الطفل بين اللعب المسرحي و صراع الحياة / د. لعـزيـز محمد
الصراع المسرحي دعامة أساسية لحقوق الطفل
أشارت كل من اتفاقية حقوق الطفل التي أصدرتها الأمم المتحدة في 20 نونبر 1989 لفائدة كل أطفال العالم، واتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب والمعتمدة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة والمنشورة بالجريدة الرسمية عدد 4440 بتاريخ 19 ديسمبر 1996 إلى مختلف أصناف الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الطفل بحكم وضعه الهش وصغر سنه ومن تلك الحقوق :أولا حقوق البقاء: كحقه في التغذية والسكن اللائق والرعاية الصحية ورعاية الوالدين أو الأوصياء عليه.ثانيا:حقوق النمو التي تشمل التغذية والتعليم والرعاية الصحية والترفيه .ثالثا:حقوق المشاركة مشاركة الطفل في اتخاذ القرارات التي تهمه وحرية التعبير ، وحرية الانضمام للجمعيات . رابعا: حقوق الحماية ضد الاستغلال الجنسي والمعاملة السيئة والتعذيب .
هكذا أولت كل تلك الاتفاقيات إلى ضرورة ضمان حقوق الطفل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودعت إلى ايلاء الاعتبار لمصالح الطفل الفضلى ويهمنا منها في ما نحن بصدده ما تشير إليه المادة 13 التي تؤكد على أن” للطفل الحق في التعبير ويشمل هذا الحق جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها دون أي اعتبار للحدود سواء بالقول أو الكتابة أو الطباعة أو الفن ..” وفي المادة 17 ” تعزيز رفاهية الطفل الاجتماعية والروحية والمعنوية وصحته الجسدية والعقلية” وذلك “بتشجيع وسائط الإعلام على نشر المعلومات والمواد ذات المنفعة الاجتماعية والثقافية للطفل ..” وتتحدث المادة 24 عن حق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي على المستويات الجسدية والنفسية والعقلية و المادة 29 تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها ، وتدعو المادة 31 كل الدول الموقعة على الاتفاقية إلى ضمان حق الطفل في الراحة ووقت الفراغ ومزاولة الألعاب وأنشطة الاستجمام المناسبة لسنه والمشاركة بحرية في الحياة الثقافية والفنية”..
هذا على مستوى الصكوك والمواثيق المصادق عليها أما على أرض الواقع فمما لا شك فيه أن هناك ملامح انخراط الدولة والمجتمع المدني في الإصلاح المجتمعي الخاص بالطفل، وتسير كل دواليب الدولة من المدرسة بمناهجها ومقرراتها وأنشطتها، ووسائل الإعلام بمختلف مستوياتها، والجمعيات وعموم الناس إلى محاولات النهوض بحقوق الطفل، غير أنه مع ذلك يجب أن نسجل أن الطفل هو أكبر ضحية لضعف حضور دولة الحق والقانون، فضعف الدولة سببه استمرار الفقر وانتشار الأمراض والمخدرات والأمية والجهل والإرهاب والابتزاز وغير ذلك وعلى العكس من ذلك فهذه الاختلالات هي سبب ضعف الدولة، هي إذن معادلة يترابط فيها الطرفان لابد فيها من إقامة التوزان بينهما في الآن نفسه، ولأننا لا نساءل في هذه الورقة موقف القوانين والأخلاق والحقوق والواجبات أمام انتشار المظاهر القبيحة سواء الظاهرة منها أو المستورة والخفية، لأن ذلك مجال مؤسسات الدولة الرسمية ومؤسسات المجتمع ما دامت أبعادها اجتماعية واقتصادية وثقافية وتربوية، لنقصر همنا هنا على دور الفنون عموما والمسرح خصوصا على محاربة الظواهر المشينة وغرس قيم المواطنة ما دام ذلك طموح مشروع نحو ترسيخ الديمقراطية المبنية على احترام حقوق الفرد وعلى رأسهم الأطفال وحفظ كرامتهم ، خصوصا ونحن نعتقد أن المسرح ارتبط ارتباطا وثيقا بتعزيز الممارسات المواطنة والثقافة المواطنة عن طريق محاربة كل الاختلالات المجتمعية سواء في ذلك البسيط منها أو المركب: من حوادث السير كمظهر مجتمعي مختل إلى سرقة المال العام مرورا بالكذب والرشوة وخيانة الأمانة والسرقة وغيرها كثير، على اعتبار أن تلك الاختلالات والمظاهر شكل من أشكال المس بالمواطنة وانتهاك قيمها.
والفنون بعامة ومنها الفن المسرحي بخاصة شأنه شأن القوانين الإنسانية الطابع، يسعى إلى تخليق الحياة العامة والخاصة، ليس عن طريق تقديم أجوبة نهائية وحاسمة ولكن عن طريق طرح الأسئلة وخلخلة الثوابت وتسليط الضوء على الموضوع المرغوب معالجته، لأن المسرح من وراء كل ذلك يسعى إلى أن يعلم الطفل الحياة، الحياة الجماعية والتشاركية ويتعلم منها أيضا مهارات الإنصات وتبادل مشاعر المشاركة الوجدانية والتعاون والعطف وضبط السلوك وغير ذلك مما يستدمجه في ذاته من أجل تدبير الاختلاف في المجتمع الإنساني الحديث سعيا منه إلى تحقيق الذات وترسيخ حقوقه في ظل مجتمعنا العربي والمغربي جزء منه حيث سيادة العنف بكل أشكاله ضد أطفالنا ، نعم يعيش أطفالنا منذ ارتباطهم الأولي بالمدرسة وربما قبل داخل الأسرة نفسها بأشكال من العنف المباشر وغير المباشر، الظاهر والمستتر المبرر أحيانا بمبررات يعتقد عالم الكبار أنها تندرج في التربية ولكنها لا تعدو أن تكون ذات مرجعيات مجتمعية في الأصل ، ويبلغ هذا العنف في الكثير من الأحيان درجات من الاستبداد المطلق في التربية والتعليم عبر مناهج أسفرت عن وجهها التنكيلي بغير الممثلين فضلا عن الترهيب والإقصاء والإخضاع والتركيع للسلطة الاستبدادية للمدرسة والأسرة فضلا عن إهانة عالم الكبار في الشارع والأعلام وغيرهما. إن هذا العنف الممارس على الأطفال يكشف الوجه الأسود لأشكال الإقصاء الموروث المعتدي على حرية الأطفال والنافي لذواتهم الأمر الذي يفرز عند بعضهم أشكالا من العنف المضاد واعتناق فكرة مواجهة عنف الكبار بعنف مجتمعي تجلوه أشكال من الانتقام ضد الأقران وضد الممتلكات أبرز مظاهرها تلك الكتابات وذلك الحفر على الطاولات والجدران وكل مظاهر التخريب المتعمد في الشارع كما في المدرسة. وهذا التسلط والقهر والعنف الممارس على الأطفال يكشف عن طبيعة وسمات بنيات التخلف التربوي والاضمحلال الاجتماعي والسياسي والتي تشكل في مجملها عوائق أساسية أمام تحرر الطفل وتنمية قدراته. ولعل الانتهاك الظالم لحق الطفولة في عيش مرحلتها وكل أشكال القهر والإدلال والتعنيف كل ذلك وغيره كان وراء جعل الطفل المغربي يتصل بالعالم وهو وجل هياب مما حوله من أشياء ضخمة وأشخاص كبار، وهي إن لم تكن تخيفه وترهبه فهي تحيره ، لذا نجد الطفل إلى مرحلة ما قبل البلوغ يخاف من كل ما هو أكبر منه ويخاف من المظاهر غير المألوفة من حيث الحجم واللون والتكوين (1). كل ذلك بسبب قلة تجاربه الحياتية، وضعف تكوينه ونقص خبراته، الأمر الذي يستوجب تنشئته وتربيته أمرا ضروريا من أجل تبديل ثقافة الخوف التي تملكته بمنحه أسباب الحرية عن طريق اللعب المسرحي، وبواسطة هذه الممارسة الفنية التي تعد من منظور علماء النفس وعلماء التربية أساس اكتشاف شخصية الطفل وذكائه واضطراباته من أجل تنمية مختلف الأبعاد الثقافية وتصحيح تنشئته الاجتماعية التي قد تعرف بعض الانحرافات من قبيل الإدمان والتطرف واللاتوازن العاطفي، خصوصا وأن باقي المؤسسات المجتمعية تتعامل مع جوانب مخصوصة من جوانب شخصيته في حين أن المسرح يتعامل مع تلك الشخصية على أنها كثلة واحدة تتكون من جسد وعقل وفكر ووجدان ومشاعر وعواطف وأحاسيس ومزاج ..
وإذا كانت الممارسة المسرحية أداة قوية لترسيخ كل القيم الأساس والتي منها قيمة الخير التي توجه تفكير الطفل على نحو منطقي وقيمة الحق التي تحدد سلوكه على نحو أخلاقي، وقيمة الجمال التي تجعله يميز بين الجميل والقبيح في الطبيعة كما في الفن (2)فإننا نعتقد أن قيمة الحرية تظل المدخل الطبيعي لباقي القيم ليس باعتبارها أهم القيم وحسب ولكن لأنها أهم حق من حقوق الأطفال من جهة، وأهم ميسم الممارسة المسرحية نفسها من جهة ثانية، ولأنها الأداة الأساسية لتحريض كل ملكات الطفل بدءا بالملاحظة وانتهاء بالإنتاج والإبداع مرورا بالتأمل والتفكير لتشكيل الموجودات تشكيلا جديدا، والمسرح نفسه يحرض على الحرية في التعبير عندما يسمح للطفل بالتعبير عن دواخله، وبالتالي تملكه قدرات تأثيرية في الآخرين وتوجيههم وتجريب مواقف الحياة التي يعيشها وخوض غمارها باحثا عن حلول للمشاكل التي تعترضه أو التكيف مع وضعيات جديدة. وكما ينمي المسرح خيال الطفل فإن حرية الخيال هي من صميم العملية الإبداعية، ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن المسرح بلا قيود فتوفيق الحكيم على سبيل التمثيل وهو المسرحي المعروف يعد المسرح النوع الأدبي الأكثر صعوبة إذ يجد المسرحيون أنفسهم أمام طائفة من القيود الصارمة والعوائق الكثيرة تجعل من فعل الحرية الإبداعية هامشا ضيقا. فالمسرحي ليس حرا في اختيار الموضوع وليس حرا في طريقة معالجته وليس حرا في الحيزين الزماني والمكاني وليس كل موضوع صالحا للتأليف المسرحي (3).
ولئن كان الاتفاق بالإجماع حول كون الحرية أمرا ضروريا بالنسبة للطفل، فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك هو اللعب، بل مكان ذلك اللعب والذي يجعل من الطفل آلة متحركة يستفيد خلالها من كل الوظائف المعروفة للعب والمتراوحة بين الوظائف البيولوجية والاجتماعية والثقافية وغيرها، خصوصا وأن اللعب هو في الآن نفسه ” استكشاف لما هو مألوف، ومران على ما أصبح تحت سيطرتنا بالفعل، وعدوان ودي، ..واهتياج للاشيء، وسلوك اجتماعي غير محدد بنشاط لوعي مشترك أو ببناء اجتماعي وادعاء لا يقصد به الخداع: هذا هو اللعب”(4) عند الأطفال الذي يختلف عن لعب الكبار، فإذا كان هؤلاء الآخرون يلعبون لمجرد اللعب، فإن الأطفال يلعبون لشيء أكثر من مجرد اللعب بكثير (5) ولقد فطن لذلك الفلاسفة القدامى والجدد على السواء، مثل أفلاطون وأرسطو وفلاسفة عصر الأنوار والمحدثين منهم، والذين سجلوا القيمة العملية للعب وفوائده الجمة من تم دعوتهم إلى تشجيع الأطفال على اللعب، لأنه يحقق كينونة الطفل، إذا ما تجاوز الراشدون المراقبة المباشرة الزجرية، وكانوا أكثر قربا من المراقبة التشجيعية، والطفل في هذه الحالة يستطيع الحصول تلك المعارف والمعلومات بطريقة أكثر ترابطا إذا استطاع دمجها في عالمه اللعبي بل إنه يستطيع توظيف تلك المعارف ببعض الوسائل الفنية كالرسم والتمثيل والتعبير الشفهي (6). لا غرابة إذن أن يعتبر فريديريك فون شالر يعد” اللعب أصل كل الفنون ” (7) وعلى رأسها المسرح الذي يعتبر بالنسبة للطفل نشاطا ولعبا، أي أنه الحياة ذاتها به يكتشف ذاته والعالم وطريقة الحياة، لذلك كان المسرح أقرب الفنون إلى الطفل لأنه يشعره بالبهجة والفرح، ويزوده بالمعرفة والعلم، على عكس المدرسة التي تعتمد حشو أذهان المتعلمات والمتعلمين بركام من المعارف تقدم لهم بطريقة تقليدية فجة ومنفرة، بينما بواسطة الفن والمسرح خصوصا يستطيع الطفل أن يصبح بالتالي فنانا ومبدعا حينما تحترم حريته ويتم تدعيمها على اعتبار أن اللعب هو المدخل الطبيعي لكل ممارسة مسرحية، خصوصا والمربون يعلمون أن الطفل يرتبط بالعالم عن طريق اللون والضوء والصوت وهي كلها مداخل يوفرها المسرح بشكل مبهر وجذاب فعلى مستوى اللون يشعر الأطفال بالبهجة والسرور حيال الألوان الفاقعة والحارة وتتحرك أجسادهم بالقوة على إيقاع الأغاني والموسيقى وتلعب الأضواء بانعكاساتها دورا كبيرا في مشاعرهم. وعلى عكس ما يذهب إليه البعض من أن اللعب لا يعدو أن يكون تفريغا لطاقات زائدة، يعد اللعب المسرحي أكثر النشاطات جدية وأكثرها فاعلية في نمو الطفل وتحقيق حاجاته الجسدية والنفسية والعقلية .
وإذا كان الأمر كذلك فمن الأجدر بنا هنا أن نتساءل عن الحقيقة التي يشتغل بها المسرح بالنسبة للأطفال؟ أي عن الطريقة التي يحقق بها المسرح واللعب المسرحي كل تلك الفوائد المذكورة أعلاه، وعلى الخصوص منها الوسائل التي يستطيع بها أن يتعرف حقوقه – موضوع ندوتنا اليوم – ويحقق بها حقوقه ؟
للجواب عن هذه الأسئلة نجيب:
ـ يتكون مسرح الطفل مثله مثل مسرح الكبار من كل العناصر والمكونات، و المعروفة عند النقاد بمكونات البناء الدرامي : شخصيات أحداث حوار زمان مكان إيقاع صراع عقدة الجمهور ،الممثل، الحكاية، إلخ
ـ ومع أننا نؤكد أن كل هذه العناصر تعد على قدم المساواة من الأهمية في البناء الدرامي لكل مسرحية إلا أننا نود التركيز على تمييز عنصر الصراع باعتباره من وجهة نظرنا العمود الفقري للفعل الدرامي داخل المسرح وأهم العناصر الفنية المشكلة للبناء الدرامي. وهذا ما يؤكده العديد من الباحثين الذين يعتبرون “الأزمة” أو الصراع جوهر المسرحية، أو خطها الأساس بل يذهب بعضهم إلى تسمية المسرح ب” فن الأزمات” (8). وهذا ما تؤكده نشأة المسرح نفسه الذي نشأ عن الطقوس الدينية والاجتماعية سواء عند قدماء المصريين أو عند الإغريق، وهذه الطقوس نشأت عن رغبة الإنسان في مشاركة الآلهة مشاعرها وقدراتها، وعن طريق التعارض بين الآلهة الطيبة /الخيرة والشريرة نشا الحوار الدرامي الحي (9)
ـ حتى بالنسبة لؤلئك الذين يعتبرون الحوار الدرامي أهم عنصر في المسرحية فإنهم لا ينكرون أنه يتميز عن الحوار في باقي الممارسات الإبداعية الأخرى، بكونه بالضرورة حوارا مصاغا بشكل صراعي بين متعارضين ومتصارعين والمسرح نفسه نشأ من التعارض والصراع بين الخير والشر، بين السعادة والشقاء، بين الصحيح والخاطئ، الإثبات والنفي، الكمال والنقص، القدرة والعجز، القلق والسكينة ..وغير ذلك من الثنائيات التي تؤكد أن الحوار الصراعي تتولد منه باقي العناصر.
ـ لقد عمد المسرح على امتداد تاريخه إلى نقل المواجهة الإنسانية مع بعضها أو مع قوى علوية فوق الركح وجعلها تتجسد متحركة أمام الجمهور ناقلا صراع الحروب وصراعات المصالح والقيم والتمزقات الاجتماعية والسياسية والذاتية والثأر والانتقام وغير ذلك من الأنماط التي شكلت لحمة العمل التراجيدي، بل إن ذلك لم يغب عن الأعمال الكوميدية حيث نعتر عند آرسطوفان على مشاريع شاذة وغريبة لشخص وحيد قرر تحقيق سعادته بمواجهة حماقة مجتمع بكامله، وهو ما يخلق دينامية كبيرة في كوميديات هذا المسرحي الفذ. وسواء تعلق الأمر بالفنون الدرامية الأصيلة كالتراجيديا والكوميديا وما تولد عنهما أو ما ظهر في عصور لاحقة إلى اليوم يظل الصراع أساس كل بناء درامي، مادامت الممارسة المسرحية معادلا فنيا للحياة. والحياة نفسها ليست سوى سلسلة صراعات دائمة بين الوجود والفناء، بين الوجود والعدم، بين الخير والشر.لقد جسد المسرح منذ وجوده هذه التقابلات المرافقة للوجود الإنساني بأشكال مختلفة ومتباينة تتماشى والصيرورة الفكرية والاجتماعية للواقع والحياة، فنجده تارة صراعا ميتافيزيقيا أو غيبيا أو سماويا، وتارات أخرى أرضيا وإنسانيا .
ـ وتجب الإشارة هنا أن الصراع في المسرح لن يتصف بهذه الصفة إلا إذا تجاوز الصراع الجسدي. ففي هذه الحالة لا يتجاوز هدفه غير الرغبة في الانتصار، أما الصراع الدرامي فإنه يروم كسر إرادة الآخر/العدو وهو في هذه الحالة يصبح ذا مستوى إنساني لأنه يجعل المتفرج يميل ويتعاطف أو يكره ويحقد، ولا حياد أمامه في المسرح كما في الحياة.
ـ إن الصراع في المسرح له تمظهرات متباينة أبرزها اثنان:
الأول: حين يكون صراعا بين كيانات ملموسة هو هنا صراع بسيط قد يلاءم مراحل الطفولة الأولى أو المبكرة .
الثاني: حين يكون صراعا بين إرادات وقيم ورؤى وأفكار وفلسفات هو هنا صراع مركب ومعقد. وهذا التعقيد والتراكب تحدد ملامحه الأحداث كما ترسم معالمه الحكاية عن طريق الإقناع والحجاج والبرهنة وليس التعاطف والتحيز. ومن نافلة القول التأكيد على أمرين اثنين متلازمين هنا : الأول هو أن أعمق الصراعات التي تشد المتفرجين الصغار منهم والكبار على السواء هو صراع الإرادات والتي تجعله يعيش لحظات توثر عاطفي و/أو عقلي تجعله يرى الحقيقة هنا أو هناك، توتر يتميز في المسرح بديمومته قد يتقلص و قد يتمدد، قد يكون خافتا وباهتا، وقد يشتد ويصل ذروة الانفجار، غير أنه موجود وحاضر في كل لحظة وفي كل مشهد، فسيرورته تمثل لحمة العمل والضامن لوحدتيه العضوية والموضوعية. وأما الأمر الثاني هو أن صراع الإرادات والأفكار هنا يجب أن يكون على دراجات ومستويات تتلاءم والمستويات العمرية للجمهور المتلقي بمعنى التدرج في مدارج متناسبة والعمر العقلي للأطفال.
إننا حين نستقصي أشكال الصراعات في الأعمال الدرامية في مسرح الصغار نجدها تتراوح بين الأنواع التالية:
ـ شخصية واحدة تواجه جمعا /جماعة وهذا النوع من الصراع كثير في المسرح الكلاسيكي حيث نموذج البطل التقليدي الذي يصارع الآلهة أو أنصاف الآلهة أو الملوك. بل إن هذا النمط موجود في بعض النماذج المعاصرة حيث تواجه الشخصية العالم والوجود مما يصح نعته بالبطل الإشكالي كتوصيف نفتبسه من جورج لوكاتش بخصوص حديثه عن البطل الروائي.
ـ المبارزة le duel وهي الشكل المفضل للمواجهة الدرامية، نادرا ما نجدها جسدية (هاملت لشكسبير وcid لكورني ..)غير أنها في الغالب ما تكون لغوية ومواجهة لفظية، والمبارزة لا تقابل بين متحاربين فقط، بل بين أب وأم وأبنائهما، أو بين أقارب حميمين الزوج والزوجة سيد وخادمه والمتغير الساس هو “الحربّ والمواجهة التي تضع طرفين متبايني المصالح والقيم كخصمين. ( نصنف هنا صراع عبد السميع والخامسة كزوجين لكل منهما رؤيته للحياة والواقع ولكل منهما قيمه الخاصة في مسرحية عبد الكريم برشيد اسمع يا عبد السميع).
ـ التمزق le déchirement /التوثر والاضطراب. هذا النوع من الصراع يتفرد عن باقي الصراعات بكونه داخليا يبنى بين مقامين نفسيين كلاهما درامي ويمكن أن نصنف فيه النوعان التاليان:
الأول: الاختيار الصعب le dilemme أكون أو لا أكون، أنتقم لأبي أو لا؟ أسامح أو أعاقب، ولهذا النوع دور كبير في إغناء وإثراء المونولوجات بصفة خاصة، إن الذات في هذا النوع من الصراع تكون مجبرة على اختيار واحد من بديلين كلاهما في غير مصلحتها.
الثاني: الاستلاب l’aliénation وهذا المصطلح المستجلب من حقل الفلسفة يعتبر في علم النفس حالة ابتعادية عن الذات وعن الآخرين، بينما يقصد به في الفلسفة كما هو الأمر عند هيجل :الاختلاف عن الذات من أجل إعادة إدراكها ومعرفتها، والإستيلاب في المسرح كشكل صراعي يعبر عن وعي مفقود عند شخصية ما أو وحدة معينة، كما قد يعبر عن يأس جماعة ما. بينما يعني هذا المصطلح في السوسيولوجيا السياسية حسب ماركس مثلا أن الاغتراب عن الذات يرتبط بسياقات سوسيو اقتصادية لاستغلال، هكذا يكون العامل مستلبا لأنه لا يعترف في الإنتاج بعمله الذي ليس ملكا له.
ـ والى جانب هذه الأشكال الصراعية الكبرى البارزة والواضحة في الأعمال الدرامية نجد صراعات أخرى خفية ومضمرة ومتفرعة عن الأولى و تتخذ هي الأخرى شكلين مختلفين هما:
1 ـ التكريس incarnation ونجده كثيرا في المسرح ذي الطروحات الفكرية، حيث يعمل هذا المسرح على تكريس أفكاره في أنماط من الشخصيات يمنحها وجودا وصوتا، فإلى جانب الصراع الظاهر والجلي بين الشخصيات والعوامل المتقابلة، يكون هناك أيضا تقابلات أخرى بين قانونين أو قوانين متضادة مثل قانون أرضي يقابله آخر سماوي أو خيالي، أو واقعي مقابل حالم وغير ذلك الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن الصراع الدرامي لا يمر عبر البعد التمثيلي الاستحضاري المتداول، والممنوح للشخصيات بل إنه – وهذا هو الأساس – يرتبط في الغالب بالجوانب الوجدانية المكرسة لمضاعفة ما هو ايديولوجي بواسطة الأثر الذي يتجسد في تباين الأصوات داخل المسرحية.
2ـ إلى جانب هذا الصراع الخفي نجد صراعا آخر خفي هو الآخر يعرف بالصراع الفرعي أو المتشعب ويظهر هذا النوع بتحليل الحبكة الدرامية، غذ تلعب هذه الصراعات الفرعية حين انكشافها دورا كبيرا في تعميق الصراع الأصلي ويتم القبض على هذا الصراع من خلال المعاكسين (10) les opposant فهم الذين يقفون وراء الصراع الفرعي وهو الذين يمنعون أو يحاولن منع تحقيق مشروع ما، وهو الصراع الذي يبرز طبيعة هؤلاء المعاكسين ويبرز أيضا أبعادهم ورؤاهم المعارضة.
هذا الإطناب النظري المتداول في المرجعيات الفكرية الغرض منه هنا هو التأكيد على أن الصراع الدرامي وسيلة عميقة يجب استغلالها في مسرح الطفل بشكل واع كما نتحكم في ما نود تقديمه له، ذلك لأن المسرح يعد مصدرا قويا للإبهار، وأداة قوية لتحريك المشاعر والأحاسيس، من تم كان التحكم في الصراع المسرحي من القضايا الحساسة التي تمس جوهر الطفولة وتنمية طاقاتها وحاجاتها، ولعل هذا الأمر هو ما يميز بين المخرجين المشتغلين على وبالطفل في المسرح، إذ نجد بعضهم يتلاعبون بتلك المشاعر والعواطف ويصعدون منها في حين يدرك آخرون مخاطر التلاعب بها فلا يصعدون منها إلا بمقدار، ويتناولون مواضيع مسرحية بالهدوء والروية اللازمين بعيدا عن إرعاب وتخويف الجمهور الصغير، لأن ذلك من شأنه تربية الخوف والارتجاف في نفسياتهم الهشة أصلا، الأمر الذي يكون له الأثر السيئ و البعيد المدى في خلق شخصيات غير متوازنة. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن أكثر المسرحيات تأثيرا في الأطفال الصغار هي تلك التي تركز على الناحية النفسية للشخصيات بالدرجة الأولى، وعلى الناحية الاجتماعية بالدرجة الثانية، لا غرابة إذن أن تترك هذه النماذج آثارا قوية في جمهورها، بل إنها تمثل دافعا قويا للتمثيل، وتقمص أدوارها عند بعضهم. فقدرة عنصر الصراع في المسرح تساعد الطفل على اكتساب الخبرات واختبار المواقف ومعالجة المشاكل من خلال التماثل بالواقع، الأمر الذي يؤدي إلى اكتشاف الحقيقة والواقع والحياة. إن تزويد الأطفال بالخبرات اللازمة لمواجهة مشاكل الحياة وتجاوزها –علما أن مشاكل الحياة متطورة ومتغيرة – يتم عن طريق نقلها إلى الخشبة وتمثيلها ومناقشتها مما يجعل تفكير الطفل متحفزا ويقظا، ويجعله في بحث دائم عن الحلول الواردة لهذه المشاكل.
فالأغلبية الساحقة –إن لم نقل كل المسرحيات الموجهة للأطفال – تسعى إلى أن تنتصر الفضيلة على الرذيلة، وينتصر الخير على الشر، الأمر الذي توضحه ردود أفعال الجمهور الصغير ضد المفسدين والأشرار حين نسمع صرخاتهم أثناء صيرورة العرض المسرحي أو في نهايته بعبارات معاتبة أو منتقصة أو مزدرية، أوحين نسمعهم يوجهون النصائح أو يصرخون محذرين البطل الخير من الدسائس التي يحوكها الأعداء الأشرار ضده، ومنبهينهم إلى ما سيؤول إليه مصيرهم إن هم أقدموا على خطوة من الخطوات.
وقد يحدث أن يقبل المؤدون خلال المسرحية الرد عن أسئلة الجمهور وتدخلاتهم، وينظرون إلى مشاركة الجمهور الصغير في الحوارات، وتعقيباته على الأحداث وتدخلاته في سيرورة الحكاية وأحداثها مطلبا يعزز نجاحهم في تحقيق الغايات التي يقصدون إليها، وهذا النمط التواصلي يعكس قدرة المسرح على لحم المواقف والآراء بالقبول أو الاعتراض أو بتبني مشاعر مثل الحب والعدل، والصدق، وكراهية أخرى مثل الغدر والنفاق والكذب وغيرها، الأمر الذي يجلي جماليات الفعل التواصلي في مسرح الطفل بشكله التلقائي والعفوي. وما لم يتحقق ذلك سيظل الجمهور غريبا سرعان ما ينصرف عن المتابعة ويعيش في عالمه الخاص، وهو ما يحدث حين يجهل فريق المؤدين حقيقة الطفولة، وينتجون مسرحا لا يمت للطفولة وخصوصياتها بصلة بالرغم من لجوئهم في بعض الأحيان إلى الأطفال كمؤدين. وتسقط الكثير من المسرحيات الطفلية بموجب انتصارها للفضيلة والخير منذ مطلعها، لأنها مسرحيات لا أفق انتظار فيها، تتحول مثل تلك المسرحيات إلى دروس وعظية وإرشادية تجعلها في المسرح دروسا رتيبة ومملة، على العكس من ذلك حين تكون خواتم المسرحيات تتويجا لانتصار الفضيلة بمقدمات سلسة تجعل الطفل المتفرج يتقمص دور شخصية البطل لأنه معجب به، وينفر من الأشرار مهما كانت طبيعة انتصاراتهم و مكتسباتهم بحكم طبعه الميال نحو الخير والفضيلة .
هكذا يكون الصراع عماد عملية التواصل في مسرح الطفل، بل هو من العمليات المركبة والمهمة في فعل التأثير على الطفل المتلقي ، ففوق الركح توجد أولى أشكال التواصل تعقيدا تتمثل في خطين الأول أفقي بين الممثل سواء أكان طفلا أو راشدا والطفل المتلقي، والثاني عمودي تربط بين الطفل أو الراشد الممثل والشخصية التي يتقمصها، علما أن التقمص”عملية نفسية تتمثل بها الذات مظهرا من مظاهر الآخر، أو خاصية من خواصه، أو صفة من صفاته، وتتحول كليا أو جزئيا وفق أنموذج هذا الآخر..” (11) والطفل لا يلعب ويتقمص – إن تركت له حرية الاختيار – إلا الشخصية المحبوبة النموذجية من منظوره، والمقتنع بها وفق حاجاته الخاصة والتي تربطه بها علاقات تكميلية لذاته أو تعويضية لما يشعر به اتجاه ذاته، وأما حين ينحاز جهة الأشرار فإنه يسعى إلى أن يمايز في ذاته بين الأنا الطفل والأنا الشخصية أو الدور الذي يتوق من خلاله إلى الفهم العميق للسلوك البشري .
المسرح دائرة صراعات بواسطته يستطيع الأطفال الوصول إلى حياة أحسن، وفي المسرح أيضا يتعلم الأطفال التسامح والتعايش حين يقبلون بفكرة الصراع، ويقبلون بالتعددية، ولئن كان الصراع مفهوما أساسيا في المسرح فإن ما يتعلمه الأطفال فيه يجعلهم يتشبعون بها كي يمارسوها فعليا في حياتهم اليومية .لأنه في المسرح تتعدد الرؤى والأفكار والمواقف واللغات وهي الفكرة التي تسهم في الدفع بالأطفال إلى تبني قيم الديمقراطية وقبول الآخر ورفض الفكر الواحد والرأي الوحيد، فالفكر المسرحي يقود المجتمعات نحو آفاق المدنية المتطورة عندما يستغل الطفل الصراع في المسرح لتجسيد صراعه هو ضد الكبار وضد عالم الكبار ويتعلم تحقيق ذاته انه – باختصار – يتعلم الحياة من خلال الصراع المسرحي.
** الهوامش:
1/ وفاء إبراهيم “الوعي الجمالي عند الطفل” الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002 ،ص: 16
2/ نفسه ص: 17
3/ هذا ما يذهب إليه العديد من المسرحيين منهم مثلا توفيق الحكيم انظر كتابه “فن الأدب” ص: 142 و143 علما أن الحرية الإبداعية بالنسبة للطفل تتأكد من خلال علماء النفس إلى أن الطفل مرهف الإحساس طليق الخيال لا يتقيد بقيود المنطق والمعارف العقلية …………….
4/ سوزانا ميلر” سيكولوجية اللعب” ترجمة حسن عيسى، عالم المعرفة العدد 120 ص: 298
5/ نفسه، ص: 298
6/ انظر جون ديوي – ايفلين ديوي “مدارس المستقبل ” ص: 163
7/ نفسه ص: 13
8/ بوسفيلد ” فن الكاتب المسرحي” ترجمة دريني خشبة، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ص: 124
9/ عبد الحميد حنورة” الأسس النفسية للإبداع الفني في المسرحية” دار المعارف، القاهرة الطبعة 2 1990 ص: 111
10/ انظر النموذج العاملي كما طوره ايتيان سوريو وكريماس وآن اوبيرسفيلد التي عدلت من مقترحات كريماس كي
توائم الحقل المسرحي
11/ سلسلة التكوين التربوي، ع 8، سنة 1998، ص:73