“أعاود نوعاود”: أول عرض لمسرح الشارع بالأمازيغية في المغرب – تفكيك الفضاء وإعادة الحكي/ هاجر بوشامة
![](https://www.alfurja.net/wp-content/uploads/2025/02/alfurja-makal-amazegh-1024x1024.jpg)
يشكل العرض المسرحي “أعاود نوعاود”، الذي يحمل توقيع المخرج والممثل وليد المعروفي، لحظة فارقة في تاريخ المسرح المغربي، ليس فقط لكونه أول عرض لمسرح الشارع بالأمازيغية في المغرب، ولكن أيضًا لما يحمله من رؤى جمالية وفكرية تعيد مساءلة العلاقة بين الفضاء، النص، والجمهور، يشارك في الأداء كل من الممثل معتصم واسوا، الممثلة سكينة جعطيط، والموسيقي عبد السلام الحمداني، في تجربة تستند إلى الحكي وإعادة الحكي، حيث يصبح المشهد مساحةً لإعادة بناء الذاكرة الجمعية عبر خطاب مزدوج، خطاب يوجه إلى الجمهور مباشرةً، وآخر ينبثق من الصراع الداخلي للشخصيات.
تبدأ المسرحية بأسلوب غير تقليدي، وبمشهد بصري غير مألوف، لا إظلام، لا ستارة ترفع، بل مشهد تُرسم ملامحه عبر الأداء، فمنذ اللحظة الأولى، لا تتوسل المسرحية سلطة الخشبة المغلقة، بل تقتحم الوعي الجمعي بصيغة خطاب مباشر، تصدح سكينة جعطيط (المقدمة) بصوتها في الفراغ، معلنة بداية العرض، بينما الموسيقي (عبد السلام الحمداني) يعزف على القيثارة، أما الممثلان (وليد المعروفي ومعتصم واسوا)، فيقفان فوق سطح بناية، كأنهما في انتظار لحظة الهبوط، في حالة من الترقب المعلق بين العلو والانخفاض، بين العزلة والرغبة في الانخراط، يأتي صوت الممثلة كدعوة للجمهور، وتبدأ المسرحية بتحطيم الجدار الرابع بين الممثلين والجمهور، فلا فاصل بين من يؤدي ومن يشاهد، بل هناك دعوة مباشرة للحضور في المشهد، ليس بوصفهم متفرجين، بل بوصفهم جزءًا من الفعل المسرحي ذاته، تبدأ المقدمة: “مرحبا بيكوم معانا… ليوم جبنا ليكوم فراجة… غانتفرجو فيكوم او غاتفرجو فينا… غانشكيو عليكوم همنا او غاتشكيو علينا همكم…” (مرحبا يسون أكيدنخ… أسا نداد غيرون سرلفراجت… ذانفرج ديكون ترفجم ذيكنخ… أنشكو غيفون الهم نخ تشكوم غيفنخ الهم النون…)
إنها ليست مجرد تحية أو خطاب عادي، بل هو إعلان دخول الجمهور إلى مساحة درامية تتحول فيها التجربة إلى لقاء مباشر بين الإنسان والإنسان، إنه خطاب مباشر، حميمي، يزيح الفواصل بين الممثلين والمتفرجين، ليجعل العرض يبدو وكأنه لقاء ضروري، إنها لحظة مواجهة مع الواقع، حيث تتكرر الأحداث وتعيد إنتاج نفسها.
وما إن تنتهي المغنية من غنائها حتى يهبط الممثلان من السطح، فنزول الشخصيات من “العلو” إلى “الأرض”، من المسافة المجازية إلى التماس الحي مع الجمهور، كأنها إعادة تشييد للحكاية من الأعلى نحو الأسفل، من المتخيل إلى الواقعي، هنا يتحقق جوهر مسرح الشارع، حيث لا تبقى الشخصيات محصورة في فضاء مغلق، بل تندمج ضمن النسيج الاجتماعي، في عملية تفكيك رمزي للحدود بين المسرح والحياة.
يظهر الممثلان كأنهما ينزلان من عالم آخر إلى ساحة الصراع، في حركة جسدية تعكس رمزية الهبوط نحو الواقع، نحو العمق، نحو المواجهة المباشرة، هنا تبدأ ديناميكية جديدة، حيث الجدال بين الشخصيات لا يكون مجرد صراع كلامي، بل يتحول إلى تمثيل حي للواقع، تتداخل الهويات، وتتشكل الأسئلة، ويُعاد اختبار المعاني.
يكتسي الميكروفون في العرض المسرحي “أعاود نوعاود” وظيفة تتجاوز مجرد التضخيم الصوتي، إذ يتحول إلى أداة سلطوية تمنح الكلمة هيمنة خاصة، تضفي على الخطاب بعدًا جماهيريًا مؤثرًا، فالميكروفون لا يُستخدم هنا فقط لنقل الصوت، بل ليخلق ديناميكية جديدة بين الممثلين والجمهور، حيث يصبح الصوت أكثر حضورًا، والخطاب أكثر اختراقًا للوعي.
في هذا العرض، يُلاحظ أن الميكروفون يُوظف بأسلوب متباين، تارة يُستخدم لإبراز أصوات الشخصيات حين تريد فرض موقفها أو إيصال فكرة معينة، وتارة يُترك جانبًا في لحظات الصراع أو الحوار، مما يخلق نوعًا من التوتر بين ما يُقال علنًا أمام الميكروفون، وما يقال بعيدا عنه، هذه التقنية تدفع إلى التفكير في العلاقة بين الصوت والسلطة، حيث يكتسب من يملك الميكروفون نفوذًا أكبر، بينما يصبح الآخر في موقع المتلقي أو المغيب.
إن توظيف الميكروفون في بعض اللحظات قد يعكس مفارقة رمزية، فالشخصيات تتحدث عبره، لكنها قد لا تجد صدى حقيقيًا لكلماتها، وكأن السلطة التي يمنحها الصوت تبقى شكلية، غير قادرة على تغيير الواقعن وهذا يعكس إشكالية أعمق تتعلق بالخطاب في الفضاء العمومي، حيث يكون امتلاك الصوت أحيانًا مجرد وهم في ظل صخب العوالم الأخرى التي تفرض سطوتها دون حاجة إلى تضخيم ميكانيكي للصوت.
بالتالي، يتحول الميكروفون إلى رمز مزدوج، فهو من جهة وسيلة لإيصال الأفكار وتعزيز تأثير الخطاب، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن هشاشة الكلمة إذا لم تكن مدعومة بفعل حقيقي، ليصبح السؤال الجوهري في المسرحية، هل يكفي أن نتحدث بصوت عالٍ لنحدث تأثيرًا، أم أن التغيير يتطلب ما هو أبعد من مجرد تضخيم الصوت؟
يختلف مسرح الشارع عن الحلقة رغم تقاطعهما في بعض الآليات السردية، فبينما ترتكز الحلقة على شخصية “الحلايقي” كراوٍ مركزي، يعتمد مسرح الشارع على تعددية الأصوات، حيث لا تقتصر الحكاية على راوٍ واحد، بل تتوزع بين الشخصيات، ما يسمح بتداخل أكثر تعقيدًا بين الذوات المختلفة، إضافة إلى ذلك، فإن الحلقة تحافظ على بنية دائرية، حيث يكون الجمهور ملتفًا حول المؤدي، في حين أن مسرح الشارع، كما في “أعاود نوعاود”، يكسر هذه الدائرة ليخلق فضاءً مفتوحًا، حيث تتحرك الشخصيات والجمهور ضمن نسيج ديناميكي غير ثابت.
العنوان نفسه، “أعاود نوعاود”، ليس مجرد إحالة على فعل التكرار، بل هو إعلان عن رفض السكون، عن الرغبة في إعادة الحكي، ليس بنفس الشكل، بل بصيغة جديدة، كأن المسرحية تقول إن الحكي المتجدد هو السبيل الوحيد لكسر دوائر التكرار القاتل، وإن إعادة عرض القضايا لا تعني استعادتها كما هي، بل تفكيكها، إعادة النظر فيها، ومنحها زوايا أخرى للفهم.
يمثل العرض المسرحي “أعاود نوعاود” تجربة فريدة في المسرح المغربي، حيث يسعى المخرج والممثل وليد المعروفي من خلاله إلى تجاوز الشكل التقليدي للمسرح، ليقترب من فنون الشارع، ليس كخيار جمالي فقط، بل كفعل مقاومة ثقافية، إن استخدام الأمازيغية في سياق مسرح الشارع يطرح سؤالًا حول الهوية واللغة، إذ لم يعد المسرح الأمازيغي مقيدًا بالخلفية الفلكلورية، بل أصبح قادرًا على استيعاب أنماط تعبيرية حداثية، تُعيد النظر في العلاقة بين الشكل والمحتوى، وبين الحكي والمسرحة، وبين الجمهور والخشبة المفتوحة على العالم.