراج علامة مضيئة في المسرحية لارتكازه على رؤية تركيبية قائمة على تجانس وتناغم بين مكونات الإنجاز الركحي من موسيقى، وحركة، وإنارة، وأدوات ركحية وتأثيثات فضائية سينوعرافية أضفت على الركح أبعاده الرمزية ومقوماته الجمالية، التي تفصح عن إبداعية الإخراج، وقدرته على تمرير الإشارات الدالة، وخلق المتعة والفائدة الناتجة عن تشفير الفضاء وتسنينه، وربطه بالوضع النفسي للشخصية. هذا فضلا عن إحالته على الواقع الاجتماعي بأعطابه واختلالاته.

 

هوامش:
مسرحية راسي يا راسي من تأليف وإخراج وتمثيل الفنان المسرحي محمد المنور
العرض الأول بالمركز الثقافي بمشرع بلقصيري يوم الجمعة 27.دجنبر.2024 بمناسبة تكريم الفاعل الجمعوي عبدالعزيز الربعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت