نص مسرحية: “الراقصة” / جبار القريشي
(عندما ينام الحراس.. فلا عجب أن نتملق اللصوص.!).
شخصيات المسرحية:
1 ـ عفيفة.
2 ـ أمين.
3 ـ عبدالشكور.
4 ـ شخص.
(الخطاب المسرحي)
(المسرح بتأثيثه المكاني عبارة عن ردهة مشفى، سرير طبي بعجلات، أجهزة صعق كهربائي، شخص بوجه غليظ يتولى تشغيل الأجهزة، إمرأة متوسطة العمر بملامح جميلة، وملابس مرضى بلون السماء، حُشرَ رأسها بأشبه ما يكون بقلنسوة مربوطة بتوصيلات الى الأجهزة، ربطت يديها ورجليها بحكام).
تهتز المرأة بكامل جسدها المسجى على السرير وهي تصرخ بفعل الصعق الكهربائي. تنتهي جولة الصعق، يطفئ الشخص الأجهزة، وينزع عن رأسها التوصيلات، ويحرر يديها وقدميها، ويغادر المكان.
تنتبه المرأة (عفيفة) بعد لحظات من الأنين، تجلس على حافة السرير بوجه محتقن، وشعر منفوش، وعينان محاطتان بهالتين سوداوين، تنظر الى ما حولها بتذمر.).
عفيفة: من هذا الجلاد المتوحش الذي كان يطرق رأسي بسادية مقيتة!؟، يا الهي.!. كم أبغضه.
(عفيفة تشعر وكأن ذاكرتها قد تبخرَّت، تحاول أن تتذكر ما كان مخبئاً في دهاليزها، تنظر إلى ما حولها وكأنها تحاول أن تتعرف على الأشياء، تجد رزمة ورق لعب على سطح دولاب صغير موضوع قرب سريرها، تأخذها، وتبدأ بتصفحها، تبعثرها الى اتجاهات مختلفة، ثم تقوم بجمعها وهي تجري بين ورقة وأخرى لتندمج مع رقصة جنونية تؤديها باحترافية عالية، كأنها رقصة الموت، تتصاعد في طقوس الرقص مع تصاعد الإيقاع والموسيقى والأضواء، كمن يجلد ذاته، وتدور حول جسدها حتى تصل الذروة، فجأة تتوقف عن الرقص وتنفجر ساخطة).
عفيفة: يا للمأساة..!، لِمَ تركتني؟ كان الأجدر بك أن تأخذني معك، لا أن تدعني كأي سنجاب فتي بين قطيع من الكلاب البرية النهمة.
(تتصفح ورق اللعب بيدين مرتجفتي)
عفيفة: أكلوني لحما وألقوني عظما. تباً لهم، لقد تنكروا لطيبتي، وفي لحظة نسوا كل شيء، كانوا يتساقطون عند قدميَّ تساقط الفراشات على ذبالة الضوء. كانت مساءاتي عامرة بالإمتاع، وليلي حافل بالرقص والموسيقى والغناء.
(تهز أردافها بمهارة على إيقاع متقن).
عفيفة: وكيف كانت تتعانق كؤوس النشوة المعطرة برحيق شفاهي المتوهجة على الدوام بنور البسمات الندية فرحا وانتشاءً على راحات أكف السامرين، وتتراقص أضواء الليل الصاخب على صفحات المرايا والوجوه الطافحة بالبِشر وهي تعكس مشاعر الفرح المتدفق من أعماق النفوس المتوقدة شغفاً وغيرة.
(تحاول تنظيم أوراق اللعب التي مازالت في يديها)
عفيفة: وكم من المرات اشتعل ميدان الرهان بين المتضاربين، كلٌ يُمنّي نفسه بأن يكسب الجولة، ليحظى بشرف مجالستي ولو لثوانِ على طاولة الخلوة، ليلوكَ اللحظات مُثرثراً بلسان منقوع بالعسل والمَلَقْ وهو يتغزل بجمالي ورشاقة قوامي، ونحول خصري، وخُضرة عينيَّ، ينثر على مسامعي قصائد الغزل الدفيء وهو يشكو فيها نار الشوق والغرام المتأججة في مراجل أعماقه.
(تتأمل عضدها وهي تجر جلدها المتهدل برفق.. متحسرة)
عفيفة: وما أن تغضنت نضارة أوراقي، وذوت حيوية أغصاني، وخبا بريق أزهاري حتى غادرني أقرب الطيور إلفة.. يا للمأساة.!
(تنفجر باكية بمرارة)
عفيفة: تبا لهم.. ولحياة لم يعد فيها أي طعم ولا معنى.
(تفتش بانفعال شديد ويدين مرتعشتين عن شيء ما في طيات ثوبها، تُخرج قداحة غريبة كأنها تعود لأزمنة بعيدة تقدح بها أذيال ثوبها، تحاول مراراً، لكنها لا تتقد، تلُقيها بقرف)
عفيفة: تباً للموت الذي صار عصياً متمنعاً حين طلبته، وقد كان شبحاً يطاردني كظلي (تنظر الى أحد اوراق اللعب، تتأملها ملياً) سنوات وأنا أَعِد الأيام والليالي أملاً في أن تعود، كم من الأعوام عليٌ أن أنتظر؟ ومن أجلك سئمت الحياة، ولم يعد لي أملاً فيها.
(تستمر بتصفح أوراق اللعب، تتأملها واحدة تلو الأخرى، بمرارة تقول، كأنها ترثي نفسها.)
عفيفة: ما فائدة شجرة يبست أغصانها؟، وتساقطت أوراقها، ونخرَ العِثُ لبّها، وباتت حطباً تنتظر من يوقدها ليتدفأ بسنى جمرها.
(تدور مضطربة، تلتقط القداحة الملقاة جانباً، تتأملها مقطبة، كأنها تستعيد معها ذكريات محفورة في أعماق ذاكرتها التي باتت صدأة، ترى فيها «أمين» وهو يدخل بهيئة شيخ كبير من إحدى زوايا المسرح يتصاعد لهاثه وهو يمشي نحوها يحمل كيساً فيه قناني شراب ظاهرة أعناقها من الكيس، تهتف بوجع.. معاتبة).
عفيفة: ويح نفسي..!، حتى أنتَ يا أمين.!.
(أمين بتمسكن..)
أمين: إنها الظروف يا عفيفة، الظروف، وها أنا قد أتيت.
عفيفة: الآن.. وقد هجرتني كل تلك السنين.!؟.
أمين: غصباً عني يا عفيفة، لكنني عُدت.
عفيفة: وهل تنفع زخة مطر عابرة في أن تحيي حطام نبتة ميتة منذُ أمد.. يا أمين.!؟.
أمين: مازال عودكِ طرياً أخضراً يا عفيفة، ولديَّ من المطر ما يُحيي الموتى في القبور.
(تنظر اليه باستخفاف، وكأنها شعرت بالإهانة، فعجلته بالرد القاسي.)
عفيفة: من هوان الدنيا أن تتصدق عليَّ بكلماتٍ بائسة تحاول أن تغسل بها ثياب خاطري الغاطس في وحل الإحباط واليأس. ربما نسيت أنك كنت بالأمس تستجدي مني ابتسامة مجاملة تمسح بها تراب انكساراتك المتلاحقة يا أمين.. يا لهواني.!
أمين: لا يليقُ بكِ الهوان غاليتي، فلمثلك تنحني القامات بكل جبروتها، وهل تعلو العين على الحاجب.. يا عفيفة.
عفيفة: وهل هناك من هوان أكثر مما أنا فيه الآن.
أمين: قسماً.. سأعوّضك عما فاتكِ من قاطرة السنين، وسأجعل بوار أيامكِ مروجاً خُضُر.
عفيفة: قاطرة السنين تهالكت حطاماً يا أمين على سكة الأمل المذبوح بمديات الواقع المؤلم منذ أن تعهد الليل الخلود، فلا أمل لشمسِ النهار في أن تُشرق يوما لتنير ظلمات النفوس الغارقة في دوامات الاكتئاب والعتمة. كُفَّ عن هذه النغمة البائسة يا أمين، وعد من حيث أتيت.
أمين: امنحيني فرصة يا عفيفة، وسأُسرج ظُلمات روحكِ بالقناديل، وأملأ فضاءاتها بالأمل والبهجة.
(تهز يدها.. هازئة.)
عفيفة: لم تعد تلك الوعود البائسة المحملة بسراب الأكاذيب تداعب شغاف إحساسي الآيل للسقوط، كفاك جعجعة فارغة، من أين لك كل تلك الطاقات.؟ وعروقك يابسة، وسيفك مكسور، فما صولاتك إلا زوبعات في فنجان فارغ يسوقها خيالك المرتهن بمغامرات الماضي أيام كنت شاباً.. يا أمين.
أمين: حين تطيب النفوس، وتهب نسمات الوئام بيننا من جديد، سيعود سيفي شاهراً نصله وهو يصول ويجول في ميادين الغزوات لامحالة يا عفيفة. عند ذاك.. سأشقُ سواقي الأمل، وألقي بذار الحب في خاصرة الأرض التواقة للحياة فأحيلها الى مروج خضر.
(تضحك، ساخرة)
عفيفة: أي زرع..وأي بذار.!؟ فلقد ذهب الجميل، ولم يبقَ الا ما هو قبيح، ومنجل الأيام أراه جاداً في حصاد الرؤوس اليانعة، وقد آن أواننا، فلم المكابرة يا رجل.!؟. كفانا نكذب على أنفسنا يا أمين..!.
(أمين.. مستاءً)
أمين: أرجوكِ.. لا تبالغي في تقريعي، والإيغال في جرح مشاعري والاستخفاف بي.. يا عفيفة، فلم أعتد الكذب، وأنتِ أكثر من يعرّف عني ذلك.
عفيفة: كل ما في هيئتك يصدح بالكذب يا أمين، أتضحك على نفسك؟.
أمين: هكذا يا عفيفة!؟.
عفيفة: يبدو أن قاطرة الأيام قد ألقتك حُطاما من نافذة الإهمال كأي ثوبٕ بالِ، فجئت لترمم بقايا أيامك الهزيلة، وتغزل بلسانك الثرثار خيوط الأكاذيب الفارغة تلك التي اعتدناها منك أيام الزهو، ظناً منك أنها مازالت رائجة.
أمين: كفاكِ تقريعاً يا عفيفة، لماذا كل هذه القسوة وأنت تُلقينَ على رأسي أنواع البذاءات.!؟.
عفيفة: لم أتجنى عليك يا أمين، وما ألبستك إلا ثوبك.
أمين: ما رميتني به أرى أن فيه ظلما كبيرا.
(هازئة متهكمة)
عفيفة: عن أي ظلم تتحدث.!؟. وما لذي جاء بك الآن بعد كل تلك السنين التي تخفّيت بها كأي فقمة طاب لها السبات تحت جبال الجليد.
أمين: قلت لك إنها الظروف يا عفيفة، صدقيني، وهي من حالت دون مجيئي.
عفيفة: وما الذي تغيَّر في الظروف، لتأتي بعد فوات الأوان!؟.
أمين: إنه الحنين الذي اجتاحني اليكِ كالطوفان يا عفيفة، ولم تهِن عليَّ العِشرَة.
عفيفة: لكنها هانت على الجميع ممن شربوا رحيق عمري، وألقوني كأي علبة عصير فارغة على قارعة الطريق.
أمين: لكن الأمر مختلفٌ معي تماما.
عفيفة: كلكم معشر الرجال من طينةٕ واحدة.
(يهتف وهو يضرب على صدره. )
أمين: إلا أنا..
عفيفة: وبماذا تختلف أنتَ عنهم..!؟.
أمين: لم يخطر في بالي يوما أن أتخلى عنكِ يا عفيفة، لولا الظروف القاهرة التي أجبرتني.
(تنتفض.. وكأن شيئاً ما وخزها.. تتحدث بصوت موجوع.)
عفيفة: لكنك تخليت، لا تحاول أن تجمِّل صورتك يا أمين، كلكم تخلى.
وقد تناسيتم بل تنكرتم في لحظة.. كم سقيتكم من رحيق مشاعري، وأغدقتُ عليكم المال الذي كنت أجنيه بالتعب والسهر والعرق.
وكنتم جميعا ذئاباً مسعورة، يسيل لعابكم طمعاً في افتراس جسدي الطري وتمزيقه بلا رحمة على فراش غزواتكم الماجنة، لكنني أقفلت عليكم الأبواب والنوافذ، وكبحت لهاث نزواتكم، وخيَّبت أحلامكم المريضة، رغم أني كنت أعيش وسط بيئة هابطة، لكنني عاهدت نفسي أن لا أكون كأي سلعةٕ رخيصة، وكانت تلك وصية أمي لي رحمها الله.
أتنكر ذلك يا أمين..!؟.
(يكتف يديه أمام صدره)
أمين: بل أشهدُ على طهارتكِ، وأُقسمُ على ذلك بأغلظ الأيمان.
عفيفة: ما الفائدة؟ عندما هبَّت رياح أخرى، سرعان ما نزعتم جلودكم، ولبستُم جلوداً أخرى، وظهرتم بمظهر الملائكة، وبعضكم قصَرَ ثوبه، ومهر جبهته بسيماء مزيّفة، وراح يجلدني بلسان العبد الزاهد الواعظ الذي استحال سوطاً لاهباً لا يرحم.
نسي أنه كان قد هجر أهله ودينه واتخذني قبلة له.
لا بل نسي أو تناسى أنه كان يؤدي نوافله وبعض من فروضه على ذيال مؤخرتي.
كلكم تخليتم.. لا تحاول أن تتقمص دور الحمل الوديع.. يا أمين.
(متسائلاً باستغراب)
أمين: أنا يا عفيفة..!؟.
عفيفة: نعم.. أنت يا أمين، ألستَ واحداً من تلك الشلّة التي كانوا يتفاخرون بخدمتي، والتودد إليَّ.؟.
(أمين، بانكسار)
أمين: سامحكِ الله، وهل منا من ينكر ذلك يا عفيفة.
(يحاول أمين متودداً استعطافها، ومسك يدها، تسحبها بقوة، وتصرخ ناهرة..)
عفيفة: لا تلمسني يا هذا، ولا تتوهم أنك تستطيع أن تلحس عقلي بترهاتك الفارغة التي تفوح منها رائحة الكذب، ذاك زمنٌ مضى حين كنت أصدّق فيه كلامك المعسول.
(عفيفة بين فترة وأخرى تجلس متقرفصة وتشد رأسها بقوة بكلتي يديها)
عفيفة: يا الهي ..أي هوس هذا الذي يطرق على رأسي بمطارق الضجيج، يكاد رأسي ينفجر تحت دوّي الطَرق المتوالِ.
كنت أظن أنك جئت لي بالأخبار منه يا أمين، ليته كان هنا ليربط رأسي.
أمين: أما زلتِ تعيشين على ذكراه يا عفيفة؟.
لقد ابتلعه البحر وصار طعما لأسماك القرش. الى متى وأنت تنتظرين.!؟.
عفيفة: سيعود يوماً يا أمين، ليس من أجلِ أحد، بل من أجلي أنا.
أمين: إنكِ تحلمين يا عفيفة، ما زلتِ تعيشين في سراب الخيال.
الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تعيها هو أنا، أنا الذي لابد أن تفكري به جديّا، لأنني أنا الحقيقة، وما عداي محض سراب.
( تشد على رأسها بقوة، تسحب ورقة لعب، تتأملها، ثم تمزقها بقرف وتلقي نثارها في الهواء، تغلق عينيها لبعض الوقت.. تفتحهما.. لا تجد أثراً لأمين. تنظر بدهشة.. تجري في المكان، تفتشه، لاشيء. ).
عفيفة: كان هنا قبل قليل، أظن ذلك.
إن لم يكن هو فمن يكن إذاً.. يا ترى.!؟.
(تضحك بهستريا..)
ليذهب الى الجحيم، ليذهبوا جميعاً فلا حاجة لي بهم.
هذا الثعلب الماكر كان أكثرهم خبثاً،
جاء اليوم هازاً ذيله ظناً منه أنه مازال باستطاعته أن يخدعني بكلماته المنمقة.
ليذهب الى الجحيم..
(تردد لعدد من المرات عبارة «ليذهب الى الجحيم» وهي تتأمل إحدى أوراق اللعب)
عفيفة: ليتكَ اسطحبتني معك، لِمَ تركتني أنازع أنياب العزلة؟ أهش عن وجهي ذباب التطفل، وأستجدي لقمة عيشي من قمامات المترفين.
الحياة من دونك باتت سجناً كئيباً موصد الأبواب والنوافذ، وأيامي باهتة لا معنى لها كمسرح بلا جمهور، كان الأولى أن تأخذني معك.
(يدخل شخص ملتحي، بوجه عبوس، وثوب قصير وسروال، وخفين، يقف على مسافة منها وهو يهز بسوطه، يؤشر لها بأسلوب الآمر الناهي بأن تنهض، تنظر اليه بفزع واندهاش.).
عفيفة: مَن.. عبدالشكور..!!؟.
(يطلق ضحكة تشفي صاخبة).
عبدالشكور: هه.. كم كنت أنتظر هذه اللحظة.. يا… عفيفة.
عفيفة: تنتظر ماذا يا عبدالشيطان.!؟.
عبدالشكور: لطالما تمنيتها، وها هي قد تحققت.
عفيفة: ما الذي تحقق من أحلامك أيها المارق النكور؟.
أفتحتَ لك باراً على ضفاف النهر..؟.
أم شيدتَ ملهاً ليلياً يستقطب غانيات الليل، وبائعات الهوى؟. وكبار التجّار والميسورين.
أليست تلك أحلامك التي لطالما كنت تصدع بها رؤوسنا طوال سنوات التسكع التي قضيتها راكعاً ذليلاً عند قدميّ، تلتقط الفتات من بقايا موائدي.
أنسيت.. كل ذلك.. يا عبدالوضيع؟.
(يواصل الضحك..)
عفيفة: ما لذي تحقق من أحلامك وهذا الفرح الذي يعتريك.؟.
(بتشفي.. ونظرات ضاحكة)
عبدالشكور: أن أراكِ بهذهِ الهيئةِ، وهذهِ الحال.. يا عفيفة.
عفيفة: وما الحال الذي صرت أنتَ عليه لتشمت بي.. يا عبد.. النكور.؟.
عبدالشكور: الحال الذي أنا عليه الآن مختلفٌ تماما، والوعود تنهال على رأسي كالمطر.. يا عفيفة.
عفيفة: وعود ..! أية وعود.!؟، وعود عرقوب وقد شبعنا منها..؟.
( عفيفة ..بنوع من الاستخفاف).
عفيفة: ولكن احترس يا عبد ال.. شكور.. أخشى أن تغرق في وحل الوعود، ولا تجد من ينتشلك منها.
(يواصل الضحك)
عفيفة: والآن.. قل لي:
ما الذي جاء بك لترقص فرحاً وتشفياً على جراحي الغائرة يا عبدالشكور.!؟. هل جئت لترد الجميل؟، أم بدر مني ما أغاضك.؟.
عبدالشكور: ما جئتُ بهِ أمراً محدداً يا عفيفة.
عفيفة: وما هو يا عبدالشكور .!؟.
عبد الشكور : هو.. أني أرى لزاماً عليكِ أن تتطهري من أدرانكِ، وتغتسلي من ماضيكِ الحافل بالنجاسات والرذيلة يا.. عفيفة.
( مندهشة..! تهتف).
عفيفة: أ.. ها.. هكذا إذاً.
ألم تكن أنتَ يا عبد.. الشكور جزءاً من ذلك الماضي الذي صرت اليوم تتندر منه، وتعّيرني به.!؟.
أتذكر يا.. عبدالشكور كم مرة تقيأتَ وتبولت على ثيابكَ وقد ذهب بعقلك
الشراب.؟،
وكم مرة وجدوك ممدداً في باحة المباول؟، وجاءوا بكَ الى بيتي ورائحتك تُزكم الأنوف، فتولى تنظيفك وتعطيرك نفرٌ من خدمي، وبأمرٕ مني، وفي حمامي الخاص.
أتذكر ذلك يا عبدالشكور.؟
من كان يقبّل يديَّ ورجليَّ كي أتكرم عليه بكأسٍ من الشراب؟.
أليس أنتَ يا.. عبدالشكور؟.
الآن.. وقد صرتَ واعظاً تقيم الحد على الآخرين.
كان الاولى أن تتطهر أنت من أدرانكَ يا عبدالشكور قبل أن تلبس عمامة الزهد، وتجعل من نفسكَ واعظاً تتحكم برقاب الناس، وتختار لهم الكيفية التي يجب ان يعيشوا بها.
(يهز سوطه ملوحاً، وبصوت عالٍ.. يقول متوعداً.).
عبدالشكور: اسمعي يا عفيفة..
قسماً..عَظَمإً .. إن لم تغتسلي بماء التوبة، وتلتزمي بما يصدر عنا من فتاوى، فسأقيم عليكِ الحَد، وسأجلدُكِ بسوطي هذا ثمانون جلدة أو يزيد، أفهمتِ.؟.
(تتسع عيناها، وتفغر فاها، وتنظر اليه باستغراب).
عفيفة: ما يصدر عنكَ.. أنتَ.. يا.. عبدال… شكور..!!!؟.
من تكون..!؟ حتى تُلزِم الناس بما لا يُلزمهم.!؟. وتقيم عليهم الحدود.
(يشير بسبابته محذراً)
عبد الشكور: حذارِ أن تتجاوزي حدودكِ يا عفيفة.
ما عليكِ الا طاعة وليِّ الأمر. وإلا..
قسماً.. عظماً.. لو لم يكن بيننا بعض الذكريات لأقمتُ عليكِ الحَد، ولجلدتكِ مائةَ جلدة، بالتمامِ والكمال، ولأشهدتُ على عذابكِ طائفةٌ من المؤمنين.
(بتهكم، تنحني هزءً واستخفافا.)
عفيفة: مَهلإً.. مَهلإً.. يا أمير المؤمنين، السمعُ والطاعة.. السمعُ والطاعة.. لم أكن أعلمُ بأنك الحاكم بأمره.
(ينتفض معترضاً.).
عبدالشكور: كفاكِ يا امرأة، لم أدعي ذلك.. ولا تقوّليني مالم أقل.. لستُ أميراً للمؤمنين.
وهل مِثلهُ يُقاسُ بمثلي.!؟.
(تجلس القرفصاء وتعرض ظهرها له، وتقول مستخفة.)
عفيفة: طَهِرني.. يا عبد.. الطهور.. طَهِرني.
طهرني أرجوك.. أتوسلُ اليك، انزع جلدي الحرام بسوطك المُقدّس، وألبسني ثوب الطُهرِ والعفاف أيُها المُبجل.
طَهِرني.. يا.. عبدالشكور.
( تردد«. طهرني يا عبدالشكور» وهي تمسك بورقة لعب، تمزقها الى قِطعِ صغيرةٍ وتنثرها في أرجاء المسرح، مع تعالي ضحكاتها الهستيرية، وهي تُردد.)
عفيفة: طهرني.. يا عبدالشكور.. طهرني.
( تنقلب فجأة..)
عفيفة: اذهب الى حيث الجحيم يا عبد الشكور، إذهب أنت وفتاواك المزيفة أيها المتلوّن، إذهب الى حيث الجحيم.
(فجأة تصفع خدها.. وتجهش بالبكاء).
عفيفة: ..رباه..!،
لقد هَزُلَت.. أيَ مُنحدرٍ انحدرنا؟، وأيَ مُنقلبٕ انقلبنا.. حتى صار عبد الشكور، وأبو دُجانه، وأبو…. ومن لفَّ لفهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
تعساً لحياة يُهمَش فيها البسطاء المسالمون، ويوَّلى فيها القتلة والمارقون وشُذاذِ الآفاقِ.. تباً لهم.
(تنثر شعرها وقد استحال أبيضاً كالثلج، تتلبسها الدهشة وكأنها لم تره منذ أمد، تشعر باليأس وهي تهز رأسها.)
عفيفة: يووو.. ه..!.
العمر يجري كتيارٍ جامح، وقد نسينا أنفسنا في غمرة الأحداث، لم يبقَ من شجرة الأمل ما يستحق أن نتمسك به.
ما فائدة أن ألتقيهِ.. وأنا في آخرِ محطاتِ العُمر.؟.
(تفكر للحظات بخيال مرتبك، وتتلفت الى ما حولها تهتف بتصميم. )
عفيفة: أنا من يكتب سيناريو النهاية، أنا من يكتبها.
(تجري ذاهلة الى كل الاتجاهات، تبحث في الأرجاء عن القداحة، تجدها، تقدحها بيد مرتعشة محاولة إحراق نفسها. تتوقف فجأة وتنتفض كالمسعورة، وتصرخ .. لااااااااااااا.
(في تلك الاثناء يدخل ذات الشخص الذي يتولى تشغيل أجهزة الصعق، تراه يتوجه نحوها محاولا الإمساك بها وصعقها مثل كل مرة.
تقف بمواجهته بتحدي مصوبة نصال أضافرها نحوه، تتوسع حدقات عينيها، وكأن شررا يتطاير منهما، يصاب بالدهشة وهو يقرأ تعابير غضب على ملامح وجهها، يتراجع خائفا وهي تتابعه.).
قف عندك أيها الجزار المتوحش.
أما شبعتم!؟..
ألا يكفيكم نهشا بأجسادنا!؟.
منذ أن دارت رحى الزمن الرديء وأنتم جاثمون على صدورنا، تقتاتون على أمصال دمائنا، وترقصون ثمالى على نزف جراحنا.
منذ متى وأنتم تلوكون لحمنا نيئاً، وتشربون نخب انكسارنا وذلنا..
(يتراجع وهي تتقدم نحوه.).
لقد آن الأوان لنصفي حساباتنا معكم.
تبا لكم..
لا أدري من أي مزبلةٍ ألقتكم الأقدار لتتحكموا بمقدراتنا.
(تتقدم نحوه كلبوة شرسة، يحاول الهرب، تسد الطريق بوجهه، تحاصره وهو يحاول التفلت)..
الى أين أيها المسخ النتن والطرقات كلها تضج بأولياء الدم المسفوك ظلما وغدرا، وهم على موائد صومهم؟، لترد لهم عفتهم المهتوكة على فراش نزواتكم التي يأبى الشيطان أن يقدم على مثلها.
(يحاول الهرب مذعورا.. تمسك به وهو يرتجف هلعا، تشد وثاقه وتلقي به ممددا على النقالة.).
لن أرحمكم أبدا، تبا لك، وللحظ العاثر الذي جعل مصائرنا بأيديكم.
(تضع الأربطة حول رأسه وجبهته.. تشغل أجهزة الصعق على أقصى درجة، يهتز كامل جسده بعنف. يتبول على نفسه.. هنا تضحك ضحكة طويلة صاخبة تشفيا.).
(ستار)