إصبع روج” صراع الهوية الجندرية فوق خشبة المسرح/ ياسر اسلم

مسرحية “إصبع روج”، التي قدمتها فرقة الشفق المسرحية بإخراج الصلت السيابي وتأليف عباس الحايك، تقدم تجربة جريئة تتناول قضية الهوية الجندرية عبر صراع داخلي يمزق الشخصية بين (الجسد) و (الروح). ينقسم البطل إلى شخصيتين متضادتين؛ جسدٌ يتمسك بحدوده البيولوجية ويرفض التغيير، وروحٌ تتوق إلى التحرر من تلك القيود. وفي مدّ القبول وجزر الرفض، يتأرجح الجسد بين رغبته في الاندماج وخوفه من نظرات المجتمع وأحكامه.

برؤية إخراجية متزنة، نجح الصلت السيابي في تحويل النص المكتوب إلى عرض ديناميكي يضع الجمهور في أجواء المسرحية منذ اللحظة الأولى. داخل غرفة نوم بسيطة، لحظة دخولهم قاعة المسرح، وجدوا الممثل (الروح) واقفًا أمام المرآة في يمين الخشبة، متأملًا انعكاسه بصمت، وكأنه يحاور ذاته العالقة بين حقيقتين متناقضتين، أو يعكس المتفرجين أنفسهم. كان مشهدًا افتتاحيًا يوحي بأن هذه الحالات ليست بعيدة، بل تعيش بيننا، خلف الجدران المغلقة.

بدأ العرض بمشهد يوحي بالهدوء الظاهري؛ إذ كانت أغنية لفيروز تتردد في الأرجاء بينما انشغل (الروح) بتنظيف الغرفة، وكأن الموسيقى تمنحه لحظة من التصالح المؤقت مع ذاته. غير أن هذا التناغم لم يدم طويلًا، إذ قطعه رنين هاتف مفاجئ، ليكسر الإيقاع الهادئ، ويفرض واقعًا أكثر اضطرابًا. لم يكن الاتصال مجرد تفقد عابر من الأم، بل لحظة تكشف الازدواجية العميقة التي يعيشها البطل؛ إذ تناوب (الروح) و(الجسد) على الرد، وكأن كلًّا منهما يسعى لإثبات أحقيته في امتلاك هذه الهوية، مرّة يجيب هذا، ومرة يجيب الآخر، في انعكاس مباشر لصراعهما المستمر.

في منتصف الخشبة، توسطت شماعة ملابس، تتدلى منها قطع استخدمت ببساطة كأداة لتجسيد الشخصيات المختلفة، حيث كان الممثلون يمرّون خلفها عند التحول من دور إلى آخر، متنقلين بين الأب، والأم، والمعلم. ومع تصاعد التوتر الدرامي، حاول الجسد قبل النهاية الاتصال بأمه، لكنها لم تجب، وكأن القطيعة أصبحت واقعًا حتميًا، يرسّخ عزلته عن العالم الخارجي، ويؤكد انفصاله العاطفي والوجودي عن أسرته.

في اللحظات الأخيرة من العرض، بدأت الروح في إعادة تشكيل الفضاء المسرحي، وكأنها تحكم سيطرتها المطلقة على الجسد. أغلقت السرير، ودفعت بقطع الديكور نحو منتصف الخشبة، لتضيق المساحة أكثر فأكثر، وكأن الحياة نفسها بدأت تنكمش حول الجسد، تحاصره في زاوية خانقة. لم يعد الديكور مجرد خلفية صامتة، بل تحول إلى عنصر ضاغط، يعكس تمامًا اختلال ميزان القوى بين الروح والجسد، حيث فقد الأخير آخر مساحة للحركة، وانغلقت عليه دائرة وجوده بلا مهرب.

أما المشهد الذي انعكس فيه ظل شاهد القبر خلف المرآة باستخدام الإضاءة، بعد ضرب الأب لابنه، فكان من الصور الإخراجية الجميلة. لم تكن المرآة مجرد سطح يعكس الصورة، بل تحولت إلى عنصر درامي يمنح ظلها بعدًا ومعنًى آخر، ليصبح شاهد قبر للأب، وكأن الصدمة دفنته نفسيًا قبل أن يموت فعليًا. وما زاد من عمق هذه الصورة المسرحية، أن الأب، حين خرج من المسرح، اتجه نحو ذلك الشاهد، وكأن الصدمة دفعته إلى نهايته الحتمية، وكأن الموت كان يناديه، يسحبه إليه بلا مقاومة.

كذلك، كان سقوط الجسد في “السلة” في النهاية رمزًا قويًا. هذه السلة، التي بدت في البداية مجرد جزء من أثاث الغرفة، تحوّلت تدريجيًا إلى مستودع لكل الشخصيات التي جسدها الممثلان طوال المسرحية. ومع اقتراب النهاية، بدأ الجسد يتخلص من تلك الشخصيات، ممزقًا هويات المجتمع الذي رفضه، برمي ملابسها داخل السلة. لكن لم يكن وحيدًا في ذلك؛ كانت الروح تمدّه بالمزيد، وكأنها تسرّع عملية التجرد، تدفعه نحو القطيعة التامة مع المجتمع. وفي لحظة محورية، بينما كان الجسد يحاول الهروب من هويته المفروضة عليه، رافضًا ذاته الحقيقية، سقط في السلة نفسها، في إشارة ذكية إلى أن الفطرة المشوّهة لا تجد مصيرًا سوى الهاوية، حيث تتحوّل السلة إلى مزبلة رمزية تحتضن كل ما هو مرفوض ومشوّه.

لعب الممثلان وليد المغيزوي وإبراهيم المعشري دورًا محوريًا في تجسيد الانقسام الداخلي للشخصية، حيث قدّما أداءً متناغمًا جعلهما فعليًا وجهين لعملة واحدة. التوافق الحركي بينهما لم يكن مجرد تنسيق تمثيلي، بل كان انعكاسًا حيًا للصراع النفسي، حيث ظهر الانقسام الداخلي بوضوح، وكأن كل منهما يحاول فرض وجوده على الآخر في معركة متواصلة بين الجسد والروح.

وكان التفاعل الجسدي بينهما قويًا، خاصة في المشاهد التي ظهر فيها الجسد وهو يقاوم الروح أو يحاول إنكار وجودها، في صراع متصاعد ينهكه تدريجيًا حتى لحظة انهياره. وبلغ التوتر ذروته عندما أجبرته الروح على وضع أحمر الشفاه، وكأنها العلامة الأخيرة على فقدانه السيطرة، مما أدى إلى انهياره التام وسقوطه في السلة، في مشهد جسّد سقطة أخلاقية ونفسية لا رجعة فيها.

تضع المسرحية المتلقي أمام سلسلة من التساؤلات التي تتصاعد مع تقدم الأحداث: هل نحن أمام عمل يسعى فقط إلى كشف معاناة هذه الفئة؟ هل هناك في خلفية المشهد رسالة غير مباشرة تدعو إلى تقبّل الهوية الجندرية؟ أم أن كل ذلك مجرد طرح محايد لصراع داخلي لا يمكن حسمه؟ كثيرة هي الأسئلة التي تمر في ذهن المشاهد حتى اللحظة الأخيرة من العرض.

النص نفسه لا يقدم إجابة واضحة، بل يضع المشاهد في مواجهة مباشرة مع شخصية تعيش هذا الصراع، مما يجعله إما يتعاطف معها أو ينفر منها. هذه الازدواجية، وإن كانت جزءًا من قوة المسرحية، إلا أنها قد تترك البعض في حالة من الحيرة والربكة، محمَّلًا بأسئلة أكثر مما دخل بها.

لكن هناك تساؤلًا آخر يفرض نفسه: هل كانت النهاية هزيمة للجسد وانتصارًا للروح، أم أنها لحظة انهيار لكليهما؟

سقوط الجسد في السلة قد يكون إشارة إلى فشل المجتمع في احتواء مثل هذه الحالات ومعالجتها، لكنه أيضًا تأكيد على أن هذا المرض ليس طبيعيًا ولا مقبولًا، بل سقوط في الهاوية، حيث لا رجعة ولا خلاص.

المسرحية هنا لا تُلزم المشاهد برأي محدد، بل تتركه معلقًا بين التأويلات، متسائلًا عن معنى الصراع، وعن مصير الجسد والروح. فهل كان هناك منتصر حقًا، أم أننا مقبلون على دوامة تبتلع الجميع في النهاية، نابذةً المجتمع، فارضةً ذاتها؟

لكن يبقى السؤال الأهم: هل ينبغي أن تطرح مثل هذه الأفكار على خشبة المسرح؟ أفكار قد لا يتقبلها المجتمع؟ وهل يكون دور المسرح اختبار حدود التقبّل، أم أن عليه أن يعكس قيم المجتمع بدلًا من تحدّيها؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت