المدينة المنورة الأسبق خليجيا في عرض أول مسرحية عام 1910 / أ.د/ سيد علي إسماعيل (كلية الآداب – جامعة حلوان)
(دراسة منشورة في مجلة (كواليس) الإماراتية – عدد 39 -فبراير 2015)
معظم الدراسات المسرحية الخليجية القديمة– في شبه الجزيرة العربية – أجمعت على أن مملكة البحرين هي الأسبق خليجياً في عرض أول مسرحية مدرسية عام 1925، عندما عرضت مدرسة الهداية الخليفية مسرحية (القاضي بأمر الله)! أما الدولة الخليجية الثانية، فكانت الكويت من خلال عرض مدرسة المباركية لمسرحية (إسلام عمر) عام 1939. وظل هذا الاعتقاد – أو الإجماع – حتى وقت قريب؛ حيث اكتشفت الدراسات الحديثة نصاً مسرحياً كويتياً منشوراً عام 1924 في بغداد لمسرحية (المحاورة الإصلاحية) تأليف عبد العزيز الرشيد، ويُقال إن هذه المحاورة عرضتها المدرسة الأحمدية في الكويت عام 1922 أو عام 1924! وهذا الاكتشاف جعل الكويت هي الأسبق في هذا المضمار!
وربما عرض المحاورة يُطعن في مصداقيته؛ بوصف النص محاورة وليست مسرحية! أو بسبب التضارب في تاريخ العرض هل هو 1922 أو 1924، ناهيك عن عدم وجود النص بين أيدينا، وعدم حماس المختصين – الذين اكتشفوه – بنشره مرة أخرى، والاكتفاء بالحديث عن صورة منه، مصورة عن أصل محفوظ في أحد مكتبات بغداد منذ عام 1924 .. إلخ! لذلك ستظل الأسبقية متأرجحة بين البحرين والكويت .. أيهما الأسبق في عرض أول مسرحية مدرسية؟!
في هذه الدراسة، سأحسم الأمر بين الدولتين في هذا المضمار، وأقول: لا البحرين أسبق .. ولا الكويت أسبق .. بل الأسبق خليجياً (المدينة المنورة)!! حيث إنها أول مدينة في الجزيرة العربية تعرضمسرحية جماهيريةداخل مدرسة عام 1910 .. ولا أظن أن هناك دولة خليجية تستطيع أن تأتي بدليل على أسبقيتها في العروض المسرحية قبل عام 1910 .. هذا هو اكتشافي المسرحي الجديد .. وإليكم التفاصيل!!
يعقوب لنداو والمسرح الخليجي
في عام 1958 أصدر يعقوب لنداو (Jacob Landau) كتاباً بالإنجليزية عنوانه (STUDIES IN THE ARAB THEATER AND CINEMA). وهذا الكتاب ترجمه أحمد المغازي ونشره في مصر عام 1972 تحت عنوان (دراسات في المسرح والسينما عند العرب). والحق يُقال: إن هذا الكتاب هو أول كتاب عن المسرح العربي باللغة الإنجليزية منشور في الغرب، ويُعد حتى الآن المرجع الرئيسي لأغلب الدراسات الأجنبية حول المسرح العربي! وبالرغم مما فيه من أخطاء تاريخية – وخلط بعض الأمور بصورة غير منطقية – إلا أن ترجمته العربية، أصبحت مرجعاً مهماً في كتاباتنا العربية حول المسرح العربي وتاريخه.
وفي هذا الكتاب تحدث المؤلف عن بدايات المسرح العربي في لبنان وسورية ومصر بصورة تفصيلية، ثم تحدث إجمالاً عن بدايات المسرح في بقية البلاد العربية تحت عنوان (المسرح العربي في البلاد الأخرى). وفي هذا الإجمال خصّ البلدان الخليجية بصفحة واحدة، قال فيها الآتي في ص(179):
“وفي المملكة العربية السعودية واليمن، كما في الإمارات العربية الأخرى، نجد أن الشعور الديني، لا يزال يقبض على مجريات الأمور، بإحكام شديد، إلى حد أن المسرحيات لا تزال تؤدى فيما يندر جداً، وينهض بها الهواة وحدهم، وقد حدث في عام 1910، عندما نظمت إحدى المدارس الصناعية، بجدّة، إقامة عرض مسرحي، يخصص إيراده لأغراض الإحسان، حدث – أن أثار هذا عجباً كبيراً .. وبدا آنذاك أن هذه المحاولة لن تكون لها لاحقة. (وكانت المسرحية تتحدث عن أهوال الحكم الاستبدادي وجوره. ومزايا الحكم الدستوري وما ينتظر منه من نفع، في ظلال من روح العصر) [وهنا وضع المؤلف هامشاً رقمه 318]. وحتى عندما حاول كاتب من المملكة العربية السعودية، ونعني هنا بالذات علي أحمد باكثير (وهو الذي حقق شهرة واسعة بعد ذلك، بخصوبة إنتاجه ككاتب مسرحي)، أن يكتب مسرحيته الأولى، كان عليه أن يصدرها في القاهرة 1934، وكان اسم هذه المسرحية (همام أو في عاصمة الأحقاف). وقد نُظر إلى هذه المسرحية على أنها شيء خطير في الموطن الأصلي للمؤلف. ولم يكن هذا فقط، بسبب قالبها المسرحي الذي وضعت فيه، ولكن لأنها أيضاً كانت تدعو إلى التعليم العام للمرأة العربية، التي بسبب أميتها، يفسر لنا المؤلف: لماذا يعيش أهل بلده في هذا المستوى الهابط”.
الشك في المعلومة
هذا الكلام قرأه كل أجنبي في نسخة الكتاب الإنجليزية منذ عام 1958، كما قرأه كل عربي في نسخة ترجمة الكتاب إلى العربية منذ عام 1972. وكل من قرأ هذا الكلام حكم عليه – كما تحكم أنت عليه الآن أيها القارئ – بأنه كلام غير صحيح والخلط فيه واضح وجلي؛ لأن المؤلف يتحدث عن علي أحمد باكثير بوصفه أشهر كاتب مسرحي في المملكة العربية السعودية، والمعروف أنه (يمني)! وهذا الخلط جعل القارئ لا يثق في مصداقية بقية كلام المؤلف عن المسرح في دول الخليج العربية، وتحديداً زعمه بأن إحدى المدارس الصناعية في (جدّة) أقامت عرضاً مسرحياً عام 1910، لذلك لم يلتفت أي باحث إلى هذه المعلومة، وحكم عليها بالخطأ دون دراستها أو التحقق من مصداقيتها! هذا من جانب، ومن جانب آخر سيقول هذا الباحث في خاطره: من المؤكد أن الباحثين السابقين تأكدوا من خطأ المعلومة، فلم يهتموا بها، لذلك سأتجنبها ولم أهتم بها أنا أيضاً!
الطريف في الأمر أن من سيحاول التحقق من هذه المعلومة سيتعجب من المرجع، الذي اعتمد عليه المؤلف في كتابتها! فالهامش الذي وضعه عند هذه المعلومة، وهو الهامش رقم (318)، كتب فيه المؤلف الآتي: “انظر (R.M.M) – جريدة العالم الإسلامي – بالفرنسية – مجلد 12 –1910م– ص 306و307 – نقلاً عن جريدة (المؤيد)، عدد 19 مارس 1910″.
وأي باحث سيقرأ هذا الهامش سيتأكد من صعوبة الوصول إلى هذه المصادر أو المراجع، ولن يكون أمامه إلا أحد طريقين: الأول، تجنب المعلومة نهائياً وكأنه لم يقرأها، مستنداً إلى كثرة أخطاء الكتاب، وخلط المؤلف بين السعودية واليمن،واعتبار باكثير مؤلفاً سعودياً، وهذا الطريق سلكه معظم الباحثين حتى الآن. أما الطريق الآخر، فهو اعتماد المعلومة بوصفها معلومة صحيحة أو خاطئة، وهذا الطريق لم يسلكه أي باحث حتى الآن – حسب علمي – لأن سلوك الباحث هذا الطريق، يستوجب منه التحقق من صحة أو خطأ المعلومة عن طريق البحث في المراجع والمصادر المذكورة، وهو الأمر الذي لم أجده عند الباحثين حتى الآن!!
وإحقاقاً للحق سرت أنا في الطريق الأول ضمن من تجنبوا المعلومة نهائياً، ولم أفكر في الطريق الثاني إلا منذ عام تقريباً، عندما كنت مكلفاً – من قبل أحد الأندية الأدبية السعودية – بإلقاء بحث حول عالمية المسرح السعودي. وعندما شرعت في التحضير لهذا الموضوع، بدأت بكتابيعقوب لنداو، بوصفه أول كتاب أجنبي ذكر المسرح في السعودية، حتى ولو عن طريق الخلط بين السعوديةواليمن. وهنا استوقفتني معلومة العرض المسرحي في جدّة عام 1910، فقررت أن أسير فيالطريق الثاني .. طريق البحثوالتحقق من صواب أو خطأ هذه المعلومة!
مجلة العالم الإسلامي الفرنسية
كان اعتماد يعقوب لنداو في معلومة العرض المسرحي على مرجع أجنبي رمز له بهذه الحروف (R.M.M). وفي قائمة مصادر ومراجع الكتاب، وجدت هذه الحروف اختصاراً لعنوان مجلة (Revue du Monde Musulman)، أي (مجلة العالم الإسلامي)، وهي مجلة فرنسية، واعتمد عليها المؤلف في مجلدها الثاني عشر عام 1910. ومع العودة إلى هامش المؤلف وجدته يقول عن المجلة الفرنسية: “نقلاً عن جريدة (المؤيد)، عدد 19 مارس عام 1910″. أي أن المؤلف يعقوب لنداو، نقل معلومة العرض المسرحي الذي أقيم في جدّة عام 1910 من مجلة العالم الإسلامي الفرنسية الصادرة عام 1910، التي كتبت المعلومة نقلاً عن جريدة (المؤيد) المصرية في عددها المؤرخ في 19/3/1910. إذن أساس المعلومة هو جريدة (المؤيد) لا مجلة العالم الإسلامي الفرنسية، التي اعتمد عليها لنداو!! أي إن يعقوب لنداو لم ينقل عن جريدة (المؤيد) – المصدر الأول للمعلومة – ونقل بالوساطة من المرجع الفرنسي، الذي اعتمد على جريدة المؤيد!! إذن الوصول إلى عدد جريدة (المؤيد) المصرية بتاريخ 19 مارس 1910 سيحسم الأمر!!
ذهبت إلى دار الكتب المصرية، وبحثت في قسم الدوريات – وما أدراك صعوبة البحث في هذا القسم – ووصلت إلى بعض أعداد من جريدة (المؤيد) – المفقود أغلب أعدادها – في عام 1910، ووفقني الله أخيراً في الحصول على العدد المطلوب المؤرخ في 19 مارس 1910؛ فالتهمت جميع صفحاته بعناوينها وسطورها وكلماتها وحروفها .. فلم أجد شيئاً عن العرض المسرحي الذي عرضته إحدى مدارس جدّة! ولم يبق أمامي سوى مجلة العالم الإسلامي الفرنسية (Revue du Monde Musulman)؛ كي أتحقق بنفسي أنها ذكرت خبر هذا العرض المسرحي، وأنها بالفعل نقلته من جريدة (المؤيد)!!
بعد عناء كبير جداً حصلت على جريدة العالم الإسلامي الفرنسية، ووصلت إلى السنة المطلوبة والصفحات المقصودة في مجلد عام 1910، فماذا وجدت؟! وجدت تحت عنـــوان (A Médineالمدينة المنورة) عشرة أسطر باللغة الفرنسية، تحكي – على لسان محمود علي شويل – عن عرض مسرحي أُقيم في المدينة المنورة – وليس في جدّة – أقامته لجنة الاتحاد والترقي في إحدى المدارس الصناعيةبرئاسة طاهر بك، والعرض يتحدث عن الحكم الاستبدادي قبل إعلان الدستور، ودخول الجمهور كان على درجات ثلاث، واستغرق العرض ثلاث ساعات، لأنه عرض خيري بمقابل مادي .. إلخ الموضوع المنشور بالفرنسية،وهذا نصه:
A Médine. Mahmoûd ‘Ali Showayl raconte au Moayyad (19 mai) deux fêtes récentes. L’une, la “première représentation théâtrale ” (sic) qu’ait vue la ville du Prophète, qui ne l’avait sans doute pas prévue. Le comité local ” Union et Progrès ” sous la présidence de Tâhir Bey, directeur de l’École professionnelle, fit jouer une pièce sur les horreurs du Despotisme et les splendeurs de la Constitution. Premières places, I guinée par tète; deuxièmes et troisièmes, ” moins ” (sic). Après trois heures de spectacle, les spectateurs se retirérent, poliment enthousiasmés de la troupe improvisée, et 200 guinées restèrent au bénéfice de l’École. “Qu’Allah recompense les gens de bien au mieux de ses recompenses …”.
جريدة المؤيد والاكتشاف التاريخي
وبناءً على النص الفرنسي، يتضح لنا أن الخبر صحيح؛ ولكن تاريخه هو الخطأ!! فالمجلة الفرنسية نقلت الموضوع من جريدة (المؤيد) عدد 19 مايو 1910، وليس 19 مارس كما كتب يعقوب لنداو!! فعدت إلى دار الكتب مرة أخرى، لأجد عدد 19 مايو غير موجود ضمن الدوريات الورقية؛ ولكنه موجود على (ميكروفيلم)!! وعانيت الأمرين حتى حصلت على صورة العدد، وبالتالي حصلت على الاكتشاف التاريخي، وهو خبر العرض المسرحي المنشور في الصفحة الأولى من الجريدة، هكذا:
المدينة المنورة
في 1 جمادى الأولى سنة 1328
لمراسلنا الفاضل
التمثيل في المدينة المنورة
لأول مرة
” أراد فرع جمعية الاتحاد والترقي عندنا إحياء ليلة خيرية في منتداه، وأن يخصص ريعها لمدرسة الاتحاد الصناعي، فاختاروا رواية تمثل حال الدولة على عهد الاستبداد وطرز الحكومة في ذلك الوقت، ثم كيف أعلن الدستور في السلطنة العثمانية.وقد قسموا الدخول إلى ثلاث درجات. الدرجة الأولى بجنيه. والدرجتين التاليتين بأقل. وقد أجاد الممثلون في إلقاء أدوارهم وإن كانوا لم يسبق لهم معاناة هذا الفن من قبل. وكان في مقدمة المجيدين حضرة طاهر بك رئيس جمعية الاتحاد والترقي والمدرسة الصناعية، الذي سحر الحضور بأمر لم يسبق لأكثرهم مشاهدته من قبل. وكان الناس والأعيان كثيري العدد،يتقدمهم سعادة المحافظ الذي كان السبب لهذا العمل. وبعد ثلاث ساعات أرفض الجمع مسرورين شاكرين. وقد كان للمدرسة من هذه الرواية ستون جنيهاً، جزى الله أهل الخير خير الجزاء”.
ولأهمية هذا المقال – أو هذا الاكتشاف التاريخي– يجب التوقف عند عباراته بشيء من التحليل والتوضيح، من خلال عدة ملاحظات، وهي:
أولاً: أن العرض المسرحي تم بالفعل في المدينة المنورة يوم 10/5/1910 – أو قبله – والجهة التي قدمته هي فرع جمعية الاتحاد والترقي بالمدينة المنورة. مما يعني أن هذه الجمعية لها فروع أخرى في بقية المدن الخاضعة للحكم العثماني في الجزيرة العربية – وتحديداً في مدن المملكة العربية السعودية بحدودها الحالية–مما يفتح المجال للبحث عن عروض مسرحية أخرى تمّ عرضها في المدارس الخاضعة للجمعية في مدن أخرى غير المدينة المنورة. علماً بأن قادة جمعية الاتحاد والترقي – في ذلك الوقت – كانوا الحُكام الفعليين للدولة العثمانية، ولكافة البلاد الأخرى الخاضعة للحكم العثماني، بعد أن قاموا بإجبار السلطان عبد الحميد الثاني على إعلان الدستور عام 1908 – موضوع العرض المسرحي -ثم أجبروه مرة أخرى على التنازل عن الحكم إلى أخيه السلطان محمد رشاد أو محمد الخامس عام 1909!
ثانياً: لم يكن العرض المسرحي عرضاً مدرسياً؛ بل كان عرضاً جماهيرياً بمقابل مادي من خلال ثلاث درجات بسعر مختلفلكل درجة! وأقول جماهيرياً؛ لأن الخبر أشار صراحة إلى ذلك في قول: (وكان الناس والأعيان كثيري العدد، يتقدمهم سعادة المحافظ)!
ثالثاً: الممثلون في هذا العرض لم يكونوا من طلاب المدرسة الصناعية، وإلا كانت الجريدة ذكرت ذلك وأشادت بالطلاب، مما ينفي عن العرض صفة المسرح المدرسي، ويؤكد جماهيريته! والاحتمال الأرجح أن الممثلين، كانوا من شباب المدينة المنورة، أو من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي في المدينة المنورة، وهم من الهواة، وكان هذا العرض هو الأول لهم .. بدليل قول المراسل عنهم: (وقد أجاد الممثلون في إلقاء أدوارهم وإن كانوا لم يسبق لهم معاناة هذا الفن من قبل)!
رابعاً: على الرغم من أن جريدة (المؤيد) من أشهر الصحف في هذا الوقت، والموضوع منشور في الصفحة الأولى، وعنوانه مثير جداً – (التمثيل في المدينة المنورة لأول مرة) – إلا أن أحداً لم ينتبه إليه وإلى أهميته المسرحية والتاريخية إلا (مجلة العالم الإسلامــي Revue du Monde Musulman) الفرنسية!والسبب في ذلك راجع إلى أن العرض تمّ في المدينة المنورة، والنشر تم في مصر، أثناء انشغال جميع المصريين – وبالتالي جميع الصحف – بقضية اغتيال رئيس الوزراء (بطرس باشاغالي) على يد الطالب (إبراهيم ناصف الورداني) في فبراير 1910. وعندما تم العرض المسرحي في المدينة المنورة، كان الجميع في مصر – مكان نشر الخبر – يتابع في الصحف تحقيقات القضيةلمعرفة أسباب الجريمة! لذلك لم ينتبه أحد لهذا الخبر في حينه، ولا فيما بعد؛ لأن عام 1910 ارتبط في التاريخ المصري بحادثة الاغتيال هذه؛ بوصفها أول حادثة أشعلت الفتنة الطائفية في مصر بين المسلمين والأقباط!
خامساً: مراسل جريدة (المؤيد) في المدينة المنورة، الذي شاهد العرض وكتب عنه، هو (محمود علي شويل)، المعروف بالشيخ محمود شويل المدني(1885 – 1953م)، الذي قال عنه الزركلي في كتابه (الأعلام): “مدرس بالحرمين. مصري الأصل. مولده ووفاته في المدينة المنورة. قام برحلات طويلة إلى إسبانيا وتركيا وبخارى. وأذن له بالتدريس في المدينة (سنة 1327) فاستمر إلى آخر حياته. وولي نيابة القضاء. وكان من أهل الدعوة للإصلاح، معواناً لذوي العوز. له رسائل مطبوعة، منها (القول السديد في قمع الضال العنيد) و(منزلة الحديث في الدين)”.
مسرحية فتاة الدستور
لم يبق أمامنا حتى يكتمل هذا الاكتشاف التاريخي سوى معرفة اسم المسرحية التي تم عرضها؛ بناءً على قول الجريدة: ” فاختاروا رواية تُمثل حال الدولة على عهد الاستبداد وطرز الحكومة في ذلك الوقت، ثم كيف أعلن الدستور في السلطنة العثمانية”. وأول كلمة في هذه العبارة- (فاختاروا) – هي المفتاح!! لأنها تعني أن جمعية الاتحاد والترقي اختارت نصاً مسرحياً، كان جاهزاً من قبل، ولم يُكتب خصيصاً لعرض المدينة المنورة! ولو أضفنا إلى ذلك أن النص كان باللغة العربية – وليس بالتركية – بدليل حضور أهل المدينة المنورة – كما جاء في الخبر (وكان الناس والأعيان كثيري العدد) – كما أن الخبر حدد فترة العرض بثلاث ساعات؛ أي أن النص كبير الحجم!!وبناء على ذلك فنحن نبحث عن مسرحية مواصفاتها كالتالي:
1 – مكتوبة بين عامي 1908 و1910، أي بين عام إعلان الدستور العثماني، وبين عام عرض المسرحية في المدينة المنورة.
2 –أن تكون باللغة العربية، وكبيرة الحجم؛ لأن عرضها يستغرق ثلاث ساعات.
3 –أنها (مطبوعة/منشورة)؛ لذلك كان من السهل اختيارها من قبل الجمعية.
4 – يبدأ موضوعها في عهد الاستبداد، وينتهي بكيفية إعلان الدستور في السلطنة العثمانية.
وبالبحث – في عروض مصر المسرحية، بوصفها الأنشط مسرحياً في تلك الفترة – وجدت ثلاث مسرحيات من المحتمل أن تكون إحداها المسرحية المطلوبة: الأولى بعنوان (الدستور)، وأخبرتنا بها جريدة (الأخبار) يوم 28/8/1908، قائلة: “عزمت جمعية مرجريتا على إحياء حفلة كبيرة مساء يوم الثلاثاء في قاعة أعياد الإسكندرية تحت رعاية لجنة من العثمانيين. وسيمثل أعضاؤها رواية (الدستور).وهي ذات فصلين أنشأها حضرة الفاضل جورج منسى، وضمنها مشاهد يتجلى فيها جهاد العثمانيين وطلب الحرية والمساواة”.
وهذه المسرحية لا أظن أنها المسرحية التي عُرضت في المدينة المنورة؛ لأنها من فصلين – ولا أظن أن تمثيلها يستغرق ثلاث ساعات – كما أن موضوعها لا ينتهي بكيفية إعلان الدستور، كما نص خبر جريدة المؤيد على نهاية عرض المدينة المنورة! كما أنني لم أجد مسرحية عربية (مطبوعة/منشورة) بهذا الاسم، حتى يتم تداولها بين الناس، ويتم اختيارها في عرض المدينة المنورة.
المسرحية الثانية، كانت بعنوان (كيف ينال الدستور)، وأخبرتنا بها جريدة (المنبر) في 10/10/1908، قائلة:”نذكر القارئين بالليلة النادرة المثال التي سيحييها مجتمع التمثيل العصري الشهير مساء يوم الاثنين 10 الجاري في دار التمثيل العربي، تحت رعاية المحفل الأكبر الأورشليمي، فتمثل في تلك الليلة رواية (كيف ينال الدستور)”. وهذه المسرحية لم أجدها (مطبوعة/منشورة)، ولم يذكر الخبراسممؤلفها أو فكرتها أو موضوعها، مما يعني استحالة شهرتها وانتشارها، وبالتالي صعوبة تداولها أو اختيار نصها لعرض المدينة المنورة.
المسرحية الثالثة والأخيرة، كانت (فتاة الدستور)، وأخبرتنا بها جريدة (المؤيد) في 17/12/1908، قائلة: “نذكر أصحاب الغيرة الصادقة وأنصار الجيش العثماني برواية (فتاة الدستور)، التي تمثل مساء 22 الجاري في تياترو عباس تحت رعاية عطوفة أحمد جلال الدين باشا”. وبعد أسبوعين أعلنت جريدة (المقطم) في 6/1/1909 عن تمثيلها مرة أخرى، قائلة: “عزم حضرة الأديب نجيب كنعان مُكاتب [جريدة] البصير الأغر على تمثيل روايته (فتاة الدستور) مرة ثانية في تياترو الشيخ سلامة (دار التمثيل العربي) مساء 11 الجاري. ويذكر القارئ أن هذه الرواية مثلت أول مرة في تياترو عباس بحضور جمهور عظيم من أمراء وعظماء المصريين والعثمانيين”. وبعد شهر، أعلنت جريدة (الأخبار) في 12/2/1909 عن تمثيلها للمرة الثالثة، قائلة: يمثل في دار التمثيل العربي في هذا المساء رواية (فتاة الدستور) لمؤلفها الكاتب الفاضل نجيب كنعان. وقد أحرزت هذه الرواية من الشهرة بسبب الحوادث الخطيرة التي يشير المؤلف إليها. ما يجعلنا في غنى عن ترغيب الناس فى الإقبال على مشاهدة تمثيلها”.
وهذه الأخبار المنشورة حول مسرحية (فتاة الدستور)، تدفعنا إلى الاعتقاد بأنها المسرحية التي عرضت في المدينة المنورة؛ لأنها أشهر مسرحية تتعلق بالدستور العثماني، وتم عرضها ثلاث مرات في ثلاثة أشهر ضمن الفترة المطلوبة (1908 – 1910)! ناهيك عن اسم مؤلفها، وهو (نجيب كنعان) أحد أشهر كُتاب المسرح في تلك الفترة؛ فهو مؤلف مسرحية (معاناة الغرام) عام 1894، ومُعرب مسرحية (الطواف حول الأرض) عام 1905، ومُترجم مسرحية (اليتيمتين) عام 1927.
أما ما يجعلنا نتأكد بأنها المسرحية التي تم عرضها في المدينة المنورة؛ إنها مطبوعة ومنشورة باللغة العربية الفصحى في مصر عام 1908، وتقع في خمسة فصول، مما يعني أن عرضها على المسرح يستغرق ثلاث ساعات!كما أنها المسرحية الوحيدة المنشورة عربياً عن الدستور العثماني؛ مما يعني تداول وانتشار نصها المنشور بين الناس! ذلك النص الموجود حتماً مع أعضاء جمعية الاتحاد والترقي في المدينة المنورة!!
أما أكبر دليل يؤكد أن مسرحية (فتاة الدستور)، هي المسرحية التي عُرضت في المدينة المنورة، أن موضوعها يتطابق تماماً مع الفكرة التي نقلتها لنا جريدة (المؤيد) عن عرض المدينة المنورة، عندما قالت: إن الرواية (تمثل حال الدولة على عهد الاستبداد وطرز الحكومة في ذلك الوقت، ثم كيف أعلن الدستور في السلطنة العثمانية)! وهذا بالضبط ما تحكي عنه مسرحية (فتاة الدستور). وإليك عزيزي القارئ ملخصها كما هو منشور – تحت عنوان (رواية فتاة الدستور ذات خمسة فصول) – في الصفحة الأولى من نسخة المسرحية المطبوعة في مصر في أول أكتوبر 1908:
“يتضمن الفصل الأول منها سجن مدحت باشا منشئ الدستور في قلعة الطائف وخنقه فيها. والثاني كيفية وصول نعيه إلى عائلته مع وصيته وحزن عائلته عليه. والثالث اجتماع الأحرار في باريز برئاسة البرنس صباح الدين بك وتقريرهم إعلان الدستور بواسطة الجيش في 24 يوليو. والرابع اتحاد نيازي بك وأنور بك في سالونيك وإدارة الحكومة باسم الدستور. والخامس وصول تلغرافي حلمي باشا حاكم مقدونيا ونيازي بك وأنور بك إلى المابين وانعقاد مجلس الوزراء وتقريره إعلان الدستور بعد جدال طويل وكيفية فرار عزت باشا العابد وحيرة تحسين باشا باشكاتب المابين وتجمهر الشعب حول سراي يلديز وهتافه المستمر ووصول سماحة شيخ الإسلام وإعلانه إرادة جلالة السلطان وحلفه يمين المحافظة على الدستور”.
لماذا المدينة المنورة؟
لم يبق إلا طرح عدة أسئلة – حتى يكتمل هذا الاكتشاف المسرحي التاريخي – ومنها: لماذا قامت جمعية الاتحاد والترقي في المدينة المنورة بعرض مسرحية عن الدستور العثماني؟ ولماذا لم تعرضها في أية مدينة أخرى من مدن الجزيرة العربية، أو مدن المملكة العربية السعودية بحدودها الحالية؟ هل كانت المدينة المنورة ضد إعلان الدستور العثماني؟ هل كانت المدينة المنورة تفضل الوضع السياسي قبل إعلان الدستور؟ هل كان أهل المدينة المنورة لا يميلون إلى التحضر والمدنية، مما جعل جمعية الاتحاد والترقي تجبرهم على رؤية هذا التحضر في شكل مسرحية تعرض أمامهم ولأول مرة؟
هذه الأسئلة كلها .. وأكثر منها، وجدت الإجابة عليها في مقالة صغيرة منشورة تحت عنوان (المدينة المنورة) في الصفحة الأولى من جريدة (المؤيد) بتاريخ 28/5/1910، أي بعد تسعة أيام فقط من نشر موضوع تمثيل المسرحية؛ علماً بأن كاتبها –محمود علي شويل (مراسلنا الفاضل) – هو نفسه من كتب موضوع تمثيل المسرحية. ولأهمية هذه المقالة – فيما نحن بصدده – سأذكرها بنصها:
“المدينة المنورة في 27 ربيع الثاني لمراسلنا الفاضل. جاء في العدد 319 من جريدة (تصوير أفكار) التركية رسالة كلها طعن وسباب في أهل المدينة المنورة عامة. قال صاحبها (إن أهل المدينة أناس لا يرضخون لأوامر الدولة وهم متعصبون للاستبداد القديم). واستشهد على هذه الوصمة الشنعاء بما كان من رفض أهل المدينة المشروع الذي كان يريده محافظنا علي رضا باشا وهو تقسيم المدينة وتعيين مختارين وأيمة لها. ومما رمانا به مراسل تصوير أفكار أن المدنيين لا يحبون المدنية ولا الرقي الحديث وقد نسى هذا المسكين أنهم أول من استبشر بالدستور وأشد الناس احتفالاً به وسروراً. وكيف لا يكونون كذلك والدستور قد رفع عن عواتقهم أثقالاً جساماً طالما كانت تنهال عليهم كالكابوس في عهد عثمان فريد شيخ الحرم وأمثاله. ولما أيقنوا أن الدستور قاصم ظهر أمثال هؤلاء الجبارين كانت الزينة التي أقاموها للدستور لا تماثلها زينة أخرى. إن المدنيين ليسوا كما قال مراسل تصوير أفكار التركية همج أعداء للرقي. ولا يكون كذلك قوم اختارهم الله ليكونوا جيران حبيبه ورسوله الأعظم. وأول واجب يقوم به كل سلطان من سلاطين (آل عثمان) هو خدمة الحرمين الشريفين. وهو يعد انتسابه لخدمة بلدهم شرفاً له. وكذلك فعل سلطاننا الدستوري المحبوب السلطان محمد الخامس الذي لم يمس هذين البلدين بسوء بل زاد في احترامه لهما على العكس من هؤلاء الكتاب الذي نسمع لهم في كل يوم نغمة جديدة في سب جيران الله ورسوله. ولما قرأ أهل المدينة تلك الرسالة المنتشرة في جريدة تصوير أفكار بتوقيع (الرشاش) هاج هائجهم ووفد من أعيانهم وفد على رئيس البلدة وطلب إليه أن يحتج باسم أهل المدينة إلى مبعوثها في الأستانة على صاحب المقالة وعلى الجريدة نفسها. فصدع رئيس البلدية بالأمر. وحسب الكاتب المختبئ وراء توقيع الرشاش وبالاً أن يكون شاتم جيران حبيب الله والطاعن بسكان مدينة رسول الله. ولما كان المؤيد الأغر هو الجريدة الإسلامية الكبرى أثبتنا فيه هذه الكليمات لتكون شجاً في حلق الرشاش ومؤازريه”.
أ.د سيد علي إسماعيل
أستاذ الأدب المسرحي بكلية الآداب جامعة حلوان – جمهورية مصر العربية
عضو اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة (المشاركين/المساعدين) بالمجلس الأعلى للجامعات