عوالم عرض “هم” الداخلية: رحلةٌ في دروبِ النفسِ المُنهكة/ قراءة أولية : خالد أمين (حصريا)
̎الفاجعة المعتمة هي التي تجلب الضوء̎ (موريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ص. 56.)
تشكل مسرحية «هم» (1)، دراماتورجيا وإخراج أسماء هوري، عن نص الشاعر المغربي المتميز عبد الله زريقة (2)، رحلةً مؤثرةً في عوالم العزلة والاغتراب وتفكك الذات. ويأتي هذا العمل ليكمل رحلة فرقة أنفاس مع نصوص زريقة التي سبق واستلهمتها في عرض «مدينتي لي» (2021). لكن «هم» ينفرد بتركيزه على نص واحد ويطرحه بشاعرية نفاذة، بينما ينفخ فيه العرض المسرحي نبض الحياة، إسوة بأسلوب فرقة أنفاس المُتميز، وشواغلها الفنية والإنسانية العميقة منذ مسرحية «04:48 الذهان» للكاتبة الإنجليزية سارة كين، ومرورا بمسرحية «انتا هوا» لآرييل دورفمان عن اقتباس لرشيد برومي، ثم «دموع بالكحل» لعصام يوسفي، فـ «شتاء» للكاتب النرويجي جون فوس، فـ «ميزان الما فوق الخشبة» بشراكة مع الفرقة السويدية يوردبرو فالس أوركستر، فـ «خريف»…
استخدم الشاعر عبد الله زريقة الشذرة بوصفها وسيلة للتعبير عن رؤيته للعالم، مُقدّمًا أفكارًا عميقةً ومُفارقاتٍ وجوديةٍ بأسلوبٍ مُكثّفٍ وغامض يذكرنا برواية «المسخ» لفرانز كافكا، من حيث هي استعارة قوية للقبح الجسدي والنفسي، مُتجسدةً في تحوّل غريغور سامسا المفاجئ إلى حشرةٍ مقززة. ولعل أهم سمات كتابة زريقة في نص «هم» هي الغموض والالتباس، حيث إنها تفتح الباب أمام تأويلات متعددة، ولا تقدم إجابات واضحة أو نهائية؛ كما تركز على المفارقة للكشف عن عبثية الوجود الإنساني وتناقضاته، وعلى اللغة المكثفة، إذ يختار زريقة كلماته بعناية فائقة، ليعبّر عن أفكار معقدة في عبارات قصيرة… وينضاف العمق الفلسفي إلى كل ما سبق، بالتركيز على الكينونة، والحرية، والذنب، والهوية، والذاكرة المكلومة، ومعنى الحياة، وجدوى الكتابة… باختصار، تُشكّل الكتابة عند زريقة فعل مقاومة ضد الفاجعة، إذ أن الكاتب يحاول بواسطتها إعادة بناء الذات المُتفكّكة، وإيجاد معنى في عالمٍ يسيطر عليه الموت والعدم. وها هنا تصبح الكتابة وسيلةً للتشبث بالحياة، ومحاولةً للبحث عن الأمل في وسط اليأس.
جدير بالتذكير بأن الكتابة الشذرية عند موريس بلانشو بالخصوص هي بنية سردية معقدة، تتخطى حدود التصنيف وتتحدى التجنيس والتأطير. و ̎ إذا كانت الكتابة منذورة للمحو، كما يتصورها بلانشو، فإن محمولاتها متغيرة تبعا لمآلها ومصيرها.̎ (3) إنها أشبه بفسيفساء لغوية، تتألف من شظايا متناثرة، تقاوم التسلسل الزمني وتعطل سلاسة السرد. وبدلا من أن تسير الأحداث في خط مستقيم، تنزاح فجأة، متقلبة بين زمن وآخر، ومنظور وآخر، وصوت وآخر، لتثير في نفس القارئ ارتباكا خلاقا، يدفعه إلى التفاعل مع النص، لا مجرد تلقيه. وليست الجملة أو الفقرة هي وحدة البناء الأساسية في هذه الكتابة، بل الشذرة، التي قد تكون مثلا خاطرة عابرة، أو صورة منعزلة، تشكل جميعها نسيجا سرديا فريدا، يقاوم التفسير المباشر، ويغري القارئ بالغوص في أعماقه لاستكشاف ما خفي من معانيه. ولا تقدم شذرات بلانشو إجابات قاطعة، بل تلمح إلى معان وتجارب عميقة، تظل معلقة بين السطور، كأنها دعوة إلى التأمل في الفراغات بين الكلمات، واستجلاء ما لا يمكن التعبير عنه صراحة.
في نفس الاتجاه، يدفع بلانشو باللغة إلى أقصى حدودها، مستكشفا طاقتها على التعبير عما يتعذر وصفه، كالموت والغياب والفراغ والاستكانة والصبر، مستخدما في ذلك عبارات متناقضة، ومشككا في طبيعة اللغة ذاتها، وقدرتها على استيعاب الوجود بكل تعقيداته. إنها “كتابة بالنقصان”، كما يذكرنا بلانشو في “كتابة الفاجعة”، “أو الكتابة بالرفض، بحيث يكفي أن نطلب منها بعضَ الكلمات كي يتجلى نوعُ معينٌ من الإقصاء، وكأننا نرغمُها على البقاء والإقبال على الحياة لتواصل موتها. كتابةٌ بالنقصان.”(4) وتمتزج كتابة بلانشو بإحالات إلى أعمال أدبية وفلسفية أخرى (اللغة بوصفها اتصالا مع ليفيناس ص. 72، كهف أفلاطون 81، جنون كافكا 89، اليقين الديكارتي 98…)، وكأنها حوارية تقعيرية entretien en abyme. كما تتسم بتأملات في طبيعة الكتابة نفسها باعتبارها “تشكيل، معنى غائب في ما لا يتشكل”(5) ، مما يؤدي إلى ذوبان الفوارق بين الخيال والنقد، ويشكل عالما نصيا فريدا.
وتتصارع هذه الكتابة المتشظية مع ثيمات وجودية كبرى، كالموت والغياب، واستحالة فهمهما، والبحث عن فضاء “محايد” يتجاوز الذاتية البشرية، حيث تذوب اللغة والمعنى، بالإضافة إلى مواجهة “الآخر”، بمختلف تجلياته، سواء كان إنسانا آخر أو المجهول. باختصار، الكتابة الشذرية هي موطن التعبير عن عجز الكتابة عن طريق الكتابة.
وبعد، أيكون الشاعر قد حاصر شخصيته بهذه الفاجعة المعتمة طلبا للضوء، إيمانا منه بأن التاريخ يتقدم حين يتعفن؟
الشذرة في عرض «هم»
يعمق عرض «هم» الكتابة الشذرية من خلال سفر في جوانية ذات مكلومة، مبرزا صورةً لظلال شخصيةٍ تُصارع اضطرابات نفسية عميقة “تفتح وتغلق في رأسها بابا لا يفضي إلى شيء آخر سوى الفراغ.” قد يكون انعزال هذه الشخصية وتفككها ويأسها نابعًا من صدمة نفسية مبكرة، أو صراع داخليّ، أو شعور عميق بالاغتراب عن العالم الخارجي. قد تنبع رغبة هذه الشخصية الجامحة في التخلص من هويتها وممتلكاتها ومن صدمة نفسية عميقة الجذور. ربما تكون هذه الصدمة تجربةً مُبكّرةً في الطفولة طغت على إحساسها بذاتها، مما أدى إلى شعورِها الدائمِ بانعدام الأمن والحاجة إلى الهروب من ذاتها وهويتها… ومع ذلك، أصبحت هذه الهشاشة قوة محركة للحياة والإبداع (6).
يتجلى هذا الصراع الداخليّ في أسلوب الحوارات المُتقطّعة والمتكررة والمتشابكة في المسرحية، وبتحوّلات الشخصية المفاجئة، وبأفكارها غير المترابطة، وكأنّنا أمامَ شظايا متناثرةً من ذاكرةٍ مُشوَّشةٍ. يعكس هذا التّشظي الاضطراب الداخليّ الذي تعيشه الذات، واحتمالية التشرذم النفسيّ لديها. وقد يكون هذا التشرذم أيضا نتيجةً لصراعٍ داخليّ لمُصالحة جوانب مُتناقضة في شخصيته أو لمشاعرَ مَكبوتةٍ لم تُحلّ… باختصار نحن إزاء حالة مستعصية من اليأس:
شهير: لا أعرف.
هاجر: ما أعرفه حقا هو اليوم الذي قررت فيه حقا نزع اسمي، وأبعده بعنف عن جسمي.
تميمي: لا أعرف كيف حصل ذلك.
زينب: وجدت نفسي هكذا: نزعت ثيابي.
شهير: فتحت الباب قليلا.
هاجر: لا أعرف كيف فعلت ذلك.
تميمي: أردت أن أخرج عاريا تماما.
زينب: أردت رمي كل شيء كما ترمى القمامة. (مخطوط المسرحية، ص: 4)
يعكس أسلوب العرض المتشذر وكثافة صوره المُقلقة الاضطراب الداخليّ الذي تعيشه الشخصية المحورية وصراعاتها الوجودية. في «هم»، يُصوَّر العالم الخارجيّ كطيفٍ مُزعجٍ ومُهدّدٍ، كأنّه وحشٌ ضَارٍ يتربّصُ دون الجدران. طَرْقُ البابِ المُتكرر، وأصواتُ الشارعِ الصاخبة، وشعور «هو» بأنّهُ مُراقب، تُسهمُ جميعُها في إحساسِهِ بالاختناقِ والحصار، كأنّهُ أسيرٌ في قفصٍ ضيقٍ، لا يجدُ فيهِ متنفسًا. يُعبّرُ هذا عن شعورٍ أعمقَ بأنّ العالمَ الخارجيّ عالمٌ عدائيٌّ ومُربكٌ، يُثيرُ الرعبَ في النفسِ، ويدفعُ الشخصية إلى الانغلاقِ على ذاتهِا، والهروبِ إلى عالمِهِا الداخليّ، الذي تجد فيهِ أمانًا مؤقتا وزائفًا من قسوةِ الواقع المريب. يتجلّى عجزُ الشخصية عن التواصلِ مع الآخرين في عدمِ ردهِا على الرسالةِ التي تسلّلت من تحتِ البابِ، وفي خوفِهِا المُزمنِ من الخروجِ إلى العالمِ الخارجيّ. يُرسّخُ هذا العجز المزمن في التواصلِ فكرةَ انعدامِ الثقةِ بالعالمِ المُتجذّرةِ في نفسِ الشخصية، كأنّها تحملُ في داخلهِا جرحًا عميقًا لم ينْدَمِل، يمنعهُا من مدّ جسورِ الثقةِ مع الآخرين. ربما قد تكونُ هذه العُزلةُ الاجتماعيةُ بمثابةِ آليةِ دفاعٍ غيرِ واعيةٍ ضدّ أيّ صدمةٍ مُتوقّعةٍ أو رفض، فهو يخشى أنْ يُواجهَ مجددًا بذلكَ الألمِ الذي ذاقهُ في الماضي، فيُفضّلُ الانغلاقَ على ذاتهِ، والعيشَ في عالمِهِ الخاصّ، بعيدًا عن أعينِ الآخرين وأحكامِهم.
يغرقُنا عرض «هم» في بحرٍ من الصورِ المُظلمةِ للتحللِ والتعفّنِ والفراغِ، مُعبّرا عن اليأسِ والرتابة المُتجذّرينِ في نفسِ «هو»، صور تلقي بظلالِها الثقيلةِ على كلّ تفاصيلِ حياتهِ. إنّ اعتقادَهُ بأنّ «كلّ شيءٍ يتعفّن»، وأنّ العالمَ مُقدّرٌ له أن يُصبحَ «مكبًّا للنفاياتِ» يُشيرُ إلى أزمةٍ وجوديةٍ عميقةٍ يعيشُها، أزمةٍ تجعلهُ يفقدُ الأملَ في كلّ شيءٍ، ويُسلّمُ نفسهُ لليأسِ والعجز. وقد وصل هذا اليأس إلى درجة فقدان الثقة في اللغة والكتابة، رغم ارتهانه بهما، ولو عن طريق كتابة الفاجعة بوصفها «ما تبقى بعدما يقال كل شيء، خراب الكلام، وهن بالكتابة، ضوضاء تهمس: ما يبقى بغير بقية -الشذري-.» (7) باختصار، تتجلى الشذرة في كتابة زريقة من خلال تقطّع النص وتفكّكه، وعدم وجود تسلسل منطقي للأحداث أو الأفكار. يبدو النص كأنه مجموعة من الخواطر والمشاهد المتفرقة التي لا ترتبط ببعضها بعضا بشكل واضح. يعكس هذا الأسلوب حالة الفوضى والتشتت التي يعيشها الإنسان في مواجهة الفاجع التي تفقده القدرة على التفكير المنطقي والتعبير المترابط. (8) إلا أن أسماء هوري، كعادتها، تعمق الكتابة الشذرية شكلا ومضمونا لتفسح المجال للجسد الفرجوي كي يعبر عن قضايا مستعصية عن التعبير. تلك القضايا المرتبطة بالفاجعة في حدود علاقتها بالنظام الرمزي والتعبيرات الإنسانية المعتادة بواسطة اللغة مثلا. معلوم أن الفاجعة، حسب جاك لاكان، لا يستطيع النظام الرمزي تحملها أو التعبير عنها، لأنها ببساطة، أثقل بكثير… ومع ذلك، استطاع بعض الكتاب الإمساك بجوهرها والتعبير عنه انطلاقا من الكتابة الشذرية. ومن ضمن هؤلاء الشاعر عبد الله زريقة. في مجالنا المسرحي المغربي، يمكن اعتبار أسماء هوري متشبعة بروح الكتابة الشذرية على الركح من خلال مزجها الخلاق بين الجوقية choralitéوالجسد الراقص والموسيقى الحية…
في عرض«هم»، هناك انتقالات لتمثيل حالات ووضعيات إنسانية بالعودة إلى “الجوقة” والدراما. وقد أشارت المخرجة أسماء هوري لهذا الاختيار منذ “دموع بالكحول” كما يلي: “يؤسس الممثلون، ضمن روح تقنية الجوقة للغة جسدية وأيديولوجية خاصة دون اللجوء إلى بناء الشخصيات من خلال طريقة أداء بمرجعيات نفسية وذاتية.” (9) فالجوقة، إذن، هي ‘القلب المحرك للمسرحية’، واستعمالها ـ من حيث هي اختيار جمالي ـيعمق الكتابة الشذرية على مستوى الدراماتورجيا الركحية ويتيح المجال لحوار شفاف بين المسرح والمجتمع من جهة أخرى، وبتحول الشخصيات الأخرى إلى جوقة أثناء مونولوغ معين، فهي أيضا تتقمص دور المجتمع بضميره وتناقضاته وأصواته المتعددة… إنها تقنية تؤدي إلى فصل الممثل عن الدور. وبالتالي، إدراك جسد الممثل/المؤدي بوصفه نصا ثقافيا وذاكرة حية لجروح وندوب من الماضي… هكذا أصبح الممثل/ المؤدي شخصية تناصية بامتياز يجمع بين هويته، وجسده، ومقاطع من الدور تبنى وتقوض في الآن نفسه كما لمسنا ذلك في دراماتورجيا عرض “دموع بالكحول” (خاصة العرض الأول بالمسرح الوطني محمد الخامس، يناير 2013). شخصيات “هم”، مثلها مثل شخصيات”دموع بالكحول”، هي في واقع الأمر شخصيات مُجوقة choralisés- إذا ما استعرنا تصنيف جان بيير سرزاك-، وذلك لكونها تشهد على الحدث وتتأمله… تنتصر هوري للشكل الرابسودي الذي ينبني على جدلية التفكيك وإعادة البناء. كما أنها تقذف بشخوصها لتشارك في الحدث وتصبح شاهدة عليه في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، يذكرنا سرزاك بأن “الموضوع الرابسودي يتميز عن الموضوع الملحمي من حيث كونه موضوعا منشطرا clivé: أي لأنه في الوقت نفسه درامي وملحمي، وشخصية مشاركة في الحدث وشاهدة عليه.” (10)
في رحاب عرض «هم»، حيث تتراقص ظلالُ الحقيقة، نلمحُ حضورًا طيفيًا للجوقية، كأنها صدىً لرغبةٍ كامنةٍ في النفس البشرية، رغبةٌ في الاندماج، أو العودة إلى حضن الجماعة، كما لو أن الفردَ التائهَ في متاهاتِ ذاته يبحثُ عن خلاصه في الكلّ. تتشكل الجوقيةُ بوجهها المَرَضي لتُعبّر عن جراحِ الروحِ وعذاباتِ الوجود. في زمن تَسلّل إليه اليأسُ خفيةً، وتَبخّرت فيه أحلامُ اليقين، تُصبحُ الجوقيةُ نافذةً نطلّ منها على أعماقِ الوجود الإنساني، لِنُشاركَها رثاءَها الحزينَ على تفكّكِ الروابط، وانفصالِ الكائنات، وعجزِها عن بلوغِ الوحدةِ المنشودة؛ إنّها (الجوقية)، ذلك النَسَقُ الفنيّ الذي هزّ أركانَ الكتابة المسرحية المعاصرة، مُعيدًا النظرَ في مفهومِ العالمِ الدراميّ، مُحطّمًا قيودَ الحوارِ التقليديّ القائمِ على الصراع، ليُطلِقَ العنانَ لأصواتٍ مُتعددةٍ تُشكّلُ سيمفونيةً من الكلماتِ والألحان. فعلى مستوى المنطوق في عرض «هم»، تتجلى الجوقية بوصفها شلالا من الردود، ينسابُ خارجَ حدودِ المنطقِ، ليُنسجَ لوحةً فنيةً من التناغمِ والتناقض، كأنها أغنيةٌ تُغنّيها جماعةٌ من الأصوات. أما على مستوى الشخصيات، تُجسّدُ الجوقيةُ كيانًا جماعيًا، يتجاوزُ حدودَ الفرديةِ، ليُعبّرَ عن همومِ الإنسانِية جمعاء، ويُساهمَ في بناءِ عالمٍ جديدٍ قائمٍ على التعاونِ والتكامل. وهكذا، تُفكّكُ الجوقية ما يُسميه ريكور “البنية المنطقية” للخطاب الأرسطي، لتُؤسّسَ لغةً جديدةً، لغةً مُتشعبةً، مُتناثرةً، تُعبّرُ عن تعقيداتِ الوجودِ وتنوّعِه. باختصار، تُحرّرُ الجوقيةُ الدراما من قيودِ المنطقِ الصارم، وتفتحُ آفاقًا جديدةً للتعبيرِ عن تعقيداتِ الوجودِ الإنسانيّ، من خلالِ لغةٍ مُتشعبةٍ، مُتناثرةٍ، وشعريةٍ.
الزمن في عرض «هم»: تجسيد للرتابة واليأس
لا يقتصر مفهوم الزمن في عرض «هم» على كونه مجرد إطار زمني للأحداث، بل يتحول إلى عنصر فنيّ يُستخدم بمهارة للتعبير عن حالة الرتابة واليأس التي تُسيطر على الشخصيات، ويُشكّل رمزًا لفقدان الهوية والتفكك. يُستخدم التكرار بشكل مكثف في عرض «هم»، سواءٌ في الحوارات أو الأفعال أو في الموسيقى ذاتها، مما يُعزز الشعور بالرتابة والانحباس في حلقة زمنية مُفرغة تذكرنا بثقل تجربة الزمن في رائعة بيكيت “في انتظار غودو”. يتردد صدى عبارات مثل «ماذا سأقول؟ وهل لديّ شيء لأقوله؟» في أرجاء المسرح، وكأنّ الشخصيات عالقة في دوامة من الأفكار المُكررة. يتكرر فعل فتح وإغلاق الباب، الذي يُمثّل نقطة الوصل الوحيدة بين هو والعالم الخارجيّ، تعبيرا عن رغبته المُتناقضة في التواصل وخوفه منه. أمّا تكرار عدّ الذباب الميت، فيُجسّد حالة الركود والجمود التي تُسيطر على حياته. ويعد توظيف التكرار أحد العناصر المحورية في أعمال هوري. تُؤدي أفعال «هو» المتكررة، مثل فتح الباب أو عدّ الذباب الميت، إلى خلق إيقاعٍ مُنوّمٍ يجذب الجمهور إلى حالته المُشبعة بالهواجس. يُضخّم التكرار شحنة الانفعالات، ويخلق إحساسًا بالخلود، مُجسّدا بذلك وقوع «هو» في أسر أفكاره. يُصبح هذا التكرار، الذي يكاد يتحول إلى طقس، بمثابة تعبير عن محاولاته اليائسة لإيجاد نظامٍ داخل عالمه المُتفكك.
تٌستخدم الحركة البطيئة في العديد من مشاهد العرض، مما يُؤدي إلى إبطاء الزمن الحقيقي، ويخلق شعورًا بالثقل والجمود، ويُعزّز الشعور باليأس والعجز الذي يُسيطر على الشخصيات. تتحرك الشخصيات ببطء وكأنّها تجرّ أقدامها على خشبة المسرح، مُعبّرين عن ثقل الوجود وعبء الحياة. تُسهم هذه الحركة البطيئة في خلق جوّ من الكآبة والرتابة، وتعكس حالة الشخصيات العالقة في زمن مُتوقّف. ويتداخل الزمن الحقيقي مع الزمن الفرجوي في العرض من خلال استخدام تقنيات «ما وراء المسرحية»، مثل مخاطبة الجمهور مُباشرةً، واستخدام أسماء الممثلين الحقيقية: زينب علجي، محمد شهير، هاجر الشركي، وعبد الرحيم التميمي. يُؤدي هذا التداخل إلى كسر الإيهام المسرحيّ، ويُذكّر بأنّ ما يجري على خشبة المسرح هو تمثيل للواقع، وليس الواقع نفسه. باختصار، يُستخدم الزمن في عرض «هم» بوصفه أداةً فنيّةً للتعبير عن حالة الشخصيات المُحبطة، ولخلق تجربة مسرحية تُثير التفكير والتساؤل. يُجسّد التكرار فكرة الانحباس في حلقة زمنية مُفرغة، وانحباس أنفاس الزمن، بينما تُعزّز الحركة البطيئة الشعور بالثقل والجمود. أمّا التداخل بين الأزمنة، فيُذكّر بأنّ المسرح هو انعكاسٌ للواقع، وأنّ الشخصيات المسرحية تُمثّل تجارب إنسانية حقيقية.
تدفق الجسد الفرجوي
تولي المخرجة أسماء هوري الأولوية للحركة الجسدية بوصفها لغةً. إنّ عجزَ «هو» عن التعبير عن تجربته لفظيًا يستلزم الاعتماد على التعبير الجسدي. تستطيع العروض المسرحية أن تستلهم أسلوبَ تدفقِ حركة الجسد، من خلال استخدام حركات دقيقةٍ ومنمقة للتعبير عن الاضطراب الداخليّ للشخصية وتفككّها. يُصبح الجسدُ الفرجوي هو البؤرة الأساسيّة لصناعة المعنى، حيث ينقل اغترابَ الشخصية ويأسِها بشكل أقوى من الكلمات. فرغم تركيز النصّ على شخصية واحدة منعزلة، إلا أن العرض يوظّف أربعة مؤدين، كلّ منهم يجسد شظيةً من نفسية «هو» المُمزقة. تعكس هذه الممارسة منهج أسماء هوري في التعبير عن التعقيدات الكامنة في النفس البشرية والتجربة الحياتية من خلال الجماعة وأسلوب الجوقية. يتحول المؤدون، كما لو كانوا راقصين في لوحات بينا باوش، إلى جوقة تُعبّر عن صراع «هو» الداخليّ، وتُجسّد تفكك هويته أمام أعين الجمهور.
كما يعلي عرض «هم» من شأن الجسد والحركة، مُهَمِّشًا الحوار التقليديّ. يتجلى ذلك في تفكك «هو»، وهوسه بيديه، وتخليه عن اسمه، وهي كلّها أفعالٌ تُؤدّى بلغة جسديّةٍ متدفقة ومُباشرةٍ، لتُصبحَ لغةً تُعبّرُ عن حالتهِ النفسية، وكأنّ الجسد يحكي ما تعجز الكلمات عن البوح به. والحال أن هوري تستخدم الجسد الفرجوي للتعبير عن المشاعرِ الخامِ والمخاوفِ اللاواعيةِ، دافعةً مؤديها إلى أقصى حدودِه الجسديةِ والعاطفية، في محاولةٍ لتجسيدِ الصراعِ الداخليّ للإنسان. يُكرّرُ «هو» فتحَ البابِ وإغلاقَهُ، ويُثبّتُ نظرَهُ على الغبارِ والرسالةِ، في أفعالٍ تُوحي بالطقوسِ والهوس، وكأنّهُ يحاولُ التشبّثَ بأيّ نظامٍ أو روتينٍ في عالمٍ يبدو فوضويًا ومُتفككًا. يُضفي هذا التكرارُ في العمل، كما أسلفت الذكر، إحساسًا بالوقوعِ في فخّ، مُعبّرًا عن الصراعِ الداخليّ للشخصيات، وعن عجزِها عن التحرّرِ من قيودِ الماضي والحاضر.
المسرح مرآةً للنفس: عوالم «هم» الداخلية
تدرك هوري وفريق عملها أنّ المسرح ليس مُجرّد خلفية للأحداث، بل هو امتدادٌ لعالم الشخصية الداخليّ، مرآة تعكسُ صراعاتها وأفكارها ومشاعرها. ومن خلال تجريد الديكور إلى عناصره الأساسية، خلقَ سينوغراف العمل الفنان الباحث أمين بودريقة مشهدًا نفسيًا قويًا ومُقلقًا يعكس تفككَ «هو» الذهنيّ واغترابه، وكأنّ المسرحَ يتحوّلُ إلى عقلِ الشخصية ذاتهِا، بكلّ ما فيهِا من فوضى وغموض. كما أبدع بودريقة في استشكالِ سؤالِ الكتابةِ من خلال لوحة حروفية ربطت بين الكتابة والكليغرافيا وتناثرِ الأوراقِ في الأرجاء بخاصة، مبرزا صراع «هو» بين الرغبة في الكتابة والعجز عن الكتابة والضرورة الملحة للكتابة… وفيما يلي بعض الأمثلة:
الغرفةُ العاريةُ: ليست هذه غرفةً عاديةً، بل هي غرفةٌ ذات جدرانٍ عاريةٍ، وطاولةٍ فارغةٍ، وأرضيةٍ باردةٍ، مساحةٌ خاليةٌ من أيّ دفءٍ أو حياة. يعكس هذا التجريد محاولات «هو» لتجريد نفسه من هويته، ليُصبح “فارغًا” هو الآخر، وكأنّهُ يريدُ التّخلصَ من كلّ ما يُذكّرهُ بإنسانيتِهِ. تُصبح الغرفة لوحةً فارغةً لانهياره النفسيّ، خاليةً من أيّ مُشَتِّتَاتٍ، صدىً لفراغِهِ الداخليّ وصمتِهِ المُؤلم.
البابُ الفاصلُ/الواصل: ليس البابُ مجردَ مدخلٍ أو مخرجٍ، بل هو نقطة الاتصال الوحيدة التي تربط «هو» بالعالم الخارجيّ، الذي يُشكّلُ لهُ مصدرًا للخوفِ والقلق. يفتحُهُ قليلًا، ثم يتراجع، في إشارةٍ إلى رغبتهِ المُتناقضةِ في التواصلِ وخوفِهِ منهُ، فهوَ يتوقُ إلى الخروجِ من عُزلتِهِ، لكنهُ يخشى في الوقتِ نفسهِ مواجهةَ العالم. يُصبحُ البابُ حدًا فاصلًا بين فوضاهُ الداخلية والتهديد المُتصوّر من العالم الخارجيّ.
الغبارُ المُتراكِمُ: يُشكّلُ الغبارُ المُتراكِم استعارةً بصريةً رائعةً لركودِ «هو» وتحلّلهِ، وكأنّهُ شاهدٌ صامتٌ على انسحابِهِ من الحياة. فبينما ينسحبُ من العالمِ، مُهمِلاً احتياجاتِهِ الجسديةَ وأفعالَهُ، يستقرّ الغبارُ حرفيًا من حوله، وكأنّهُ رداء. إنّه تجسيدٌ مرئيٌّ لِحالتهِ الداخليةِ: الأشياءُ تتداعى، وإحساسُهُ بذاتِهِ يُصبحُ مُبهمًا، مثل الْهَباء الذي يتلاشى في الهواء.
الطاولةُ الفارغةُ: في البدايةِ، تحتوي الطاولةُ على خبزِ الشخصية، رمزًا للعيشِ والتواصلِ مع الحياة، ورمزًا لِبقايا الأملِ في النفس. مع انحدارِهِ إلى العزلةِ، يرمي الخبزَ بعيدًا، ويتركُ الطاولةَ عاريةً، مُعبّرًا عن فراغِهِ الداخليّ ورفضِهِ لِأبسطِ الاحتياجات، وكأنّهُ يرفضُ الحياةَ نفسها، ويُسلّمُ نفسهُ لليأس.
دور الموسيقى في مسرحية «هم»:
تُشكل الدراماتورجيا الموسيقية في مسرحية «هم» عنصرًا أساسيًا في الدراما، إذ تُستخدم بمهارة للتعبير عن المشاعر، وتعزيز الأحداث، وتعميق فهم الجمهور للموضوعات المطروحة. وتُستخدم تقنيات متنوعة مثل الآلات الوترية، والألحان المتقطعة، والجوقة، وكلمات الأغاني، لخلق تجربة مسرحية غنية ومُتكاملة. تُستخدم الموسيقى الحية في «هم» بوصفها عنصرا أساسيا في بناء الدراما، إذ تعمل على ضبط الإيقاع العام للمسرحية، وتعزيز حركات الممثلين وأصواتهم، وإبراز جماليات الحوار، وتحفيز الحلقة الراجحة لتبادل الأثر بين الموسيقيين الموجودين فوق الركح، خلف ستارة، وبين المؤدين. كما تُسهم الموسيقى في إغناء الرصيد الصوتي للعرض، من خلال الجمل اللحنية والإيقاعية، مما يُكمل بناء الدراما. وتُعزز الموسيقى أيضا موضوع “العجز عن التعبير” في المسرحية، حيث تُمثل وسيطًا فنيًا يُعبر عن المشاعر التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. وتُضيف الموسيقى الحية بُعدًا حيويًا للعرض، مما يُعزز التفاعل المباشر مع الجمهور، ويخلق ترابطًا بين الممثلين والموسيقيين والجمهور. وتُستخدم تقنيات الارتجال في الأداء الموسيقي الحي لتعكس الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية وعجزها عن التعبير.
كما أن توظيف الفرقة الموسيقية في جانب من الفضاء الفرجوي تشكل في حد ذاتها جوقة أخرى بالإضافة إلى العزف والغناء. والحضور الملفت للفرقة الموسيقية بقيادة الفنان رشيد البرومي يذكرنا بحضور جون جاك لوميتر Jean-Jacques Lemetre في زاويته المعتادة على خشبة مسرح الشمس بآلاته الموسيقية المثيرة للفضول. لقد تغنت الفرقة بألحان رشيد البرومي، ليس من أجل خلق تفريغ عاطفي أو التعبير عن دواخل الشخصيات فقط، بل طورت دراماتورجيا موسيقية موازية ومستقلة عن تدفق المسرحية. الشيء نفسه قام به السينوغراف أمين بودريقة الذي لم يتعمد خلق وهم مكان ما بقدر ما ألمح تصميمه الاختزالي للفضاء الركحي بانسداد الأفق.
ومن ضمن أهم خصائص الموسيقى في «هم»: الألحان المتقطعة: وتُعزز الألحان المتقطعة للآلات الوترية الإحساس بــ«الخطر المحدق» الذي تُمثله الشخصيات الأخرى، وتُبرز التناقض بين العالم الداخلي للشخصية والضغط الخارجي. الكورَس: يُستخدم الكورَس كمجموعة صوتية تُمثل المجتمع الذي يُمارس الضغوط على الشخصية الرئيسية، ويتداخل غناؤه مع ألحان الآلات الوترية لزيادة التوتر الدرامي. كلمات الأغاني: تُستخدم كلمات الأغاني، من المسرحية ذاتها، لنقل مشاعر الشخصيات وعوالمهم الداخلية، وتُدمج مع الحوار والأحداث في أسلوب شعري غنائي. التصاعد الدرامي: تُنظم الموسيقى لترتفع تدريجيًا مع تصاعد الصراع الداخلي لـِ «هو»، وتصل إلى ذروتها في اللحظات الدرامية، مما يُعزز الأثر الجمالي والنفسي للموسيقى.
ولعل أهم ما يميز الموسيقى في مسرحية «هم» التعبير عن العمق النفسي عبر الآلات الوترية:
الكمان والتشيللو: تُعدّ هذه الآلات من أكثر الآلات الموسيقية قدرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية، نظرًا لمرونة نغماتها التي تُتيح التعبير عن مجموعة واسعة من المشاعر، بدءًا من الحزن والأسى وصولًا إلى القوة والانفعال. في «هم»، تُستخدم هذه الآلات لتجسيد الصراعات النفسية التي تعيشها الشخصيات، والتي تعجز عن التعبير عنها لفظيًا. تُعبّر الموسيقى هنا عن مكنوناتهم النفسية، وتُبرز هشاشتهم وقلقهم واغترابهم وربما الإحساس بالضياع.
العود والجيتار: تُضيف هذه الآلات بُعدًا ثقافيًا واجتماعيًا إلى العمل، نظرًا لارتباطها بالموسيقى العربية والمغربية. وتُستخدم ألحانها المتقطعة لخلق حالة من التوتر، وللتعبير عن «الخطر المحدق» الذي تُمثله الشخصيات الأخرى (هم)، والذي يُؤدي إلى تفكك كون الشخصية الرئيسية وكينونتها.
التكامل بين الآلات: يُسهم التكامل بين هذه الآلات في خلق تجربة موسيقية غنية، تُعبّر عن مختلف جوانب العمل. تُبرز الآلات الوترية هشاشة الشخصيات وصراعاتهم الداخلية، بينما تُشير الآلات الشرقية إلى الضغوط الاجتماعية التي تُؤدي إلى تفككهم.
تُستخدم الموسيقى في عرض «هم» بوصفها لغة للتعبير عن الجوانب النفسية والاجتماعية التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. تُتيح هذه اللغة للمتلقي فهمًا أعمق لعالم الشخصيات، والتفاعل معهم على مستوى عاطفي. بالإضافة إلى كونها عنصرا أساسيا في ضبط إيقاع العرض من خلال التفاعل المباشر مع المؤدين فوق الركح. ينضاف إلى كل ما سبق، تواطؤ الموسيقار رشيد برومي مع أسماء هوري في اختيارات جمالية واضحة المعالم، ضمن نفس الفرقة، منذ سنين.
خلاصة أولية:
باختصار، تتميز دراماتورجيا فرجة «هم» بنزوع نحو إلغاء التراتبية بين مكونات العرض المسرحي. لقد تم توظيف كل مكونات العرض المسرحي بطريقة متساوية وبمعزل عن مركزية أو هيمنة مكون ما، مما ألغى التراتبية الموروثة… وهذا في حد ذاته اختيار ذكي من طرف المخرجة أسماء هوري. إنه أسلوب يميل أكثر إلى الكتابة الركحية فيما يخص دراماتورجيا الفرجة وتعاطيها مع مكونات العرض المسرحي… وهو أيضا تمظهر لكتابات الركح Les écritures de plateau بصيغة الجمع B. Tackels… كما أن الخيال الكوريغرافي لأسماء هوري يؤثر بشكل ملفت على تشكيل الركح وبناء الشخوص، وكأننا إزاء لحظة من المسرح الراقص تفرغ فيها الحركة والسكون سردا عاطفيا مشحونا وشديد التعقيد بالإضافة إلى النص المنطوق والموسيقى الحية… إنه مسرح شامل –إذا ما استعرنا تعبير Jean-Luis Barrault- حيث لا يدعي الأسبقية أي عنصر من العناصر المسرحية على حساب آخر: الحركة، الموسيقى، الصورة، النص…
جدير بالذكر أن التقنيات التي توظفها، أو بالأحرى تنتصر لها أسماء هوري، ترتبط بالأداء أكثر وليس بالتمثيل المصطنع، وتهتم أكثر بكشف الحقائق من خلال أسلوب فني ما بعد درامي يتجه نحو خلق مسرح المواقف بدل مسرح التمثيل. تهتم هوري بمسرحة التاريخ الشخصي للأفراد في سياق سياسي محض، بعد أن استوحت حصافتها هاته من تقنيات وخبرات فرجوية تنتمي إلى الحقول الأكاديمية وغيرها… لذلك يبقى علينا من باب الضرورة أن نعترف أن البعدين الاجتماعي والسياسي للمسرح لا يرتبطان كثيرا بعرض مواضيع سياسية ساخنة بشكل مباشر – وإن كان هذا التصريح لا يعني بطبيعة الحال أن عرض مثل هكذا مواضيع أمر مستبعد- بقدر ما يرتبط باللحظة الاجتماعية والعلاقة والموقف/ الحالة التي يحدثها المسرح (واستشكال الشكل أو القالب المسرحي من جهة أخرى). لأن استشكال يقينيات الشكل يصبح مضمونا في حد ذاته.
الركح ليس مجرد خشبة عرض، بل هو فضاء حيويّ تتفاعل فيه الطاقات، وتُبعث فيه النصوص المخطوطة إلى الحياة. ويمثّل العمل المسرحي رهانًا على التعاون الجماعيّ، حيث يُشعل في الجمهور ملكة التلقي المنتج. فالنص المخطوط يبقى جامدًا حتى يتحوّل إلى جمرة متّقدة على الركح، تتجاوز حدود الكلمات لتُطلق العنان لنظام معقد يتجلى في السيميوزيس المسرحي. ومن هذا المنطلق، انطلقت هوري في مسرحها، لتُحرّره من قيود النظرة الأدبية الضيقة، وتُعيد إليه حيويته وتفاعليته من خلال كتابات ركحية موازية تحت كشافات الضوء. ذلك أن النص المكتوب للمسرح “هو حقيقة غير مكتملة، هو نص سيأتي، ينتظر الخشبة وقراراتها الركحية، النص نقطة بداية لا نهاية، إنه معادلة تحل داخل الخشبة.”(11) كما يذكرنا برونو تاكلز على لسان الباحث والدراماتورج المغربي كمال خلادي. وهذا الأسلوب لا يعني إطلاقا التخلي عن النصوص بقدر ما يستشرف رحابة دمقرطة الممارسة المسرحية.
كانت هذه مجرد ملاحظات أولية عن عرض «هم» الذي قدم بطنجة المشهدية احتفاء بذكراها العشرين. …
الهوامــش:
(1): قدم عرض «هم» لفرقة أنفاس ضمن فعاليات مهرجان طنجة للفنون المشهدية يوم السبت 7 دسمبر 2024 بالمركز الثقافي بني مكادة. يتألف فريق عمل عرض «هم» من المؤلف عبد الله زريقة والمخرجة أسماء هوري. ويضم طاقم التمثيل كلًا من هاجر الشركي، زينب علاوي، محمد شهير، وعبد الرحيم التميمي. أما التأليف الموسيقي فيعود لرشيد البرومي، بينما تولى أمين بودريقة مهمة السينوغرافيا والإضاءة. ويشمل فريق العمل أيضًا العازفين عبد العالي الروداني وأسامة بورواين، والتقني مهدي بودريقة، والمؤدي الصوتي ضياء حجازي،تصوير عبد العزيز الخليلي.
(2): عبد الله زريقة، شاعر الهامش المغربي، صرخ شعراً ضدّ الظلم والقمع، مناضلاً بقلمه وكلماته، متّخذاً من حيّه “ابن مسيك” بالدار البيضاء مرآةً لمعاناة مجتمعه. اعتقل بسبب جرأته، فزادته تجربة الاعتقال صلابةً، ليُصدر دواوين شعريةً تُجدّد اللغة الشعرية وتُلامس أعماق الذات الإنسانية، كـ «ضحكات شجرة الكلام»، و«زهور حجرية»، و”إبرة الوجود”. اختار زريقة العزلة ليُبدع نصوصاً آسرة تتجاوز المألوف، مُبتكراً أشكالاً جديدةً في الكتابة الشعرية. شاعرٌ فريدٌ حفر اسمه في ذاكرة الأدب المغربي، بصبره وثباته وغرائبية قصائده التي تُرجمت إلى لغات عديدة. يشكل شعر عبد الله زريقة حالةً خاصة في المشهد الأدبي المغربي، فهو ينطلق من جماليات الهامش، معبرًا عن تجربة مجتمعه المهمّش بصدقٍ. ويتميز أسلوبه بـاستعارات مبتكرة تُجدّد اللغة الشعرية، وتغوصٍ في الذات الإنسانية ليكشف عن مشاعرها وهواجسها عن طريق كتابة شذرية فريدة.
(3): مقدمة المترجم، موريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ترجمة عز الدين الشنتوف، دار توبقال للنشر، 2018، ص. 15.
(4): موريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ص. 59.
(5): المرجع نفسه، ص. 87.
(6): يرى بلانشو في “الكتاب الآتي” Le livre a venir أن هشاشة الروح والعقل، التي لطالما اعتُبرت ضعفًا، هي في حقيقة الأمر قوة دافعة للتفكير والإبداع. فهي حالة انفتاح تتلاشى فيها الحدود بين الذات والعالم، مُتيحةً للإنسان تجاوز قيود العقلانية والانطلاق في عالم الخيال. ويجد بلانشو في أعمال آرتو، مثل “المسرح وقرينه” و “المسرح والقسوة”، صدىً لهذه الفكرة. فآرتو، من خلال تجربته مع المرض العقليّ، أدرك أهمية الهشاشة كقوة محررة، داعيًا إلى تحطيم الحواجز بين العقل والجسد لإطلاق الطاقات الكامنة في الإنسان. ويُقدم آرتو، بحسب بلانشو، درسًا في أهمية التحرر من قيود العقلانية والانفتاح على عالم اللاوعي والتعبير عن الهشاشة بصدق. إنها دعوة لمواجهة الهشاشة وتقبلها كقوة دافعة للحياة والتفكير والإبداع.
(7): موريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ص ـ. 80.
(8): بعض الأمثلة من نص زريقة التي تُظهر الشذرة:
في بداية النص: ينتقل زريقة فجأة من الحديث عن نزع اسمه وملابسه إلى الحديث عن شعوره بالفراغ، ثم إلى فتح النوافذ وصنبور الماء وإشعال أعواد الثقاب، دون وجود رابط واضح بين هذه الأفعال.
لا أعرف ما أعرفه حقاً هو اليوم الذي قررتُ فيه أن أنزع اسمي، وأبْعِدَهُ بعنف عن جسمي. لا أعرف كيف حَصَلَ ذلك. وجدت نفسي هكذا: نزعتُ ثيابي. فتحت الباب قليلا. لا أعرف كيف فعلت ذلك. أردت أن أخرج عارياً تماماً. أردتُ رمي كل شيء كما ترمى القمامة. أحسست في تلك اللحظة أن كل الناس ضدي، وأن الكلمات نفسها تهرب مني، وأنني أصبحت فارغاً، فارغاً تماماً…
ثم وجدت نفسي أفتح كل النوافذ، حتى صنبور الماء، وأقرع كل أعواد الثقاب التي كانت لدي. (عبد الله زريقة، هم، ص: 2)
في القسم الثاني من النص: ينتقل زريقة من الحديث عن تجربة شخصية إلى الحديث عن تعفن الأشياء، ثم إلى الحديث عن نهاية العالم وجهنم، دون ترابط منطقي واضح بين هذه الأفكار:
وضعتُ عدة نقط على ورقة صغيرة ورحت إلى قاعة مليئة بمختلف الناس الذين كانوا متحمسين لمعرفة رأيي في ذلك الموضوع… تحدثت عن نوع من الصيرورة أسْمَيْته بالتعفن، وأنَّ فِعْل صَارَ هو نفسه فعلُ تَعَفَّنَ وأَنَّ أَيَّ شيء يَصِيرُ، يتعفن ويُصبحُ زبلا في الأخير… وأنَّ البداية هي الوضع الأفضل، لأن التعفن يأخذ زمنا ليحدث. وأنَّ هذا العالم سيتحول إلى مزبلة كبيرة في الأخير إن كان هناك شيء نسميه أخيراً… وأنه لا يمكن أن نقبل بأن نكون مجرد أزبال في الأخير. (عبد الله زريقة، هم، ص: 5)
في القسم الخامس من النص: ينتقل زريقة من الحديث عن تصلّب أصابعه إلى الحديث عن عدم قدرته على الخروج من المنزل، ثم إلى الحديث عن تصلّب أجزاء أخرى من جسده، دون تسلسل زمني أو منطقي واضح.
وبالضبط ذلك الصباح الذي استيقظتُ فيه، ولم أستطع ثني أصابع يدي… ثم لم أخرج من الدار، ليس فقط لأني لا أستطيع أن أظهرهما للناس، بل لا أستطيع أن أغلق الباب بالمفتاح، ولا أستطيع أن أصافح أحداً… بل بدأت فيما بعد أحس بأن تصلبهما ينتشر شيئا فشيئا في أطراف جسدي، وأني أصبحت متصلباً شيئا ما، وأن جسدي بدأ يبدو لي عبارة عن أصابع متصلبة: اللسان أصبع. العنق أصبع الرأس أصبع كبير … وخفت. خفت. (عبد الله زريقة، هم، ص: 11)
يُمكن القول إنَّ الشذرة عند زريقة تُعبّر عن حالة التفكك التي يُعاني منها الإنسان في مواجهة الفاجعة، والتي تجعلهُ غير قادر على التفكير المنطقي أو التعبير المُترابط. تُجسّد هذه الشذرة حالةً من الضياع والاغتراب، وفقدان المعنى والاتجاه في الحياة.
(9): نص دموع بالكحول (الرباط، إيسكيك، 2013) ص. 11/ 12.
(10): جان بيير سرزاك، “تقاسم الأصوات”، ترجمة حسن المنيعي، ضمن شعرية الدراما المعاصرة، طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2017، ص. 54.
(11): برونو تاكَلْز، نقلاً عن: كمال خلادي، فورة الخشبة: في الكتابة المسرحية الجديدة في المغرب، منشورات الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، 2023، ص 23
الأستاذ الدكتور خالد أمين
أستاذ التعليم العالي، تخصص الدراسات المسرحية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، المغرب)، ومستشار لدى هيئة المسرح والفنون الأدائية بالمملكة العربية السعودية (2020-2025). كان باحثا مشاركا بالمعهد الدولي لتناسج ثقافات الأداء بالجامعة الحرة في ببرلين وعضو الهيئة الاستشارية بنفس المعهد (إلى حدود 2022). وهو أيضا أستاذ زائر بجامعة كوته بفرانكفورت وجامعة نيو إنجلند الأمريكية بطنجة (2013-2023). كما كان عضوا في المكتب التنفيدي للفيدرالية الدولية للبحث المسرحي (2011-2011- 2018). ومنذ 1998 وهو منسق فرقة البحث في الدراسات المسرحية بجامعة عبد المالك السعدي، وأيضا الرئيس المؤسس للمركز الدولي لدراسات الفرجة (ICPS) بطنجة منذ 2007 إلى الآن. من بين كتبه المنشورة باللغة العربية: ما بعد بريشت (1994)، الفن المسرحي وأسطورة الأصل (2002)، مساحات الصمت في المسرح المغربي (2004)، المسرح ودراسات الفرجة (2011)، المسرح والهويات الهاربة (2019)، هوامش دراسات الفرجة (2023). صدر له بالإنجليزية كتاب المسرح المغربي بين الشرق والغرب (2000)، رقص على حد السيف: دراسات في المسرح (2018). أمين هو مؤلف مشارك لمجموعة من الكتب الجماعية أبرزها كتاب: مسارح المغرب والجزائر وتونس: تقاليد الأداء في المنطقة المغاربية (الصادر باللغة الإنجليزية عن منشورات بالغرايف بأمريكا، 2012 بالاشتراك مع البروفسور مارفن كارلسن). ساهم أمين في العديد من المجلات المسرحية المحكمة وهو أيضا مدير تحرير مجلة دراسات الفرجة (المجلة المحكمة الصادرة عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة (15 عدد)، ومحرر الصيغة العربية من مجلة الدراما TDR التي تصدر عن منشورات كامبريدج.
Khalid Brief Bio 2024:
Khalid Amine is Senior Professor of Performance Studies, Faculty of Letters and Humanities at Abdelmalek Essaadi University, Tétouan, Morocco. He has been Research Fellow at the International Research Center “Interweaving Performance Cultures” at Freie Universität Berlin, and Member of the Advisory Board (2010-2020). He is the winner of the 2007 Helsinki Prize of the International Federation for Theatre Research (IFTR). He was Friedrich Hölderlin Guest Professor at Goethe-University, Frankfurt/M., Germany (2017/18). Since 2007, he has been Founding President of the International Centre for Performance Studies (ICPS) in Tangier, and convener of its annual international conferences. He was member of IFTR Ex-Com (2011–2018), head of Jury at the Arab Theatre Festival (6th Edition, Sharjah 2014), and Advisor at the Saudi Theatre and Performing Arts Commission (2020/2023). Among his published books: Beyond Brecht (1996), Moroccan Theatre between East and West (2000), Fields of Silence in Moroccan Theatre (2004), Dramatic Art and the Myth of Origins (2007), Dancing on the Hyphen: Essays on Arab Theatre (2019), Margins of Performance Studies (2023)… Amine is co-author with Distinguished Professor Marvin Carlson of The Theatres of Morocco, Algeria and Tunisia: Performance Traditions of the Maghreb (2012); he is the Co-Editor of Performing Transformations (2012), The Art of Dialogue: East-West (2014), Intermediality, Performance and the Public Sphere (2014), Memory and Theatre (2015), Across Borders and Thresholds: Performing in Zones of Contact and Friction (2020), Editor of Arab Journal of Performance Studies [AJPS], and also Contributing Editor of the international Journal New Theatre Quarterly [NTQ] (2021-2023).