ستانسلافسكي وأخلاق المسرحيين / د. فاضل الجاف

يتناول الممثل والمخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي (1863-1938) في معظم كتاباته حول فن الأداء وتقنيات التمثيل، مسألة “الحقيقة الفنية”، ويعكف على بحث عميق في سعيه نحو تحقيق الصدق الفني، وهو ما يطلق عليه “الحقيقة الفنية”. من خلال هذه الرحلة الطويلة التي امتدت طوال مسيرته الفنية، ظهرت سمتان أساسيتان تميّز جميع عناصره الفنية: الأولى هي الصدق، والثانية هي الإخلاص.

ويعد ستانسلافسكي مؤسس المنهج المعروف بـ “الواقعية النفسية”، الذي يمثل أول مدرسة عالمية مخصصة لتعليم وتطوير فن التمثيل والأداء المسرحي. وما كان موجودًا قبل ستانسلافسكي من أساليب كان يتوزع بين تقاليد فردية لأداء كبار الممثلين، من امثال ماريا نيكولايفنا إيرمولوفا و إدموند كين وسالفيني تومّازو، التي تحولت لاحقًا إلى قوالب ونماذج ثابتة. أما نظام ستانسلافسكي، فقد كان أول مدرسة منظمة تهدف إلى تكوين الممثل بشكل شامل، ولم يقتصر تأثيره على روسيا فقط، بل امتد ليشمل أنحاء العالم.

على المستوى الشخصي، كان ستانسلافسكي شخصًا بسيطًا ومتواضعًا رغم معرفته العميقة ومكانته البارزة في تاريخ المسرح.  فقد اشتهر، مثل سقراط، بتواضعه الفكري حيث كان يجيب عن الأسئلة الكبرى بالقول: “لا أعلم، ليس لدي إجابة”

في كتاباته، يستخدم ستانسلافسكي شخصية خيالية تُدعى “تورتسوف” كقناع لنقل أفكاره وتعاليمه حول فن الأداء. هذه الطريقة، التي تعتمد على الحوار، تشبه إلى حد كبير أسلوب أفلاطون في كتاباته الفلسفية. وفي كتابه الشهير “إعداد الممثل”، يُظهر ستانسلافسكي العديد من الإشارات والتعليمات الأخلاقية، حيث يُبرز أهمية الأخلاق في فن ومهنة المسرح.

وفقًا لستانسلافسكي، “يجب على الممثل أن يسعى لتحقيق الحرية الداخلية، مع الالتزام بأقصى درجات الانضباط الذاتي”.

من خلال الحوارات بين تورتسوف والممثلين، يشدد ستانسلافسكي على القيم الأساسية للأخلاق بطريقة تربوية وعبر أمثلة عملية، مما يجعل الأفكار أكثر وضوحًا وقابلة للتطبيق. وعلى لسان تورتسوف، يحدد ستانسلافسكي التقنيات والأساليب التي يحتاجها الممثلون لتحقيق أداء صادق يتناغم مع الشخصيات التي يجسدونها.

تعتمد طريقة ستانسلافسكي في بناء الأفكار وطرحها على أسلوب يذكرنا بأسلوب سقراط وإفلاطون، حيث يستند إلى الحوار والأسئلة والأجوبة بدلاً من الإملاء المباشر. والهدف من هذه الأسئلة هو تحفيز التفكير النقدي وتوجيه الممثل نحو إيجاد الإجابة الصحيحة. لا يقتصر الأمر على بناء القيم الأخلاقية فحسب؛ بل يعيد ستانسلافسكي تذكيرنا بسقراط، الذي كان يسأل قبل كل شيء ويبحث عن المعنى الحقيقي للأفكار المتداولة. فمثلاً في كتابه “عمل الممثل على نفسه”، يؤكد ستانسلافسكي، كما فعل سقراط، على أهمية معرفة الذات كخطوة أولى نحو الحكمة والمعرفة. كما كان سقراط يرى أن التفكير الفلسفي هو الطريق إلى الحقيقة، يعتقد ستانسلافسكي أن الوعي الذاتي هو مفتاح الأداء الصادق.

كان الاعتقاد السائد قبل ستانسلافسكي هو أن مهمة الممثل تقتصر على التركيز على أدائه الخارجي، إلا أن ستانسلافسكي غيّر هذا المفهوم في كتابه “الأخلاق”، حيث أكد أن العمل على الذات واكتشاف الأعماق الداخلية للشخصية، مع الالتزام بالمبادئ الأخلاقية، هو الأساس لتحقيق أداء فني متميز.

