مسرح العبث في زمن الانهيار/ د.عماد هادي الخفاجي

على خشبة  التياترو، حيث يتماهى الضوء بالظل، وحيث لا يُقدَّم المسرح بوصفه ترفاً جمالياً، بل كفعل اختراق وتشريح، يأتي توفيق الجبالي ليعيد صياغة الفوضى في مسرحيته “التابعة” ليس بوصفها عرضاً مسرحياً عادياً، بل كطقس درامي مشحون بالهواجس والأسئلة، كمرآة تعكس انهيار الفرد والمجتمع، وفضاء مفتوح على الاحتمالات كافة، حيث يُعاد تشكيل الواقع من خلال العبث والكوميديا السوداء، فلا المسرح هنا منصة للسرد التقليدي، ولا الشخصيات تحمل ملامح مكتملة، بل هي كائنات مسكونة بالخذلان، بلا مسارات واضحة أو نهايات حاسمة، مجرد حالات إنسانية تتصارع مع الفراغ والزمن والانكسارات المتكررة، محاصرة بهواجسها، تتحدث بلا يقين، كما لو أن الحديث ذاته صار قدراً لا مهرب منه. هنا، لا يطرح الجبالي شخصيات تتطور أو حكايات تتقدم وفق منطق السرد المسرحي التقليدي، بل يقدم عالماً قائماً على المتتاليات والتفكك، حيث يصبح كل شيء مفتوحاً على العبث، وحيث يُدفع المتلقي دفعاً إلى قلب الدوامة، دون أن يجد خيطاً روائياً يمنحه الوضوح أو الحلول الجاهزة.

المسرحية لا تسعى إلى تقديم إجابات، بل إلى طرح الأسئلة المقلقة، تلك التي تنبع من هشاشة الإنسان في مواجهة الخراب الجماعي، شخصياتها تائهة بين الماضي والمستقبل، محبوسة في دائرة لا نهائية من التكرار، حيث يُبتذل المعنى وتتحول اللغة إلى مجرد صدى أجوف، النساء في المسرحية لا يتحدثن لمجرد الحديث، بل يعكسن فكرة أوسع عن الاغتراب داخل الذات وخارجها، عن كيف يصبح الكلام حاجزاً يحجب الحقيقة بدلاً من أن يفضحها، وعن كيف يمكن للثرثرة أن تتحول إلى قيد، بدلاً من أن تكون وسيلةً للتعبير عن الذات. لا حكايات مكتملة هنا، بل مشاهد متشظية، متوترة، مشبعة بالدلالات البصرية، حيث السينوغرافيا ليست مجرد ديكور، بل هي عنصر درامي مستقل، يتحرك ويتغير ويتنفس مع الشخصيات، كأنه انعكاس مباشر لحالاتها النفسية المتقلبة، فالإضاءة ليست مجرد عامل تقني، بل لغة قائمة بذاتها، تتقاطع وتنزاح وتتلاشى في لحظات معينة لتخلق فضاء مشحوناً بالتوتر والتناقضات، السواتر والستائر تلعب دوراً مزدوجاً، فهي من جهة جدران عازلة تفصل الشخصيات عن واقعها، ومن جهة أخرى تتحول إلى مشانق رمزية تتهاوى في لحظة الانفجار الدرامي، وكأنها تعلن عن سقوط جديد في دائرة الانهيارات المتكررة.

لا يتوفر وصف.

على امتداد العرض، يتحول المسرح إلى فضاء أشبه بلوحة تشكيلية غرائبية، حيث تتجسد الشعرية في العتمة والضوء، في الظلال التي تتحرك كما لو أنها كيانات مستقلة، في الديكور الذي لا يُقدَّم بوصفه مجرد خلفية، بل كجزء من الصراع الوجودي الدائر على الخشبة. لا مجال هنا للإبهار البصري المجرد، ولا مكان للزخرفة المسرحية، بل كل تفصيل في المشهدية يخدم الفكرة العامة: العالم مكان مهجور، الزمن متوقف، والخلاص، إن وجد، يبدو بعيداً ومراوغاً. الجمهور يُترك في حالة من الارتباك المقصود، إذ لا شيء يُقدَّم بشكل مكتمل، ولا إجابات تُمنح بسهولة، بل يُدفع المتلقي إلى مواجهة الفوضى كما هي، دون رتوش أو تهذيب، ليجد نفسه في النهاية أمام مرآة تعكس عبثية الوجود.

وعند النقطة التي يبدو فيها كل شيء غارقاً في الفوضى، يقلب الجبالي المشهد رأساً على عقب، فتتهاوى الستائر، ينهار الديكور، ويصبح المسرح ساحةً لانهيار جماعي، يذكرنا بتلك اللحظات التاريخية حيث تتحول الأحلام الكبرى إلى خيبات، وحيث تُبتذل الثورات، وحيث يصبح الأمل في التغيير مجرد وهم يتآكل مع الزمن. لكن، وكعادته، لا يمنحنا الجبالي إجابة نهائية، بل يترك المشهد الأخير مفتوحاً على كل التأويلات: هل ما نشاهده هو انتحار جماعي أم لحظة قيامة جديدة؟ هل هو سقوط تام، أم تمهيد لبداية أخرى؟ لا يمكن الجزم، تماماً كما لا يمكن الجزم بمصير المجتمعات التي تعيش في دوامة العبث والتكرار.

بعد هذا العرض، لا يمكن النظر إلى التابعة بوصفها مجرد تجربة مسرحية عابرة، بل هي شهادة درامية حية عن الأزمات الوجودية التي تعصف بالفرد والمجتمع في زمن الانهيارات الكبرى، محاولة فنية تعيد تعريف دور المسرح، ليس كأداة للترفيه، بل كمساحة للتشريح والمواجهة، وكصيحة اعتراض ضد العبث واللامبالاة، فالجبالي هنا لا يمنح الجمهور متعة سهلة، بل يدفعه إلى التفكير، إلى إعادة النظر في المسلمات، إلى مواجهة الأسئلة التي يحاول الجميع التهرب منها، ليؤكد لنا مرة أخرى أن المسرح الحقيقي لا يقدم إجابات جاهزة، بل يترك الجروح مفتوحة، كي تبقى الحاجة إلى الفهم قائمة، وكي يظل السؤال أكبر من أي محاولة للإجابة.

عن: جريدة الصحافة التونسية (صادرة بتاريخ: 8 فبراير 2025)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت