حول إصدارات النقد المسرحي في عُمان/ آمنة الربيع (حصريا)
في حيثيات هذا الموضوع، أعترف أن طباعة الكتب في وطننا العربي باتت تشكل ثقلا كبيرا، وهاجسا مؤرقا. لا يقف وراء تلك المخاوف تأثير التقنية والذكاء الاصطناعي وعزوف القراء بوجه عام عن اقتناء الكتاب وقراءته كما كنتُ أظن في أول الأمر، بل تتنزّل بعض المخاوف والارتياب في العلاقة غير المفهومة في كثير من الأحيان بين المؤلف ودار النشر من حيث التسويق. لهذا عندما نَشرت الجمعية العمانية للمسرح في موقعها إعلانا تحث فيه المسرحيين العمانيين على المشاركة بتعبئة النموذج الذي ستتولى فيه الهيئة العربية للمسرح بالشراكة مع الجمعية طباعة كتب مجالها الدراسات لم أتردد في الدفع إليهم ببحثي، حيث كنتُ في ذلك الوقت، أراجع المسودة وأبحث عن دار للنشر تطبعه من دون تكاليف!
وفي ذات السياق، كنتُ أعتقد كذلك، أن قوة تأثير ثقافة مسرحية نقدية في المشهد المسرحي العماني، يجب على المؤسسات والجمهور تشجيع الدراسات المسرحية، وتوجيه المشتغلين بالمسرح إن احتاج الأمر، إلى تكوين جماعات مهمتها التفكير الناقد في البحث العلمي الرصين والإنتاج المعرفي وتجريب الأفكار الجديدة.
إن المؤسسات الأهلية أو التابعة للدولة، والجمهور لا يستطيعون خلق باحثاً أو ناقد واحد، لكنهم يقدرون على توفير بيئة خصبة صالحة للحوار الناقد، وهذا الدور يمكن تأديته في مؤسسات كبرى كالجامعات والكليات ومراكز البحوث والدراسات، وإن تعذر عليها الأمر، فالمقاهي والمراكز الثقافية والجمعيات أو المجال العام بوجه عام، يمكنه تسهيل ذلك، بهدف التحام المسرحيين الفاعلين مع الباحثين، واقتراب المتفرجين من قطبي المجال المسرحي نفسه.
والمسرح في عُمان لم يعد بكرًا أو نبتة سامّة، حيث أثبت الجمهور تفاعله وانشغاله مع العروض في مواقعه الثلاث (مسرح العرفان، ومسرح قصر البستان، ومسرح كلية الدراسات المصرفية) التي عرضت على خشباتها عروض المسارين. كذلك، استطاعت الفرق المسرحية الناشطة المتصدرة في الحراك المسرحي من خلال مشاركاتها في المهرجانات الدولية وتحقيقها مراكز متقدمة أن تَخفي خلفها الفرق الخاملة، وأن تضعها في مكانها خلف ستارة المسرح؛ امتثالا لمقولة برتولد بريشت إن “كلُّ شيء ينبغي أن يُعزى إلى مَن يُحسن القيام به”.
مما تقدم اعتقدتُ أن الاحتفاء بظاهرة إصدارات الكتب البحثية وتحديدا في مجال المسرح، يشير إلى تمكين البحث الناقد، وأشدّد على هذا الاستعمال، لأن البحث النقدي المتعارف عليه حدوده في الدراسات النقدية للمسرح مرهونة بمعايير أكاديمية، وبإشراف جامعي، والأبواب أمام هذه الاجتهادات مفتوحة والنوافذ مشرّعة. أمّا جهد البحث الناقد، فهو رهين بيئة ثقافية غير متحجرة تؤمن بالاختلاف، وترفع من درجات تعددية الفكر، وتسمح بقبول الثقافات القادمة إليها والتنظيرات، شريطة ألا تنزع عنها هويتها الثقافية المستنيرة. فمن هذا المنطلق، فالبحث الناقد بحث لا يقف عند السطح والظواهر العامة والتفكير الخامل الساكن، ولا يهدأ أمام المسلمات الجاهزة، ولا يستكين للطمأنينة المزيفة، إنما يطرح الأسئلة، ويقترح أجوبة لأسئلة لم تُطرح من قبل.
البحث الناقد عُدته القراءات المتشابكة للمناهج التقليدية والحداثية. مسائلتها، وتجاوز اليقينيات المجانيّة، والانفلات من التفكير الماضوي والإيمان بالعقل والتفكير المنهجي وخوض التجريب، واحترام مبدأ وجود معنى قابل للتوسع والتمدد، وقابلاً كذلك للتنظير والتجديد والتفكيك.
انطلقت نقطة التفكير بالكتابة البحثية حول المسرح في عُمان ظاهريا من المدارس. لكن المتأمل اليوم في التطور الحاصل للعروض المسرحية ومراجعة الكتب والدراسات يجد أن البذرة يكمن سببها في التفكير بالتراث غير المادي والأشكال ما قبل المسرح، التي اندغمت رسميا في جدل المسرح وعلاقته بالهوية، ودرجة هذا التراث وقوته التي تُمكنه من الدخول في حوار مع العالمية عبر الهوية المحلية.
أخذ الاشتغال مع الظواهر التقليدية ما قبل المسرح في عمان يشكّل واحدة من وجوه الخصوصية الثقافية للمسرح العماني. ما دفع الباحثون العمانيين المشتغلين بالمسرح إلى إعمال البحث في تلك الظواهر. لم تكن النتائج التي وصلوا إليها مختلفة كثيرا، عما وصلت إليه بحوث المشتغلين بالموروث ما قبل المسرح في مجتمعات الخليج إلا في استثناءات في الوطن العربي أظهرتها مسارات الاشتغال النقدي حول الفرجة، لدى باحثين أكاديميين في المسرح ببلاد المغرب وتونس ومصر.
ففي عُمان وهي جزء من مجتمعات الخليج (الكويت، والبحرين، والسعودية والإمارات، وقطر)، ارتكز الباحثون المسرحيون بالبحث فيما وراء الأشكال التقليدية، وأسهموا إسهاما مقبولا في التأريخ لوجودها، لكن البحوث لم تتقدم كثيرا فوقفت بحسب الظاهر عند قضايا الموروث الشعبي وتزيين العروض المسرحية بجمالياتها، دون التعمق في مشاكستها، وهذا الذي كنتُ أرمي إليه عندما شددت على ظاهرة البحث الناقد.
الناظر إلى الجهود البحثية في النقد المسرحي في عمان يجد أن بعض عناوينها تفاعلت مع أطروحات التلقي النقدي في المسرحين العربي والأوروبي. وتبلورت إنجازات تلك الجهود لدى باحثين عمانيين أكاديميين درسوا المسرح في عمان وواصلوا دراستهم في جامعات في الغرب. أولى تلك الجهود بلورتها عناوين الإصدارات التالية: –
توظيف الأدب الشعبي في النص المسرحي، تأليف الدكتور سعيد السيابي، 2005م، والمسرح في عُمان من الظاهرة التقليدية إلى رؤى الحداثة، تأليف الدكتور عبدالكريم جواد، 2006م، وثلاثة كتب للدكتورة عزة القصابي هي: رؤية في المسرح العماني، 2006م، والمسرح الخليجي من التقليدية إلى فضاء المسرح العالمي، 2022م، وملامح الحداثة في المسرح العربي، 2022م. كما صدر كتاب الحركة المسرحية في عمان، ألفه الدكتور محمد الحبسي. 2006م، والآخر في المسرح العماني، يُعدّ تأليفاً مشتركاً بين الدكتورة كاملة الهنائي، والدكتور سعيد السيابي، 2013م، وصدر للدكتورة آمنة الربيع مغامرة النص المسرحي في عمان: مسرحيات النادي الأهلي أنموذجا، 2014م، وجماليات التأليف الدّرامي والإخراج المسرحي في تجارب مسرحية عمانية، 2018م. كذلك نشير إلى كتاب التّناص في مسرحيات آمنة الربيع (آليات التوظيف وأبعاده الفنية)، للباحث محمد خلفان، 2022م، وكتاب للباحث المسرحي هلال البادي، بعنوان سرديات الخطاب المسرحي لدى بدر الحمداني، 2022م.
عطفًا على توقيع إصدارات الهيئة العربية للمسرح التي جرت ببهو مسرح العرفان للمؤلفات الخاصة عن المسرح العماني، فقد تضمنت العناوين التالية: –
1- الضوء الخافت لا يخبو في المسرح ومستقبله، سعيد السيابي.
2- ملامح الحداثة في المسرح العربي، عزة القصابي.
3- إضاءات على المشهد المسرحي العماني، عبدالرزاق الربيعي.
4- قراءة المسرح: مقاربتان ثقافيتان في النص الدرامي، آمنة الربيع.
5- النص المسرحي وتطوره في عمان، رحيمة الجابري.
6- المسرح العماني بين الموروث والفرجة، علياء البلوشي.
7- تمثلات الحداثة وما بعدها في المسرح العماني، جمانة الطراونة.
8- مسرح الشارع في سلطنة عمان، بشار عليوي.
9- القناع الأبيض في المسرح العماني، محمود سعيد.
إننا نرى في هذه العناوين خطوة تُشغل باهتمامات جلها حول النص المسرحي ومحاولة لمعانقة العالمية، إصدارات تتلمس التجدد حسب حاجيات المشهد المسرحي العماني المتطور، في إطار تراكم إيجابي حققته الفرق المسرحية الأهلية ومسرح الشباب وجامعة السلطان والمهرجانات المحلية الواعدة.
من هذا المكان، صار من الضروري الانتباه إلى عناوين الدراسات البحثية في المسرح العماني ورؤيتها من منظور يسهم في تخصيص مختبرات وجلسات نقدية مكثفة، تضعها على طاولة النقاش والمساءلة للتعرّف على أساليب الانفتاح على القراءات النقدية الفاعلة، بعبارة أخرى، البحث فيما يُحققه هذا التراكم وما يمتلكه من مواصفات لتطوير المشهد المسرحي في حواضن كالجامعات والكليات والمجتمع.