يُعد كتاب “الأخلاق” (Этика) أول مرجع رئيسي في الأخلاق للمسرحيين، حيث يُقدم إرشادات أساسية تساهم في بناء السلوك الشخصي والانضباط الذاتي للممثلين والعاملين في المجال المسرحي. ورغم صغر حجمه، يُعتبر هذا الكتاب حجر الزاوية لفهم الأسس الأخلاقية للعمل المسرحي، ويشكل دليلاً للفنانين الذين يسعون للإخلاص لفنهم وضمائرهم.

الرؤية الأخلاقية لستانسلافسكي لا تقتصر على كتاب “الأخلاق” فقط، بل تمتد لتشمل أيضًا أجزاء من كتابه الشهير “حياتي في الفن”. لذا، عندما نتحدث عن أهمية الأخلاقيات في العملية الإبداعية المسرحية، يصبح من الضروري أخذ هذا الكتاب الأساسي في الاعتبار.

في  كتابه”حياتي في الفن”، يقدم ستانسلافسكي سردا ممتعا وعميقًا لحياته المهنية، حيث يوضح تجربته المسرحية ليس فقط كمهنة أو هواية، بل كعشق تام كرّس له كل طاقته وموارده.

يطرح ستانسلافسكي مبدأً أخلاقيًا جوهريًا: “أحب فنك في نفسك، لا أن تحب نفسك في الفن”. هذه الفكرة التي ظهرت لأول مرة في كتاب “حياتي في الفن”، يتم تناولها بشكل أعمق وأكثر تفصيلًا في كتاب “الأخلاق”.

بالنسبة لستانسلافسكي، يُعتبر هذا المبدأ الأخلاقي الشرط الأساسي لتطور الفنان المسرحي. ورغم أن معظم المسرحيين يدركون هذا المبدأ، فإن قلة منهم يطبقونه بجدية. ولتحقيق ذلك، يجب على الممثل أن يتخلص من الأنانية والنرجسية، والرغبة في التألق على حساب الدور أو العرض ككل.

يعتبر هذا الشرط تحديًا لبعض الممثلين، خصوصًا أولئك الذين يركزون فقط على حجم أدوارهم وعدد حواراتهم في النص المسرحي، أو كيف سيبدون على خشبة المسرح. هؤلاء الممثلون يفتقرون إلى الارتباط الحقيقي بفن المسرح، إذ لا يحبون الفن ذاته، بل يحبون أنفسهم من خلاله.

“إنهم يحوّلون المسرح إلى أداة لخدمة ذواتهم واستعراض شخصياتهم بدلاً من أن يكون الفن غاية في حد ذاته. وهذا النوع من التفكير يُفقد المسرح جوهره وروحه”

يركّز ستانسلافسكي على مبدأ أساسي: «لا يوجد دور كبير أو صغير، بل هناك ممثل كبير أو صغير». يعكس هذا المبدأ رؤية أخلاقية تُحمّل الممثل مسؤولية تطوير أدائه وشحذ مهاراته، بغض النظر عن حجم الدور الذي يجسده.

جوهر الأخلاقيات المسرحية لدى ستانسلافسكي ليس مجرد نصائح نظرية، بل هو منهج عملي يُلزم الفنان بالصدق والانضباط في كل مرحلة من مراحل العمل المسرحي. لذا، يظل هذا الكتاب حتى اليوم مرجعًا أخلاقيًا أساسيًا لكل من يسعى ليكون فنانًا مسرحيًا حقيقيًا.

في كتاب «حياتي في الفن»، يخاطب ستانسلافسكي الممثلين مؤكدًا أن طريق الإبداع المسرحي ليس سهلًا، بل يتطلب جهدًا دؤوبًا وعملًا مستمرًا على تطوير الذات. وفي الوقت ذاته، يُظهر المسرح كمصدر للمتعة والفرح، لكنه يفرض على الممثل المثابرة الدائمة، وصقل مهاراته وقدراته، مع إبداء احترام عميق لشركائه وزملائه في العملية الإبداعية وتقدير جهودهم. تلك القيم الأخلاقية التي يعرضها ستانسلافسكي في “حياتي في الفن” بأسلوب فكري عميق، تصبح لاحقًا المحور الأساسي لمضمون كتابه “الأخلاق”

يرى ستانسلافسكي أن المسرحيين يتحاورون مع أعظم الكتّاب، مثل شكسبير، بوشكين، غوغول، موليير، وتشيخوف، مستلهمين من أعمالهم لتوسيع آفاق فنهم. وفي ختام «حياتي في الفن»، يطرح ستانسلافسكي سؤالًا جماليًا عميقًا: «ألا يكفي كل هذا لخلق زاوية جميلة في هذا العالم؟»

ويُبرز ستانسلافسكي في هذا الكتاب قيمة أخلاقية أساسية: احترام فن المسرح واحترام جميع الفنانين المشاركين في العملية الإبداعية، بهدف الارتقاء بالمسرح إلى مستوى سامٍ ونبيل، وصولًا إلى الحقيقة الفنية التي ينشدها الفنان المسرحي..

يرى ستانسلافسكي المسرح كـ”معبد فني” يجب أن يُحافظ فيه على “نقاء الروح”. لذلك، يدعو الفنانين إلى ترك همهومهم الصغيرة وتفاهات الحياة اليومية خارج المسرح. كما يدعو الممثلين إلى الابتعاد عن الحسد والأنانية والغطرسة والرغبة في الثناء وأستجداء المديح والإطراء والانخراط في المنافسة غير الشريفة. إن هذه المشاعر السلبية، التي تتغذى غالبًا من أجواء التنافس والحصول على الجوائز، تجعل المجال الفني يبدو كـ”كومة من القمامة”.

كتاب الأخلاق يعد تأملًا عميقًا، حيث لا يقتصر الفن، كما يرى ستانسلافسكي، فقط على الكفاءة والمهارة والإبداع والابتكار، بل يتجاوز ذلك ليكون له ارتباط عميق بالسلام الروحي والنفسي، كما أن له علاقة مباشرة مع البيئة التي يُنتج فيها الفن. لهذا السبب، يُشدد ستانسلافسكي على أهمية احترام المسرح كمكان مقدس للإبداع، حيث يجب على الفنانين الابتعاد عن المشاعر السلبية والاضطرابات الداخلية. والهدف من ذلك ألا تتأثر عملية الإبداع بتلك الاضطرابات، وألا تتحول التمارين والبروفات إلى مجرد أداء ميكانيكي.

يطرح ستانسلافسكي في «كتاب الأخلاق» سؤالًا جوهريًا: «كيف يمكن للمسرحي أن يخلق بيئة إبداعية وملهمة لعمله؟» وفقًا له، يتطلب ذلك شجاعة حقيقية لمواجهة التحديات، سواء كانت نفسية أو اجتماعية. كما يُرشد الممثلين إلى كيفية تجاوز هذه العقبات، مع التأكيد على أهمية حماية المسرح كمساحة مقدسة تحتضن الإبداع والابتكار.

يُؤكد ستانسلافسكي أيضًا على ضرورة اقتلاع الصفات السلبية من جذورها النفسية، مثل التفاخر، والسعي وراء الشهرة، والتكريمات، والجوائز، والتعالي. وينطلق من هذا المفهوم ليطرح سؤالًا أساسيًا على طلابه:

«هل يمكن فعل ذلك حقًا؟»

وتأتي الإجابة حاسمة: «نعم.»

ثم يُقدم تورستوف الطرق التي يمكن من خلالها تنقية الحالة النفسية والروحية للممثل من هذه الصفات السلبية. يؤكد ستانسلافسكي على أهمية قدرة الممثل على التحكم في مشاعره وعواطفه وسلوكياته، والتفكير بعمق في القيم الملهمة والنبيلة.

الحرية الجماعية مقابل الفردية

يقدم النص رؤية فلسفية لدور الفرد داخل الفضاء المسرحي، مشددًا على أهمية النقاء الروحي، والاحترام المتبادل، والتفاؤل، والإخلاص باعتبارها أساسيات لا غنى عنها لبناء بيئة إبداعية. “لا يمكن لمخرج واحد أن يعمل لصالح الجميع – فالممثل ليس دمية”

ويترتب على ذلك أن كل ممثل ملزم بتطوير ملكته الإبداعية وتقنياته. إنه ملزم بالإبداع بالمشاركة والتعاون مع الجميع”

أيضًا في حياته الخاصة.

يقدّم «كتاب الأخلاق» رسالة عميقة حول دور جميع أعضاء الفريق المسرحي في خلق لوحة متكاملة للإبداع. من خلال التركيز على الاحترام المتبادل، والتضحية، والشعور بالمسؤولية، يوضح النص كيف يمكن للبيئة المسرحية الإيجابية أن تُعيد تشكيل القيم الأخلاقية والروحية لأولئك العاملين ضمنها.

إذ تؤثر الأفكار والسلوكيات الفردية بشكل مباشر على المناخ العام للإبداع المسرحي. وهذا يُلزم الفنان بالتصرف بكرامة واحترام سواء داخل المسرح أو خارجه، مع الحفاظ على اسمه وسيرته في حياته الشخصية والمهنية على حد سواء.

نداء للأخلاقيات المسرحية

الأخلاقيات المسرحية نداء موجه لكل ممارس مسرحي يعمل بوعي وإخلاص لخلق بيئة ملائمة للإبداع والابتكار. كما تُظهر كيف يمكن للتغييرات الفردية والجماعية أن تُحدث فرقًا كبيرًا في البيئة المسرحية.

يجب أن يستند العمل الجماعي والديناميكية داخل المسرح إلى التنظيم، والانضباط، والقيم الرفيعة. لهذا السبب، يُعيد ستانيسلافسكي التأكيد على مجموعة من النقاط الجوهرية:

التنظيم والعمل لتحقيق الأهداف الفنية:

التنظيم والانضباط ليسا فقط لبناء الهيكل العام للإنتاجات، بل هما ضروريان أيضًا للهدف الفني. يوضح ستانسلافسكي أن الاحترام الحقيقي للفن يجب أن ينبع من الداخل، أي من ذوات الممثلين أنفسهم، وليس من الخارج.

الصراعات والغيرة بين الممثلين:

يرى ستانسلافسكي أن التوتر والغيرة غير الصحية داخل الجماعة المسرحية مشكلة مدمرة، مشيرًا إلى أن البعض يحاولون إقصاء الآخرين، حيث يُنظر إلى نجاح البعض على أنه تهديد لمكانتهم. هذا الشعور التنافسي السام يخلق بيئة مختلة داخل الفرقة المسرحية. و”يجب تذكير أولئك غير الراضين عن حجم أدوارهم، أنه لا توجد أدوار صغيرة، بل ممثلين صغار فقط”.

التعلم المستمر:

يركز ستانسلافسكي على قيمة التعلم المستمر والتدريب المتواصل والاستفادة من تجارب الأساتذة الكبار، خاصة للممثلين الشباب. ويشمل ذلك:

التعلم من الآخرين:

يشجع ستانسلافسكي الممثلين الشباب على التعلم من أصحاب الخبرة والقدرات الكبيرة، مؤكدًا أن كل شخص لديه شيء يقدمه، بغض النظر عن مكانته أو شهرته.

قبول النقد بصدر رحب:

يدعو ستانسلافسكي الفنانين إلى تقبل النقد بروح إيجابية، لأن النقد البنّاء يمثل مصدرًا غنيًا للنمو والتطور المسرحي.

التمييز بين التوجيهات المفيدة والضارة:

يجب على الممثل أن يكون قادرًا على التمييز بين التوجيهات المفيدة والضارة. يرى ستانسلافسكي أن الاستفادة من التجارب المفيدة ليست عملية سهلة، بل تتطلب وعيًا وجهدًا كبيرين.

التعلم المستمر والقدرة على تقبل النقد يمثلان عناصر أساسية في تطوير الممثلين. هذه الرؤية تتطلب مرونة وانفتاحًا على الآراء المختلفة.

التفكير النقدي والإبداعي

يدعو ستانسلافسكي إلى التفكير النقدي، معتبرًا أن هذه الطريقة فعّالة لتمييز الأفكار القيمة عن غيرها. ويؤكد أن على الفنان أن يعرف ما يجب أن يتبناه وما يجب أن يتجاهله، وكيف يمكنه الموازنة بين الجمال والتفاهة.

يستشهد ستانسلافسكي بكلمات أوسكار وايلد: “الفنان إما رجل دين أو مجرد مهرج.”

التمييز بين الجودة  والرداءة في الفن

يقول ستانسلافسكي: “على مدار الحياة، احفر في فكرك نفقًا يميز بين الرديء والجيد، وبين الجمال والزيف في فننا.”

كثير من الممثلين يكرّسون حياتهم لخدمة الرداءة دون وعي منهم، لأنهم يفتقرون إلى إدراك التأثير الحقيقي لأدائهم على المتلقي.

“ليس كل ما يُعرض على خشبة المسرح يُعد فنًا راقيًا؛ فالسطحية وغياب المبادئ الفنية أصبحا من أبرز أسباب تراجع مستوى المسرح، سواء على المستوى المحلي أو العالمي. هذه العوامل تُعيق المسرح عن بلوغ مكانته الرفيعة التي يستحقها”.

Моя жизнь в искусстве: Константин Сергеевич Станиславский

Работа актёра над собой: Константин Сергеевич Станиславский

Этика: Константин Сергеевич Станиславский

 

عن: مجلة المسرح (العدد:63 / فبراير2025)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت